Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أطباء عراقيون يصفون الوهم لمصابي التوحد

غياب الدور الرقابي لوزارة الصحة وحديث عن رشى تدفع

إيهام العائلات بإيجاد علاج لأطفالهم من طريق أدوية وطرق غير مرخصة من قبل منظمة الصحة العالمية

ملخص

ثلاث دقائق من التشخيص، تيمة ثابتة اتحد على ممارستها هؤلاء الأطباء. النظر إلى الطفل، تقليبه يميناً ويساراً، ومن ثم كتابة بعض الأمور.

"كان هذا الطبيب السابع الذي أتأمل به، لتحسن وضع ابني الصحي. لكن الدواء الذي وصفه الطبيب، سبب له تشنجات وانقباضات حتى لعينه. ابني لا يرى اليوم جيداً، ويصاب بنوبات صرع ويعض لسانه، وبات تبوله لا إرادياً. وصل إلى الموت مرتين. ذهبت لأطلب من الطبيب - في الأقل - معرفة ما حصل مع صغيري، وعودته لحالته السابقة، نهرني وطردني. أوهمني بإيجاد علاج للتوحد".

ينهمر دمع من عيني محمد شاكر وهو يتكلم عن ابنه ذي السنوات الخمس. تقاتل عائلات طيف التوحد في العراق وبمفردها، جيوشاً لأطباء من تخصصات مختلفة، مثل الباطنية والجراحة العامة والأنف والأذن والحنجرة، قررت أن توهم الآباء بتشخيص وعلاج المرض، من خلال جلسات علاجية كاذبة، نتج منها أضرار جسدية وصحية كثيرة في حق الصغار، وسط تساؤل العائلات: هل كان أطفالنا فئران تجارب؟ 

ثلاث دقائق من التشخيص، تيمة ثابتة اتحد على ممارستها هؤلاء الأطباء. النظر إلى الطفل، تقليبه يميناً ويساراً، ومن ثم كتابة بعض الأمور. لا يحق لوالدي الطفل السؤال، إذ سيكون الرد قاسياً وعنيفاً، مع تهديد بالطرد.

بالطبع فإن "انتظار حجز لشهرين" والوصول إلى تلك اللحظة، لا يجب أن يفسد باستفسار من أم محروقة القلب. "الطفل مصاب بالتوحد، فليتناول هذه الأدوية وعوداً بعد فترة". جملة من دون مقدمات، يقذفها الطبيب في وجه الوالدين اللذين تصيبهما الحيرة والقلق.

تحاول "اندبندنت عربية" في هذا التحقيق تتبع حقيقة طيف التوحد في العراق، وكيفية تشخيصه، والأطباء المخولين وغير المخولين بتحديده، هل هنالك حقاً علاج، ولم تشك العائلات من تردي حالة أولادها الصحية؟

وثقنا عديداً من الحالات، التي لجأت إلى عيادات سحب المعادن والأوكسجين المضغوط لمعالجة أطفال مصابين بالتوحد، لكن لم يشف أو يتحسن أي منهم، بل العكس ازدادت حالتهم سوءاً. 

 

 

كما رصدت "اندبندنت عربية" مخالفة عيادات طبية تراخيصها، إذ ثبت أنهم غير مخولين بتشخيص التوحد، وإيهام العائلات بإيجاد علاج لأطفالهم من طريق أدوية وطرق غير مرخصة من قبل منظمة الصحة العالمية وإدارة الدواء والغذاء الأميركية، مما سبب أضراراً جسدية وصحية كثيرة في حق الصغار.

المعاناة الجماعية 

قابلت "اندبندنت عربية" 20 عائلة في بغداد ومحافظات أخرى، تعرضت لاستغلال وتلاعب وانتهاك صارخ باضطراب أولادها، من قبل أطباء باختصاصات غير مخولة قانوناً لتشخيص التوحد. 

وبحسب وزارة الصحة العراقية فإن التخصصات المرخص لها افتتاح عيادات خاصة بالتوحد ثلاث فقط: تخصص الأعصاب وطب الأطفال والطب النفسي. لكن في بغداد وحدها 146 مركزاً وعيادة للتوحد، 26 منها فقط مجازة. أما الأخرى فيديرها أطباء قرروا تحويل تخصصات شهاداتهم، لتخصصات مرخصة بتشخيص التوحد. 

في المقابل تشتكي العائلات غياب الرقابة الطبية، وتخشى التهديد. الآباء يبحثون عن دور السلطة بحماية أطفالهم، ويتساءلون عن واجب الجهات المعنية لتحصينهم من الاحتيال.

