Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإيرلندية آن غريفن تطرح سؤال الشيخوخة في غياب الشريك

رواية "نهاية المطاف" تكشف اعطاب المسنين وعزلتهم في أوروبا المعاصرة

الشيخوخة بريشة لورنس بوستوخ (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

تصوّر رواية "نهاية المطاف" للكاتبة الإيرلندية آن غريفن، من خلال شخصية موريس هانيغان والشخصيات الأخرى، أعطاب الشيخوخة في المجتمع الغربي، خاصّة في غياب الشريك، وما يعتورها من الإحساس بالعجز والمرض والأرق، على المستوى الجسدي، ومن شعور باليأس والفقد والوحدة والفراغ، على المستوى النفسي.

الشيخوخة وأعطابها في الغرب الأوروبي هي السؤال الذي تطرحه رواية "نهاية المطاف" للروائية الإيرلندية آن كريفن، الصادرة عن "دار الرافدين"، بترجمة فاطمة نعيمي. وهي "رواية جميلة، حميمة، حزينة، موجعة، ومروية بسلاسة"، على ما كتبت لويز بيني في نيويورك تايمز، وسبق لها أن فازت بجائزة المؤلّف الواعد الإيرلندية عام 2019، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة دبلن الأدبية عام 2021، وأُدرِجت ضمن القائمة القصيرة لجائزتي جون ماكغاهيرن السنوية والجمعية الملكية للأدب.

أمّا الراوي، فهو موريس هانيغان، الثمانيني العامل في تربية الماشية وتصنيع الألبان في قرية رينسفورد، من أعمال مقاطعة ميث الإيرلندية، الذي يقيم وحيداً في منزله، بعد رحيل زوجته سيدي، يجترع آلام الفقد، ويعاني  فراغ الوحدة. وأمّا المرويّ له، فهو ابنه كيفن، الصحافي المقيم مع أسرته الصغيرة في ولاية نيوجرسي الأميركية، بقرينة تكرار اسمه أو ضمير المخاطب العائد له كلازمة في المتن الروائي. والمفارق أنّ بين الراوي والمرويّ له آلاف الأميال، هي المسافة الفاصلة بين إيرلندا والولايات المتّحدة الأميركية. ومع هذا، يتّخذ الأب الشيخ من ابنه الشاب البعيد مستمعاً يُفضي إليه بذكرياته ولواعجه وهواجسه، فيتخفّف من ذاكرة مثقلة بالأحداث، ويتحرّر من شعور مركّب بالذنب. وكأنّنا إزاء مريض نفسي هو الأب، ومعالج نفساني هو الإبن، ووسيلة علاج هي السرد.

أمّا المرويّ فهو المتن الروائي الذي تتجاور فيه الذكريات المستعادة والوقائع المعيشة، وتتجادل فيما بينها لتروي الحكاية وتبني الشخصيات. وفي إطار التجاور والتجادل، ومن خلال شخصية الراوي العجوز، تتمظهرأعطاب الشيخوخة، الجسدية والنفسية، من قبيل: العجز والمرض والأرق والقلق والفقد والوحدة والفراغ واليأس وغيرها. وفي مواجهة هذه الأعطاب، يكون على بطل الرواية أن يختار بين التعايش مع جحيم الشيخوخة المتواصل ومغادرته، على حدّ قول العجوز الأخرى هيلاري بروتون، وقد فقد كلٌّ منهما شريكه، وغدا يرزح تحت وطأة الوحدة القاتلة والفراغ الكبير. وهو ما يحدث في نهاية الرواية.

  ذكريات ووقائع

 في "نهاية المطاف"، يروي هانيغان، خلال أربع ساعاتٍ وأربعين دقيقة، من مساء السبت 7 يونيو (حزيران) 2014، في حانة الفندق الذي يملك نصفه، ذكرياته الممتدّة على 84 عاماً، هي عمره الطويل، والموزّعة على شخصيات عزيزة على قلبه، يتعالق معها، بشكلٍ أو بآخر، هي المروي عنه. ويروي وقائع معيشة، تقتصر على مشاهداته وأحاديثه في الحانة، خلال الساعات الأربع والدقائق الأربعين التي أمضاها فيها، ويروح يتنقّل بين النمطين السرديين في حركة مكّوكية، وإن كانت مساحة الذكريات هي الأكبر، بطبيعة الحال. وبذلك، يقتصر زمن السرد على أربع ساعات ونيّف في حين يمتد زمن الأحداث على ثمانين عاماً ونيّف. ومن خلال هذه العملية، يتمّ تظهير شخصية الراوي المحورية والشخصيات الخمس الأخرى المتعالقة معه. وإذا كانت الشخصيات المرويّ عنها التي تنتمي إلى زمن الأحداث تَمَتُّ بصلات قربى إلى الراوي وتحفر عميقاً في داخله، فإن الشخصيات الأخرى التي تنتمي إلى زمن السرد هي شخصيات عابرة في حياته وتقتصر العلاقة بها على العمل أو الخدمة.

