Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

هل تؤسس الحرب في السودان لصراع الميليشيات؟

بعيداً من معسكرات استنفار المدنيين للمشاركة في الحرب إلى جانب الجيش كانت تدار عمليات تجنيد أكثر جدية وعلى أسس تنظيمية صارمة

أنشأ النظام السابق قوات مساندة للجيش هي مجموعات تنظيمية شبه عسكرية مزودة بأدبيات  "الإسلام السياسي" (اندبندنت عربية- حسن حامد)

ملخص

تشير الوقائع الأخيرة إلى أن الميليشيات التي يهيمن عليها النظام السابق تستخدم لصد تقدم "الدعم السريع" لكن من المرجح أنها ستكون بمثابة عائق خطر أمام السلام. وسيكون التحدي الأكبر الذي تواجهه الحكومة إيجاد طرق لكبح جماح الميليشيات أو دمجها في الجيش.

عانى السودان حروباً مزمنة طوال تاريخه، وفي عقوده الستة الماضية بعد الاستقلال سلطت الحرب الأهلية جنوب السودان، ومن ثم في دارفور الضوء على الطبيعة الأكثر تعقيداً للعنف السياسي في البلاد، معبرة عن قضايا المركز والهامش.

وارتبطت بتخصيص الموارد واستخراجها واستغلالها، كما ارتبطت بالهوية والتعبئة حول الاختلافات الدينية والطائفية في حال جنوب السودان والاختلافات الإثنية في حال حرب دارفور. أما الحرب الحالية فمنذ اندلاعها في أبريل (نيسان) 2023 وحتى بلوغها العام تبدو ذات طبيعة ملتبسة أسهمت في خلق صراع مجتمعي سيواجه السودان جراءه، وإن انتهت الحرب، نوعين من الميليشيات قبلية وأيديولوجية، وهي مجموعات فاعلة غير حكومية تختلف عن القوات النظامية في درجة تجانسها وأهدافها وتسليحها وتنظيمها وأنشطتها، قد تكون متحالفة إما مع الجيش أو قوات "الدعم السريع".

 عندما اندلعت الحرب وتركز الاهتمام على طبيعة الصراع العشوائية، إذ طاول الهجوم المدنيين في العاصمة الخرطوم ثم إقليم دارفور، نفت كل من القوات المسلحة و"الدعم السريع" ارتكابهما لهذه التجاوزات، واتهم كل منهما جهة ثالثة ترتدي زي الجيش أو "الدعم السريع"، إذ أشارت بعض التغطيات إلى أن هناك أطرافاً مساندة في هذه الحرب للطرفين الرئيسين.

 

 

بعد فترة قصيرة استجاب زعماء القبائل والإدارات الأهلية لدعوة قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان إلى تسليح المدنيين لمواجهة قوات "الدعم السريع"، وفي الوقت ذاته كانت هناك كتائب مسلحة جاهزة للدخول في الحرب، ولكن لم يكُن بالإمكان دفعها إلى ساحة المعركة بهذه السرعة وبصورة منفردة، مما يظهر هويتها ويسهل إدانة الجيش من قِبل المجتمع الدولي، ولذلك جاءت الدعوة إلى الاستنفار الشعبي كي تمهد لظهورها في ساحة مليئة بالميليشيات.  

  على رغم أن المستنفرين التحقوا بالتجنيد ووزعت عليهم قطع من الأسلحة بالتنسيق مع عناصر من الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش، إلا أن كثيرين شهدوا بأن حملات الاستنفار لم تكُن كلها جدية، بل إن بعض المتطوعين ذهبوا إلى مراكز التجنيد ولكن لم يجدوا تجاوباً من الجهات المعنية، مما فُسر بأن هذه الحملات للتعمية فقط، وبعيداً من معسكرات المدنيين تُدار عمليات تجنيد أكثر جدية وعلى أسس تنظيمية صارمة تقيد التجنيد بالانتماء الأيديولوجي.

نهج مستمر

ثمة من يشبه فترة الحرب الحالية بالصراع الذي وقع بعد اندلاع الثورة المهدية، ففي إطار ترسيخ دولته قام محمد أحمد المهدي عام 1884 بالإغارة على الخرطوم التي كانت تحت الحكم التركي- المصري منذ 1821، وارتكب خليفته عبدالله التعايشي الآتي من دارفور انتهاكات واسعة ضد سكان الخرطوم، وحكم في الفترة من 1885 بعد وفاة المهدي حتى عام 1899 تاريخ مقتله في معركة أم دبيكرات آخر معارك المهدية ضد الاستعمار الإنجليزي.

اقرأ المزيد

ولكن أستاذ الدراسات الأفريقية والإسلامية بقسم التاريخ في جامعة لويولا بشيكاغو كيم سيرسي أعاد جذور الحرب الحالية إلى الفترة الاستعمارية للسودان تحت الحكم الإنجليزي- المصري (1898-1960) التي تبنت خلالها بريطانيا استراتيجية "فرّق تسد"، فقامت الهويات الإثنية بدور أساسي بتركيزها على الإدارة المحلية. وعليه ترسخ نظام السيطرة اللامركزية بفصل السكان المحليين على طول الخطوط القبلية وحكمهم بصورة غير مباشرة من قبل الزعماء المحليين، بتنظيم الإدارة الأهلية وفق قانون صلاحيات مشايخ البدو 1922 الذين جعلوا الوصول إلى الأراضي والموارد والخدمات الحكومية يعتمد على الهوية الإثنية، فأعلت من شأن العرب واعتبرت غيرهم من القبائل الأفريقية في مرتبة أدنى منهم.