حاولت كاتبة التقرير التواصل مع بعض هؤلاء الأطباء، أحدهم رفض كلياً الحجز لمقابلته، وآخر قبل شرط أن تكون أماً لطفل، مع إحضار هويات تثبت نسبه إليها.

البيئة المحطمة للطفل

بعد حجز لأكثر من ثلاثة أشهر، وست ساعات من الناصرية إلى بغداد، حضر محمد مع ابنه البالغ خمس سنوات. كانت العيادة أشبه بمعسكر بحسب قوله، ممتلئة بالأطفال الذين يتعالى صراخهم واضطرابهم السلوكي بمرور الوقت. 

كثير منهم قادم منذ ساعات الفجر الأولى لانتظار دوره، وبعضهم من الليل. حاول محمد إيضاح قدومه من مكان آخر وتعب ابنه، لكن جواب السكرتيرة كان "الدخول حسب أسبقية الحضور". 

يقول محمد "وجدت أكثر من 30 عائلة تقف قبلي، ولو كل طفل سيأخذ تشخيصه نصف ساعة، وهذا ما كنت أعتقد، سأحتاج إلى 15 ساعة. لكن معدل دخول العائلات مع أولادهم كان من خمس إلى سبع دقائق، وبعد خمس ساعات من الانتظار طلبوا مني الدخول، فيما كنت أحاول جاهداً حماية ابني من شعوره بالجزع والرعب والذعر".

 

 

لم ينظر الدكتور للطفل، ولم يحاول معرفة أعراضه من خلال الأب. اطلع على التحاليل وقال "ابنك مصاب بالتوحد"، ومن ثم وصف 10 أنواع من الأدوية وطلب من محمد الخروج. 

الأدوية غير المرخصة 

لم يملك محمد حلاً، سوى البدء بمنح العلاج لولده. بعد فترة، لاحظ أن نشاطه المعتاد تبدل للعكس كلياً. من الخمول الحركي وعدم التركيز، إلى العصبية الشديدة وضرب الرأس وجر الشعر، والاستيقاظ بعدوانية. 

عاد الأب مجدداً إلى رحلة البحث عن أطباء، التي انتهت بوصف طبيب بعد تشخيص حالة الابن بالتوحد، بدواء للصرع الذي لا يعانيه الابن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طبيب آخر، أخبر محمداً أن ابنه لن يعود إلى طبيعته أبداً، بفعل الأدوية وتضاربها على دماغ الصغير. وبعد صراخ الوالد وتهديده الطبيب خرج الأخير من غرفته ليوضح أن "المشكلة ليست بالدواء، بالصدفة أصبح ابنك هكذا".

مصدر من وزارة الصحة العراقية، رفض ذكر اسمه، أكد أن بعض أعضاء النقابة يتساهلون مع العيادات غير المرخصة، ويتجاهلون الشكاوى المقدمة على الأطباء، إذ رفع بعض الأشخاص قضية في حق أحد الأطباء غير المخولين بتشخيص التوحد، لكن الوزارة لم تحرك ساكناً، وما زالت عيادته مفتوحة، فيما قررت بعض العائلات رفع قضية على طبيب آخر، لكنهم لم يجدوا اسمه في النقابة.

 

لم ينظر الدكتور للطفل، ولم يحاول معرفة أعراضه من خلال الأب. اطلع على التحاليل وقال "ابنك مصاب بالتوحد"، ومن ثم وصف 10 أنواع من الأدوية وطلب من محمد الخروج. 

 

 

ويوضح المصدر "تقدم أحد المواطنين بشكوى ضد طبيب، وحين قصدت لجنة طبية نحو عيادته لتفتيشها، عادت وقالت نسينا اسمه"، مضيفاً أن "بعض هؤلاء الأطباء يدفعون الرشى لبقاء عياداتهم مفتوحة، كما أنهم يستندون إلى جهات نافذة قد تهدد النقابة نفسها ووزارة الصحة".

 

 

"اندبندنت عربية"، حاولت التواصل مع نقيب أطباء بغداد مصطفى السعدي، لمعرفة هذه التفاصيل، لكننا لم نتلق أي رد أو إجابات على أسئلتنا، حتى كتابة هذه السطور. 

في سياق متصل، يوضح استشاري علم النفس الإكلينيكي وعلوم العلاج النفسي والعصبي الدكتور عادل الصالحي، أن موضوع التوحد، تخصص مستقل بحد ذاته لا يتم تدريسه في كليات الطب ولا تخصص الأعصاب كونه ضمن تخصصات دقيقة غير موجودة في العراق، والمسمى "الطب النفسي للأطفال والمراهقين".

ويضيف أنه يدرس ضمن تخصص كليات التربية/ قسم التربية الخاصة، وأيضاً ضمن تخصصات علم النفس وتحديداً تخصص علم النفس الإكلينيكي/السريري. 

معاناة جديدة

تبكي آلاء وهي تنظر إلى ابنها البالغ من العمر 13 سنة. لم تكن تعلم أن الطبيب المعالج هو جراح، وضع فقط اسمه ومهاراته بعلاج التوحد على لوحة التعريف. وصف دواء ريسبيريدال (Risperidone) مع مجموعة هائلة من الأدوية، ومنعها من التوقف عنها. 

وتوضح آلاء أن الطبيب كان يقول "سترين نتائج عكسية في البداية، وما هذه إلا مراحل الشفاء". لكن بعيداً من ازدياد حالات الاضطراب لدى الشاب الصغير، بدأ يعاني السمنة والتثدي بسبب هذا الدواء، وضمور أعضائه الذكرية. لأكثر من سنة تخبر آلاء الطبيب بأعراض ابنها، لكنه أصر على استمرار ابنها في تناول الأدوية، وهي تشرع اليوم بمحاولة جمع المال لإجراء عملية استئصال الثدي. 

 

 

في المقابل، لم ينف أحد أعضاء نقابة الأطباء، وجود هذه العيادات غير المخولة، مؤكداً أن النقابة دائماً ما تتصدى لحالات الاحتيال، وتمكنت على مدى الأعوام الثلاثة السابقة، من إلقاء القبض على أكثر من سبعة أشخاص انتحلوا صفة طبيب. 

ويضيف أن "وسائل التواصل الاجتماعي تروج لطرق علاج تجارية غير تقليدية، من دون ترخيص أو فحص، سواء من أطباء أو غيرهم وبلا رقابة رسمية، مما أدى إلى ظهور بروتوكولات ومفاهيم خاطئة. تصدت نقابة الأطباء لذلك، وسحبت ترخيص أكثر من طبيب لإضرارهم بصحة المواطن منذ بداية 2024". 

ويرى عضو النقابة "إننا في حاجة إلى تعاون المواطن، ذهابه للشكوى يكاد يكون مفقوداً، ويعتقد المريض أن الكلفة العالية هي ضمان الجودة، لذا يتجه إلى أطباء يمنحون الوهم بأسعار خيالية، وعندما يتعرض للاحتيال لا يسلك الطرق القانونية في الشكوى التي تعيد له حقه". 

 

وسائل التواصل الاجتماعي تروج لطرق علاج تجارية غير تقليدية، من دون ترخيص أو فحص، سواء من أطباء أو غيرهم وبلا رقابة رسمية، مما أدى إلى ظهور بروتوكولات ومفاهيم خاطئة

 

ويوضح أن كل فرع طبي له لجنة داخل نقابة بغداد مكونة من ثلاثة متخصصين، يتم تغييرهم كل ستة أشهر، تكون مهمتها استقبال شكاوى المواطنين، وبإشراف لجنة الانضباط يتم تفتيش العيادة، وأخذ التقارير الطبية. كما أن النقابة تقوم بجولات تفتيشية عامة بفترات غير معلومة من أجل رصد المخالفين بصورة مفاجئة.

القانون

يقول المحامي محمد جمعة إن المادة 416 من قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969، تنص على أن كل من أحدث بخطأ، أذى أو مرضاً أو عدم احتياط وعدم انتباه أو مراعاة للقوانين والأنظمة، فيعاقب بالحبس مدة لا تزيد على الستة أشهر، وتكون العقوبة سنتين، إذا نشأت عن الخطأ عاهة مستديمة ووقعت نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول وظيفته. 

 

 

وينص قانون ممارسة الطب، رقم 503 لعام 1925 على أن كل شخص يمارس الطب أو أي نوع من فروعه أو يحاول ممارسة ذلك أو ينتحل أي تسمية أو لقب أو علامة، كانت تدل على أنه مرخص لممارسة الطب أو أي نوع كان من فروعه، فيعاقب بالسجن لمدة لا تزيد على ستة أشهر وغرامة مليون دينار عراقي (764 دولاراً)، وعلى رغم اعتبار هذا القانون منسياً وقديماً، فإنه ساري المفعول. ويوضح المحامي محمد جمعة أن المحكمة تعتمد القانون الخاص قبل العام. 