أمّا المروي عنهم في "نهاية المطاف"، فهم، على التوالي: أخوه البكر توني، طفلته الميتة مولي، شقيقة زوجته نورين، ابنه كيفن، وزوجته سيدي. وجميعها راحلة باستثناء الابن البعيد بدوره عن الأب الراوي، ما يجعل وطأة الوحدة أثقل، وحجم الفراغ أكبر، ووجع الفقد أقسى. ومن الجدير بالذكر أن الروائية تخصّص لكلٍّ منها فصلاً تتناول فيه العلاقة بينها وبين الشخصية المحورية، من دون أن يقتصر عليها وحدها. بل قد تحضر شخصيات أخرى فيه، ذلك أن محور الروي في "نهاية المطاف" هو الشخصية المحورية، وحضور الآخرين، بمن فيهم أولئك الذين تتصدّر أسماؤهم الفصول، مرهون بتعالقهم مع هذه الشخصية المحورية. وتصدّر كلّ فصل بتوقيت السرد باليوم والساعة والدقيقة، وباسم الشخصية التي يشرب الراوي نخبها، وبنوع الشراب، ما يقيم نوعاً من التفاعل بين التصدير والفصل، بين العتبات النصّية والمتون السردية، بين الشكل والمضمون. مع العلم أن تصدير الفصل باسم شخصية معيّنة لا يعني تمحوره حولها بل قد يكون مجرّد ذريعة روائية ليستعيد الراوي علاقته بها في إطار استعادة جوانب معيّنة من حياته الآفلة. ولعل طبيعة العلاقة بين الراوي والمرويّ عنهم هي التي تفاقم إحساسه بالفقد وحاجته إلى التعويض، وهو ما يفعله بطريقتين اثنتين؛ العكوف على الشراب، وسرد حكاياتهم.

في هذا السياق، يلعب توني الأخ البكر للراوي دوراً محورياًّ في حياته لا سيّما في مرحلتي الطفولة والصبا، فيدعمه في تعثّره الدراسي، ويعزّز ثقته بنفسه، ويحميه من المتنمّرين عليه ويحرم نفسه من طيّباتٍ ليطعمه إيّاها، ويشكّل الصخرة التي يستند إليها، حتى إذا ما رحل بداء السل، يترك فراغاً كبيراً في حياته، ويولّد لديه إحساساً بالذنب إزاءه. وفي مرحلة لاحقة،  مولي طفلته الصغيرة الجميلة التي وُلِدت ميتة ولم يتمتّع برؤيتها سوى خمس عشرة دقيقة فراغاً مماثلاً، فيشعر بالذنب لعدم نقل زوجته إلى المستشفى في الوقت المناسب وانشغاله عنها بصفقة عقارية، ويحاول التكفير عن ذنبه بتخيّلها في مراحل عمرية مختلفة، وبتقديم تسهيلات مالية لإميلي بروتون شركته في الفندق لأنّها تشبهها، وبإبداء مزيد من الاهتمام بزوجته الثكلى سيدي التي حملت بها بعد طول انتظار. ولعل اهتمامه لاحقاً بشقيقة زوجته نورين المصابة بالاكتئاب وتعاني من اضطرابات نفسية ونوبات عصبية نابع من هذا الشعور القديم بالذنب. لذلك، نراه يدعو الزوجة في الاهتمام بأختها ويتعاطف معها ويفتح منزله لها حتى إذا ما رحلت يشعر بالذنب لعدم الاهتمام بها أكثر، ويندم لصرف نصف عمره على صفقاته الخارجية وعدم إيلاء الأسرة الاهتمام الذي تستحق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الشخصية الرابعة التي يشرب هانيغان نخبها هي شخصية الابن كيفن، الصحافي المقيم مع أسرته في نيوجرسي الأميركية، يروي له باعتباره الوحيد الباقي على قيد الحياة من أسرته، ويروي عنه في محاولة متأخرة  للاعتراف بحبه له وتقصيره معه والتكفير عن ذنبه إزاءه؛ ذلك أنه يأخذ عليه صغيراً عدم ميله للعمل في الأرض، ولا يقدّر ولعه المبكّر بالقراءة، ولا يجاريه في رغبته أن يكون صحافياًّ، ولا يبدي اهتماماً بالمقالات التي يكتب، ولا يبوح له بحقيقة مشاعره نحوه، ما يجعله يتردّى تحت وطأة شعور ثقيل بالذنب، يحاول التكفير عنه بأن يروي له ويروي عنه.

على أنّ الشخصية الأكثر تأثيراً في الراوي الشيخ هي الزوجة سَيْدي والتي كان لغيابها فعل الزلزال في حياته. وهو، إذ يروي تفاصيل تعرّفه إليها ومراحل علاقته بها وصفاتها الخارجية والداخلية، يعترف بتقصيره نحوها وإخلاله بالوعود التي قطعها لها وارتكابه الأخطاء بحقّها، حتى إذا رحلت يشعر بفداحة الخسارة ووجع الفقد، ويحاول التعويض عن تقصيره والتكفير عن أخطائه، فيتعلّق بكل ما يخصّها، وينفّذ منفرداً ما لم ينفّذاه معاً، ويشعر برغبة جامحة في اللقاء بها، وإذ تخفق هذه الإجراءات في التخفيف من شعوره بوطأة الفقد، وفي التأقلم مع "جحيم" الشيخوخة، يقرّر الالتحاق بها، وهو ما يفعله في نهاية الرواية.

"نهاية المطاف" رواية موجعة، تصوّر من خلال شخصية موريس هانيغان والشخصيات الأخرى، أعطاب الشيخوخة في المجتمع الغربي، خاصّة في غياب الشريك، وما يعتورها من الإحساس بالعجز والمرض والأرق، على المستوى الجسدي، ومن شعور باليأس والفقد والوحدة والفراغ، على المستوى النفسي، مما يجعل الشيخ بين خيارين، أحلاهما مر؛ التعايش مع جحيمها أو الانسحاب منها، واستطراداً من الحياة كلّها. غير أن الرواية تطرح خياراً ثالثاً لم يختره بطلها رغم عرضه عليه، وهو الانتساب إلى نادٍ للمسنّين، ويفضّل عليه الخيار الثاني، فينسحب من الشيخوخة والحياة على أمل أن يلتقي بزوجته. وأياًّ كان الخيار، نحن إزاء رواية ذات حساسية إنسانية عالية، توجع قراءتها وتمتع وتفيد.          

      

          

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة