ملخص
سعى كرسي البطريركية المارونية في لبنان أكثر من مرة إلى جمع الأضداد حفاظاً على وحدة المسيحيين، وحاولت بكركي مع كل استحقاق تقريب وجهات النظر على قاعدة المصلحة الوطنية إلا أن المصلحة الخاصة لدى بعضهم بقيت الأقوى
لم تكن دولة لبنان الكبير التي نشأت عام 1920 صدفة أو خطأً، إنما نتيجة تضحيات ونضالات، واستجابة لرؤية حضارية كانت البطريركية المارونية في صميم صناعتها مع شركاء من كل المكونات الروحية اللبنانية. فعندما تمسك البطريرك الماروني إلياس الحويك بالـ10452 كيلومتراً مربعاً (مساحة لبنان) كان ذلك من بوابة صون الحرية، والعيش المشترك في صميم المواطنة. ومنذ ذلك التاريخ شكل المسيحيون نموذجاً ينظر إليه كنتيجة طبيعية للحرية في الديمقراطية. اختلفوا في تكتيكات داخلية لكنهم حافظوا على رؤيتهم الموحدة للحرية والسيادة وثقافة الدولة، وحين وقعت الحرب، حاربوا لإعادة تأسيس الدولة، ورفضوا "اتفاق القاهرة" في عام 1969 وواجهوا بغالبيتهم الوجود السوري العسكري والسياسي في لبنان، لكن الوضع تغير بعدها وانتقلوا إلى "حلف الأقليات" واستدرجوا الحمايات.
وكان الانقسام القاتل بين مسيحيي لبنان قبل "اتفاق الطائف" واستمر بعده ليصبح انقساماً عمودياً لم يلتئم بعد الانسحاب السوري من لبنان، فبات الخلاف ظاهرياً على موقع رئاسة الجمهورية لكن أيضاً على المواقف الأساسية المرتبطة بسلاح "حزب الله" وسط تناقض جديد في سلم الأولويات.
محاولات بكركي
سعى كرسي البطريركية المارونية في بكركي الواقعة على كتف مدينة جونية، شمال العاصمة بيروت، أكثر من مرة إلى جمع الأضداد حفاظاً على وحدة المسيحيين، ورعت مصالحة رباعية بين القيادات الأربعة، الرئيسين السابقين أمين الجميل وميشال عون، ورئيس حزب" القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس تيار "المردة" السابق سليمان فرنجية. وحاولت بكركي مع كل استحقاق تقريب وجهات النظر على قاعدة المصلحة الوطنية، إلا أن المصلحة الخاصة لدى بعضهم بقيت الأقوى. وعلى رغم قراءة موحدة باستشعار خطر وجودي فإن الاختلاف بقي على توصيف الأسباب والمسببات.
وشهد الصرح البطريركي في الأسابيع الماضية محاولة جديدة لاستعادة لغة "الثوابت التاريخية" التي على أساسها قام لبنان. وكانت مبادرة وطنية انطلقت مسيحية يرعاها راعي أبرشية أنطلياس (شمال بيروت) للموارنة المطران أنطوان بو نجم مع فريق عمل متخصص في القانون والسياسات العامة. وتوسعت مروحة التمثيل لتضم الأحزاب الأربعة (القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر، والكتائب، والمردة) وكان الهم بحسب مصدر في بكركي وقف الانقلاب الذي ينفذه بعض المسيحيين على الثوابت، وسط قناعة راسخة بأن اللقاءات المماثلة لا يمكن أن تؤدي إلى وحدة القوى الأربعة أو ذوبانها بما يلغي ديمقراطية تمثيلها وتعددها. وتترجم ذلك في تغيب ممثل تيار "المردة"، واشتراط "التيار الوطني الحر" إسقاط بند المطالبة بنزع سلاح "حزب الله" من مسودة الوثيقة، مقابل إصرار القوى الأخرى على أن هدف أي عمل لا يقوم إلا بإنقاذ الجمهورية بعيداً من خيارات الانقضاض عليها أو تفتيتها.
ليس المطلوب جبهة مسيحية
وأكدت مصادر كنسية لـ"اندبندنت عربية" أن "مبادرة بكركي، وطنية وتعتمد منهجية علمية تقوم على استعراض الثوابت من ثم تشخيص الإشكاليات وصولاً إلى تحديد مسارات المعالجات، لأن ما يعانيه لبنان من أخطار وجودية إلى جانب الأزمة الجيوسياسية في المنطقة يقتضي بحثاً في العمق ثم الانطلاق نحو الحل مسيحياً، على أن تستكمل المرحلة الثانية مع كل المكونات اللبنانية". وتنفي المصادر أي نية لتشكيل جبهة مسيحية وتؤكد أن العمل جار للقاء وطني واسع حول الثوابت التاريخية للبنان بعيداً من فوائض القوة والنزاع على السلطة، والشعبوية، وتغيير هوية لبنان. تدرك المصادر أن "هناك من يريد شيطنة مبادرة بكركي ومن يريد أن يصادرها، لكن المبادرة هدفها خير كل اللبنانيين والأمور في خواتيمها ففي اللحظة التاريخية التي نعيشها ممنوع الاستسلام أو الاستثمار".
لكن السؤال المطروح هو: هل تنجح مبادرة بكركي في جعل القوى المسيحية تقرأ في نفس الكتاب؟
القوات: لا ثقة بالتيار
على مقلب "القوات اللبنانية" عبر رئيس الحزب سمير جعجع بوضوح عن فقدان الثقة بـ"التيار الوطني الحر" عندما أكد أن مشاركة القوات في اللقاء المسيحي في بكركي كانت من أجل الكنيسة فقط من دون أي تعويل على التزام التيار بما قد يتفق عليه المجتمعون، استناداً إلى تجربة "القوات اللبنانية" مع التيار الذي لم يلتزم بأي من النقاط الـ10 التي كانت أساس التفاهم بين الفريقين لدعم انتخاب الرئيس ميشال عون في عام 2016. ويسأل عضو تكتل "الجمهورية القوية" النائب بيار بوعاصي في حديث لـ"اندبندنت عربية" "هل سيقارب التيار الوطني الحر، وهو صاحب ثاني أكبر كتلة برلمانية مسيحية، الأزمة الدستورية المتمثلة بتعثر انتخاب رئيس للجمهورية من زاوية المصلحة العليا أم من زاوية مصالحه الضيقة؟". ويضيف "لو كانت المصلحة العليا تزن في ميزان التيار لما أسهم سابقاً في التعطيل". ويصف بوعاصي اللقاء المسيحي الجامع في بكركي بأنه "ليس هدفاً في حد ذاته إنما وسيلة لحل إشكالية حيوية وهي انتخاب رئيس للجمهورية"، معتبراً أن "أول الإشكاليات المطروحة اليوم هي الإطاحة من قبل "حزب الله" ورئيس البرلمان نبيه بري بجميع المفاهيم الدستورية والمؤسساتية بهدف الإتيان برئيس يناسب فريقهم ويكون مطواعاً في أيديهم". ويضيف بوعاصي "هذا ما فعلوه عندما أقفلوا مجلس النواب لسنتين ونصف السنة للإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية بالتكافل والتضامن مع التيار الوطني الحر. ويرى النائب القواتي أن "العنصر الوحيد المستجد لدى التيار مرتبط بمصالحه وليس المصلحة الوطنية العليا وانتظام عمل المؤسسات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإشكالية الكبرى
ليس شل عمل المؤسسات بدءاً من الموقع المسيحي الأول هو الإشكالية الوحيدة المطروحة، فكل القوى المسيحية باستثناء "التيار الوطني الحر" وتيار "المردة"، تعتبر أن تعطيل انتخاب الرئيس هو نتيجة فائض القوة وتكريس سلاح "حزب الله". و"هنا تكمن الإشكالية الكبرى" يقول بوعاصي، مستبعداً أن يتمكن لقاء بكركي من مقاربة هذه المسألة واتخاذ موقف مبدئي منها والحصول على إجماع حولها.
فعلى رغم مطالبة البطريرك الماروني و"الأحزاب السيادية" (المناوئة للنظام السوري وثنائي حركة أمل وحزب الله) بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وأجهزتها الشرعية، فإن النائب جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر) والنائب السابق سليمان فرنجية (زعيم تيار المردة) ليسا في هذا الوارد. ويؤكد بوعاصي أنهما "لم ولن يكونا في هذا الوارد"، مشيراً إلى أن "قناعة فرنجية هي عند حزب الله ومحور الممانعة، أما باسيل فيبحث عن ورقة ضغط على الحزب وليس المواجهة معه، كما يسعى من خلال لقاء بكركي إلى الحصول على سلم يسمح له بالنزول عن السقوف العالية. حبذا لو تجمع الأحزاب المسيحية على فرض مبدأ الشراكة واحترام العقد الاجتماعي بين المكونات فلا يكون مكوناً طاغياً على الآخرين بواسطة شل المؤسسات والسلاح". ويرى أن "الأمر ليس مرتبطاً بالوضع الإقليمي وأخطاره فحسب، وإنما بعلة وجود الكيان اللبناني وقدرته على الحياة في ظل السلاح غير الشرعي". وإذ يعبر النائب عن "القوات اللبنانية" عن رفضه وضع الصرح البطريركي في بكركي في موقع الفشل، لأن تأثير ذلك سيكون "مؤذياً لآخر صرح سيادي غير حزبي في لبنان"، يختم بالقول إن "أقصى ما يمكن توقعه من لقاء بكركي المسيحي هو الإصرار على المبادئ العامة".
الصلاحيات قبل السلاح
في المقابل، يعترف عضو "تكتل لبنان القوي" النائب غسان عطا الله بوجود خلافات بين الأحزاب والقوى المسيحية وهذه الخلافات برأيه، "يمكن أن تكون مواضيع نقاشية وتبقى للأبد لكن الثوابت الأساسية التي تضرب الوجود المسيحي وكيان لبنان لا يمكن وضعها على لائحة الانتظار في أي حوار".
وصرح النائب المقرب من باسيل، بأنه "يجب البحث عن صيغة لسلاح "حزب الله" ضمن استراتيجية دفاعية، لكن هذا الموضوع لا يمكن أن يكون موجهاً من طائفة ضد طائفة بما يشبه التحدي الذي قد يوصل إلى مشكلة كبيرة في البلد، رغم الاعتراف بأن بقاء السلاح كما هو خطأ كبير وأنه يجب البحث بكيفية معالجته بشكل موضوعي".
كما يرفض النائب عن "التيار الوطني الحر" اتهام فريقه باللجوء إلى الحوار المسيحي كلما شعر أنه ضعيف، مؤكداً أن "التيار ليس أبداً بحالة ضعف تستدعي البحث عن غطاء مسيحي، إنما التيار خائف جدياً على الشراكة الوطنية وغياب الدور المسيحي، مقابل صمت مطبق من قبل قوى مسيحية تجاه ممارسات الحكومة في تعاطيها مع الملفات من دون أي معيار أو توازن". ويعتبر عطا الله أن "الخطر الحقيقي هو في تأجيل الاستحقاق الرئاسي حتى زمن غير ملموس ومن دون أفق، وهو ما عبرت عنه بكركي عندما تحدث البطريرك بشارة الراعي عن عدم احترام الشراكة والفوقية في التعاطي وغياب الجدية بانتخاب الرئيس". "التيار طلب اللقاء المسيحي"، يضيف عطالله "لأنه استشعر بخطر على الكيان وعلى الوجود".
وشدد عطالله على "أهمية لقاء بكركي الجامع بدل التخاطب عبر الإعلام ليكون وسيلة ضغط أقوى لتحديد المواضيع التي يستشعر المسيحيون خطراً عليها، كما يمكن أن يفرض على الآخرين وقف التمادي في ضرب الشراكة".
أما عن غياب الثقة بـ"التيار الوطني الحر" فيرد عطالله، بدعوة حزبي "القوات اللبنانية "و"الكتائب" إلى "عدم توزيع الشهادات على الناس" ورفض الخضوع لـ"فحص سيادي"، مذكراً بحملة التشكيك بالتزام التيار مرشح المعارضة لرئاسة الجمهورية الوزير السابق جهاد أزعور، التي ظهرت نتائجها المعاكسة في جلسة الانتخاب. وأكد عطالله أن "التيار الوطني الحر يعرف جيداً ما يريده وهو لن يخجل بأي موضوع. وسيرفض بشكل قاطع مطلب تسليم سلاح "حزب الله" الآن، لأنه غير قابل للتنفيذ وسيسبب ضرراً إضافياً". وأضاف "لن نكون شعبويين ونخاطب الغرائز على مستوى المدارس والجامعات بل على مستوى الوطن".