لم تكن آلاء الوحيدة التي عانت دواء الريسبيريدال، إذ تحدثت 17 عائلة من التي قابلتها "اندبندنت عربية" عن أخذ هذا الدواء. ومن الأعراض التي ظهرت على الأولاد، إدمانه وعدم النوم من دونه والسمنة وزيادة مستويات هرمون البرولاكتين الذي يؤدي إلى نمو وزيادة حجم الثدي بصورة غير طبيعية، مع زيادة إفراز الحليب وسيلان اللعاب والقيء المستمر وعدم الرؤية الواضحة والدوخة المستمرة.

 

 

 

والريسبيريدون Risperidone والأريبيبرازول Aripiprazole هما العقاران الوحيدان المرخصان للاستعمال ضد التوحد من إدارة الغذاء والدواء الأميركية ومنظمة الصحة العالمية. ويعطيان لفترات قصيرة جداً لا تتجاوز ستة اشهر. ويمنحان في حالات خاصة جداً وهي التهيج والعصبية الشديدة، غير المسيطر عليها التي تؤدي إلى الأذى النفسي، وتعطى بجرعات محدودة وفترات قصيرة جداً لا تتجاوز الأسبوع، وللأعمار من ست إلى 16 سنة فقط، مع دراسة للأدوية الأخرى إذا كانت مناسبة لتناولها معهما. لكنهما لا يزالان يكتبان كوصفة "لا تقطع"، كما حدث مع سناء محمد، التي قالت إنها كانت ستصاب بجنون بعد أن كتب الدكتور "م م" لابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات، أكثر من 11 نوع علاج.

تقول "لا يعاني ابني إلا مشكلة نطقه بالعربية، لأنه يتحدث بالإنجليزية دوماً. حتى هذه المعلومة الصغيرة رفض الطبيب أن يسمعها مني، نظر فقط إلى طفلي وقال توحد، بعد أن دخلت سكرتيرته التي كانت تؤشر على ورقة وهي تطالع ولدي الصامت ومنحته تقييماً 6 من 20 دون أي اختبار، وقالت للدكتور، حتى أخوه الأكبر توحد، علما أنني أحضرت ابني البكر معي، بصورة مفاجئة وهو طالب في المدرسة ولا يعاني شيئاً. صدمت، كيف لسكرتيرة أن تقرر؟". أجاب الدكتور أن العلاج يكون للولدين. 

توضح سناء أنها اكتشفت في ما بعد من الصيدلي أن أربعة أدوية من مجموع الأدوية المكتوبة لابنها، تؤدي الوظيفة ذاتها، وهي منومات تسبب الإدمان كالمخدرات، إضافة إلى عقارين لا يمكن جمعهما مطلقاً لأنهما يسببان تداخلاً دوائياً.

شعرت سناء بالذعر بعدما علمت أن ابنها لا يعاني شيئاً، فقط صعوبة تعلم لغتين في وقت واحد. ومن خلال مشاركتها في إحدى المجموعات على "فيسبوك"، قرأت عن عشرات الأشخاص يوصون بعدم الاقتراب من هذا الطبيب لأنه اختصاص أنف وأذن وحنجرة. 

التحايل الطبي وهيمنة الفوضى

وعلى رغم تشكيل مجلس الوزراء بموجب الأمر الديواني رقم 23455 في الـ22 من مايو (أيار) 2023 لجنة تفتيش ومراقبة على المراكز والعيادات الصحية والتجميلية والصيدليات ومخازن الأدوية غير المرخصة في العراق، فإن كثيراً من الأطباء ما زالوا مستمرين بفتح العيادات. 

ويبين المحامي محمد جمعة أن التعامل بتخصص غير مرخص يعد احتيالاً واضحاً، وتكون العقوبة القانونية لانتحال الصفة وفقاً للفقرة 1 من القانون 160 لعام 1983 هي السجن 10 سنوات على هذه الجريمة، واعتبار الانتفاع المادي جراء ذلك ظرفاً مشدداً يجيز لمحكمة الجنايات تشديد العقوبة وفق المادة 136 من قانون العقوبات.وهذا القانون معدل المواد 260 و261 و262 التي كانت تعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز الخمس سنوات والغرامة على هذه الجريمة، بمعنى أنها كانت جنحة وأصبحت بموجب القانون 160 لسنة 1983 جناية.

ويقول جمعة "إجراءات النقابة طويلة جداً ومعقدة وغير متعاونة قبل البت في قضايا الناس، ولا تتخذ أية إجراءات آنية أو طارئة في حق الطبيب المشتكى عليه، وأثناء ذلك، يستمر بافتتاح عيادته واستقبال مئات المراجعين، مما يعني مزيداً من الضحايا من دون رادع أو تحذير حتى أو إغلاق موقت لمكانه".

الدواء 

يوضح أستاذ مادة تشريح التوحد في الجامعات العراقية الدكتور عادل الصالحي، أن جميع الأدوية التي تمنح للأطفال تتلاعب بموصلات المخ وعند تلفها لا يمكن إعادتها أو إصلاحها مطلقاً. ما يحدث أن جمع عشرات الأدوية في معدة طفل يبلغ من العمر أربع سنوات أو حتى أقل من سنتين، يعطي في العادة نتائج معاكسة وتأثيرات سلبية ليس للدماغ فقط، بل لكل وظائف وأعضاء الجسم. 

لذلك فإن وصف أي دواء أو عقار للأطفال غير مصرح به من إدارة الغذاء والدواء FDA أو منظمة الصحة العالمية WHO، يعد جريمة كبرى تحاسب عليها دول كثيرة. 

ويستطرد الصالحي، وهو أيضاً العالم العراقي الذي اكتشف بصمة التوحد في الدماغ، أن الأطباء غير المرخصين لا يعلمون أن بعض الأدوية لو اجتمعت معاً فمن الممكن أن تسبب تأثيرات جانبية كارثية، وهذه من نتائج عمل أصحاب تخصصات غير مخولين لتشخيص التوحد.

ويشرح أستاذ مادة تشريح التوحد "عند إجراء التخطيط الكهربائي EEG لدماغ طفل التوحد، يعطينا أحياناً مؤشرات وقراءات، قد تكون شبيهة بالمؤشرات الخاصة بالصرع أو التشنجات العصبية (الشمرات Convulsive)، وهي قراءات تعد جزءاً من بصمات التوحد في الدماغ المثبتة علمياً وليست كونها تشير إلى حالات الصرع مطلقاً، ولأن بعض الأطباء لا يملكون الاختصاص ضمن هذا المجال لمعرفة هذه المعلومة، عندها يصفون أدوية وعقاقير تصرف للذين يعانون الصرع أو الذهان، ولا يمنحون الأهالي أي تنبيهات أو إرشادات بنوع الأكل المرافق لهذه الأدوية مثلاً، أو ماهية التفاعلات Interactions مع بعض الأغذية أو العقاقير الأخرى التي قد يتناولها الطفل، حتى يأخذ الأهل الحيطة والحذر ضمن الكورس العلاجي الخاص بتلك العقاقير". 

 

 

ومن المفارقات، أنه ليس هناك إحصاءات محلية دقيقة حول نسب المصابين بالتوحد، التي تظهر أن العراق يحتل المرتبة 193 عالمياً في معدل الإصابة بالتوحد بين الأطفال، 328 حالة لكل 100 ألف طفل.

لكن الجهاز المركزي للإحصاء أكد وجود أكثر من 350 ألف شخص معوق بالفهم والإدراك، من دون تحديد نوع الإعاقة وإذا ما كان التوحد من ضمنها أم لا.

تشتخيصات الاضطرابات معتمدة على الفطرة

من جهة ثانية، يؤكد البروفسور عادل الصالحي وهو أيضاً رئيس الجمعية العراقية للعلاج النفسي، أن الجمعية تستقبل يومياً بمعدل 8 تشخيصات خاطئة من أصل 10 مراجعات، يتم تشخيصها بالتوحد، وتكون غالبيتها تعاني متلازمة الشاشة الإلكترونية Electronic Screen Syndrome (ESS) التي يمكن علاجها بالتدريب على ترك الهاتف، فيعود الطفل مع الوقت إلى طبيعته. 

وأطلق بعض هؤلاء الأطباء لقب "توحد طيور الجنة" على كثير من الحالات، إذ تعتمد تشخيصاتهم على سؤال واحد "هل يشاهد ابنك قناة طيور الجنة؟" ويتم إيهام الناس بوجود توحد بسبب التلفاز أو توحد بيئي، وغيرها. 

 

 

ويوضح الصالحي أن "الدراسات العلمية المعاصرة أثبتت أن التوحد جيني تكويني يولد مع الطفل، تظهر أعراضه خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره وهو غير مكتسب. يؤسفني أن بعض الأطباء يتغذون على يأس العائلات، وإيهامهم بإيجاد علاج كلي وشاف للتوحد بالعقاقير". 

الوهم

وجدت مناهل في صفحة الدكتور "ع أ" مئات التعليقات من آباء فرحين بإنجاز غير مسبوق. إيجاد علاج للتوحد. وجهت رسائل لكثير منهم، وأقسموا أن أولادهم باتوا بخير.  لكنها تعرضت لصدمة كبيرة حين رفضت السكرتيرة دخولها لمقابلة الطبيب، قبل أخذ تعهد خطي بالكتابة في صفحة الدكتور على "فيسبوك" مديحاً مطولاً، والاشتراك في صفحته العامة.

"بعد تحسن ابني أليس كذلك؟" تساءلت مناهل، فصرخت السكرتيرة بوجهها "فور خروجك من العيادة".

 

أفادت لجنة الصحة والبيئة النيابية بأن 70‌ في المئة من الأدوية في الأسواق غير مسجلة ومهربة، مشيرة إلى أن الأدوية عندما تكون مهربة، لا أحد يعرف مدى صلاحيتها للاستهلاك البشري والمواد التي تحتويها.

 

لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ دفعت الأم رشوة للسكرتيرة لتسريع دخولها إلى الطبيب، وحارس باب الطبيب، وبدلاً من دفع 38 دولاراً للكشف تخطى ذلك 150 دولاراً كرشوة لطاقم الطبيب". 

وعلى رغم أن نقابة الأطباء العراقية حددت تسعيرة كشف الطبيب الممارس من 10 إلى 15 ألف دينار (10 دولارات) والطبيب المتخصص من 15 إلى 25 ألف دينار (10-15 دولاراً) فإن التسعيرة تختلف من طبيب إلى آخر، ويبلغ متوسطها 45 ألف دينار (30 دولاراً).

 

 

12 مرحلة كان يحتاج إليها ابن مناهل البالغ من العمر ثلاث سنوات، بحسب تشخيص الدكتور الذي كان فقط من خلال مد عصا خشبية في فمه. 

توحد شديد، هذا ما قاله، وكل مرحلة كانت تتطلب تحاليل جديدة وأدوية جديدة وأموالاً جديدة. وتضيف مناهل أن معدل ما صرفته مع هذا الطبيب وحده بأربعة أشهر كان أكثر من 7 ملايين دينار (4 آلاف دولار).

تقول "لم ألاحظ تحسناً، كان ينام فقط، رحت أقرأ عن الأدوية التي يمنحني إياها الطبيب، ولم تكن سوى منومات حين أوقفها يصاب ابني بنوبات هلع ويشير بيده إلى وجع في قلبه ومعدته ويصرخ، أصيب بتقرحات شديدة بمعدته بسبب كثرة الأدوية، كما أنني أنفقت كل ما أملك، ولم يكن لديَّ مانع من الاستدانة، لكنني ما إن قررت شرح تدهور صحة ابني للدكتور، حتى صرخ بوجهي وطلب مني الخروج قائلاً "أنت أم غبية، من الطبيعي أن ينتكس ثم يصبح بخير، هذا دليل نجاح العلاج". 

حاولت الأم، تحذير الناس وكتابة تجربتها في صفحة الطبيب في السوشيال ميديا، مؤكدة أنه يمتص جيوب العائلات بفترات علاج طويلة جداً، لكنها تعرضت إلى الهجوم والتهديد من قبل أشخاص تبين أنهم مندوبون، تشترى ذممهم لكتابة تعليقات كهذه، أو آباء تعرضوا لنفس الابتزاز من قبل السكرتيرة.

النظام ودور النقابة القانوني

لا يوجد أي عقار حتى الآن مصرح به من قبل منظمة الغذاء والدواء يستخدم لتحفيز النوم عند الرضع والأطفال ما دون 16 سنة، باستثناء تلك التي تحوي أعشاباً طبيعية، يتم فحصها في البدء لضمان إذا ما كانت ملائمة للطفل، وعدم تفاعلها بصورة خطرة مع أدوية أخرى، وتكتب لحالات شديدة جداً.

 

 

وتوضح الصيدلانية مها أحمد أن أطفال التوحد وبالوضع الطبيعي يعانون مشكلات معوية ومعدية، ولا يستفسر الأطباء من الأبوين عن طبيعة غذاء ابنهما وما يحتاج إليه، وهل يتناسب مع اختلاط عدة أدوية، لذلك تحصل كثير من المضاعفات. 

وتقول "هذه العقاقير تجعل الصغار مخدرين كلياً أول أسبوعين، فيعتقد الأب أن ابنه بات بخير، بعد ذلك تنتكس حالته الصحية ويصبح - بصورة مضاعفة - منفصلاً عن محيطه". 

ومن الأدوية المستخدمة بكثرة المضادة للاكتئاب الحاد مثل الفلوكستين والسيرترالين لأطفال دون الخامسة، وهذه كارثة كونهما يسهمان بتلف كثير من أعصاب المخ واضطرابات النوم، مع الهلع والخفقان الشديد، بحسب مها أحمد. 

وفي أحدث تصريح لها، أفادت لجنة الصحة والبيئة النيابية بأن 70‌ في المئة من الأدوية في الأسواق غير مسجلة ومهربة، مشيرة إلى أن الأدوية عندما تكون مهربة، لا أحد يعرف مدى صلاحيتها للاستهلاك البشري والمواد التي تحتويها.

وتضيف الصيدلانية العراقية "كثير من الأطباء يصفون التيكرتول والكارباميزابين، وهما دواءان يستخدمان في المقام الأول لمرض الصرع وآلام الأعصاب والتشنجات العصبية، لأطفال من الممكن أن يكونوا غير مصابين بالصرع، أو حتى التوحد، مما يسبب مشكلات بالرؤية وفقدان الشهية وعدم انتظام دقات القلب (الخفقان)، إضافة إلى تداخلات طبية كبيرة منها الحساسية والطفح الجلدي، والتسمم في بعض الأحيان". 

وتتابع "تصل إلينا هذه الحالات يومياً، ويعتمد الطبيب بتشخيصه في الغالب على نتائج مختبرات أهلية غير مرخصة ولا تعتمد كل التحاليل، وأيضاً غير دقيقة ومدارة من قبل أطباء أسنان أو ممرضين باتفاقات مسبقة مع الأطباء".

في المقابل، توضح تعليمات رقم 2 لعام 2006 بقانون الصحة العامة التي جرى التعديل عليها بقانون رقم 2 لـ2018، أن ضوابط افتتاح مختبرات التحليل تشمل شروطاً فنية تخص الكفاءة والإمكانات والخبرة، إذ لا تمنح الإجازة إلا بعد اجتياز اختبارين، الأول نظري والآخر عملي مع إجراء الكشف الموقعي على المختبر. ويوجد في بغداد والمحافظات -باستثناء كردستان - أكثر من 950 مختبراً، بحسب وزارة الصحة. 

سحب السموم والأوكسجين المضغوط 

قابلت رنا سالم، مع ابنها البالغ من العمر خمس سنوات، 24 طبيباً في بغداد وحدها على مدى سنتين ونصف السنة، وكل تشخيص كان مختلفاً عن الآخر: صرع وتأخر عقلي وتوحد وشلل دماغي، على رغم أنه يملك القدرة على السير والإدراك، فإنه لا ينطق فقط. سحب المعادن من جسم الطفل هو العلاج الذي يروج له الطبيب "ع س"، وتنشر العائلات في مجموعته السرية في "فيسبوك"، وصفته الطبية، مؤكدين شفاء أطفالهم من التوحد.

 

 

تقول رنا "تفاجأت وأنا أطلع على ثلاثة مستويات من التحاليل قد وضعها الطبيب لتشخيص الأطفال، الأول الأغلى بـ300 ألف دينار (200 دولار) والثالث هو الأرخص بـ 150 ألفاً (100 دولار)، وحين أردت الاستفسار عن كيفية تشخيص التوحد من دون وجود كل التحاليل، بخاصة أنني اخترت المستوى المتوسط، أجابني الطبيب وهو ينظر إلى كاميرا المراقبة فيما تتحول غرفة الانتظار إلى ساحة معركة بين الصغار"، مختتماً "لا تجادلي لن تعرفي أكثر مني".

ويتم إزالة المعادن الثقيلة من الجسم عبر الاستخلاب Chelation Therapy))، وذلك باستخدام أدوية وعقاقير قوية مما يعرض المريض للموت أحياناً.

نشأت فكرة استخدام هذه الطريقة كأداة لعلاج التوحد، من الاعتقاد الخاطئ بأن مادة الثيميروسال Thimerosal المحتوية على الزئبق (وهي مادة حافظة) في اللقاحات كانت السبب المباشر للزيادة السريعة في تشخيص التوحد. 

واستنتج المنظرون في حينها أنه إذا كان الزئبق هو السبب في التوحد فإن إزالته من الجسم ستعالج التوحد، وقد تم دحض هذه الخرافة بصورة قاطعة بالدراسات. 

وبسبب اليأس من العلاجات الكثيرة المتناقلة دفع بعض الآباء إلى إخضاع أطفالهم إلى تجربة عملية إزالة المعادن الثقيلة، التي تتضمن تناول بعض الأدوية لإزالة الزئبق والمعادن الأخرى من الدم، كما يوضح الدكتور عادل الصالحي.

ولا تقوم عملية إزالة المعادن الثقيلة بتحسين أعراض التوحد ولا الشفاء منه، ولها آثار جانبية كارثية خطرة للغاية يمكن أن تهدد الحياة، ومنها خفض شديد في ضغط الدم ومشكلات في القلب ونوبات صرعية وتلف في الدماغ وتلف الكبد وتلف الكلى وانخفاض مستويات الكالسيوم بشكل خطر وفقر الدم الشديد.

 

 

ويقول الصالحي "قد تتراكم لدى بعض الأطفال المصابين بالتوحد معادن ثقيلة في الجسم أكثر من غيرهم بسبب إصابتهم بالتوحد وليس العكس، لعدم قدرة أجسامهم على التخلص بصورة طبيعية من تلك المعادن التي يتعرضون لها من طريق الطعام والمعلبات والمغلفات والمواد الحافظة، كما هو الحال في تراكم المعادن الثقيلة للأطفال غير المصابين بالتوحد وأيضاً عند بعض الكبار بسبب مشكلات في الجهاز الهضمي والجهاز المناعي، ذلك على النقيض من باقي الأطفال والكبار الذين يمكن لأجسامهم التخلص من تلك المعادن الثقيلة يومياً وبصورة طبيعية من طريق التعرق أو التدرر أو عملية الأيض مثلاً". 

وربطت إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA وفيات الأطفال المصابين بالتوحد بسبب العلاج باستخراج المعادن الثقيلة. 

من جهة ثانية، لجأت سلمى إلى الطبيب "م م"، وهو متخصص في الأنف والأذن والحنجرة، ومن ميزات هذا الطبيب، أنه لا يعتمد إلا نتائج التحاليل من مختبره الخاص، ويصنع حبوب دواء بنفسه مستخلص من الأعشاب، لكنه أصاب ابنتها بالطفح الجلدي المزمن. 

وسحب المعادن ليس وحده من يمتص جيوب المواطنين اليائسين، هناك أيضاً الأوكسجين المضغوط، وهو وضع الأطفال في غرف ذات ضغط جوي مرتفع ومشبعة بالأوكسجين، "لتحفيز خلايا الدماغ التالفة لدى مصابي التوحد" بحسب ما يروج له بعض الأطباء، ويقال إنها تسهم بشفائهم من التوحد.

يقول محمد عمار "أنا أب، أحلم برؤية ولدي وهو يلعب مع أقرانه، كنت أجرب كل ما يقولون إنه علاج، وفكرت، لعل هذه الطريقة ناجحة. بعد تشخيص عشوائي وساخر قال الطبيب (ح م) إن ابني يحتاج إلى 50 جلسة أوكسجين مضغوط، وكل جلسة بـ100 دولار، وطلب مباشرة 4 آلاف دولار كمقدمة لـ40 جلسة جبراً".

لم يتحسن الطفل بعد جلسات العلاج، بل كان يخرج منها متوترا ولا ينام، وكان جواب الطبيب ببساطة "لربما ابنك في حاجة إلى 50 جلسة ثانية"، هكذا نطقها بسهولة ومن ثم نادى السكرتيرة لدخول مريض آخر. 

الرعاية الصحية

وسط كل هذه المصاريف التي تنفقها العائلات، تقدر كلفة الرعاية الصحية للمواطن العراقي ما بين 154 و161 دولاراً سنوياً، وفقاً لمؤشرات البنك الدولي، وترتفع إلى 239 دولاراً بحسب مؤشر the Global Economy، لكن التقارير المالية لوزارة الصحة تؤكد أن ما يصرف فعلياً على المواطن سنوياً هو 166 ألف دينار فقط (أقل من 120 دولاراً).

وبلغت الحصة المالية المخصصة ضمن النفقات الحاكمة للأدوية 1.6 تريليون دينار (أكثر من 1.1 مليار دولار) أي إن كل مواطن عراقي يحصل على ما قيمته 40 ألف دينار (28 دولاراً) سنوياً من الأدوية.

المزيد من تحقيقات ومطولات