 

 

توثق الذاكرة السياسية القريبة استمرار تلك الممارسات حتى ثمانينيات القرن الماضي، ففي بدايات العقد حاول العقيد معمر القذافي تأسيس دولة قومية عربية تمتد من منطقة الساحل الأفريقي لتشمل تشاد والسودان وركز على إقليم دارفور بضرورة إحلال العرب محل "الزُرقة"، فدعم مجموعة "التجمع العربي" التي اتخذت من ليبيا مقراً لها.

وقبل نهاية ذلك العقد، كلفت حكومة الصادق المهدي (1986- 1989) وزير دفاعها فضل الله برمة ناصر توزيع السلاح على القبائل العربية (المسيرية والرزيقات والمعاليا) في إقليمي دارفور وكردفان في المناطق المتاخمة لمعاقل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق.

كانت القوات تسمى "المراحيل" وتحولت في تسعينيات القرن الماضي إلى "الجنجويد" بزعامة موسى هلال، ثم إلى قوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وفي كل مراحلها ارتكبت هذه الميليشيات بدعم من الحكومة والسلطات المحلية المكونة من الإدارات الأهلية فظائع مثل حرق القرى وقتل المدنيين والسلب والنهب.

عنصر أساسي

لم تكتفِ حكومة "الإنقاذ" بقيادة عمر البشير بهذه الميليشيات التي ولدت في عهد الديمقراطية الثالثة في ظل حكومة المهدي، وكبرت وترعرعت في كنفها، ولكنها أنشأت قوات مساندة للجيش هي كتائب مقاتلة من تنظيم "الأخوان المسلمين" منها "الأمن الشعبي" و"الاحتياطي المركزي" وقوات "الدفاع الشعبي" وغيرها من المجموعات التنظيمية المسلحة شبه العسكرية التي تأسست على فكرة أنها أجنحة عسكرية للجيش السوداني، وهي مزودة بأدبيات  "الإسلام السياسي" المستقاة من حسن البنا وحسن الترابي، فكان يُطلق عليهم اسم "المجاهدين" ثم "الدبابين".

 

 

خلال هذه الحرب، كانت الكتائب عنصراً أساسياً في القوات النظامية وعلى درجة عالية من الاستقلالية، إذ تم تأهيلها منذ قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) وفقاً لثلاثة عوامل، الأول مستوى قوتها العسكرية التي تم اختبارها خلال الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام السابق وخلال عملية فض الاعتصام التي لا يزال منفذوها مجهولين، ولكن تشير دلائل عدة إلى أنها ضالعة فيها إلى جانب القوة الرسمية وهناك قوات "الاحتياطي المركزي" وهم نواة هذه الكتيبة، والعامل الثاني هو تداخل أهداف العسكر مع أهداف هذه الكتائب.

أما العامل الثالث، فهو درجة التنظيم من القاعدة إلى القمة الذي استقى أساسياته من أيديولوجيا التنظيم الإسلامي.

 يكمن الفرق بين هذه الكتائب التنظيمية المؤدلجة وبين الميليشيات الإثنية في أن الولاء الأكبر للمجموعات الإثنية يزيد من استقطاب المجتمعات، ونتيجة لذلك ترتبط بفترة صراع أهلي أكثر حدة وكثافة وأطول أمداً. أما الكتائب، فإنها تنفذ من خلال نظام حكم مثل النظام السابق بصنعها ورعايتها وتسخيرها للحرب معه والدفاع عنه، وكان بالإمكان أن تكون نهايتها معه عند سقوطه عام 2019، لولا أن تسربت عناصرها من بين الشقوق إلى عمق المؤسسة العسكرية، فالأعضاء السابقون في التنظيم الإسلامي ونظام البشير لا يزالون يتمتعون بعلاقات قوية مع قيادات نافذة في الجيش، بل إن هناك أصوات حذرت من محاولات سيطرتها على القوات المسلحة. ومع اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، يذكر السودانيون جيداً اللقاء التلفزيوني الذي أعلن فيه الأمين العام السابق للحركة الإسلامية علي عثمان محمد طه أن النظام لديه "كتائب ظل" يمكن إنزالها إلى الشارع للدفاع عن النظام ضد المحتجين.

عمليات مستقلة

 عادت هذه الكتائب للضوء مرة أخرى بعد اندلاع الحرب، وأعلنت مشاركتها في القتال إلى جانب الجيش ضد قوات "الدعم السريع"، ومنها كتيبة "البنيان المرصوص" وهي من أكبر كتائب "الدفاع الشعبي" وهناك كتيبة "غاضبون بلا حدود" التي نشطت أثناء الاحتجاجات وكتيبة "المطمورة". أما أبرزها، فهي "كتيبة البراء بن مالك" التي ظهرت في مقاطع فيديو عدة ووصل نفوذها إلى أنها نفذت عمليات مستقلة متعارضة مع خطة القوات المسلحة، وعمل بعض عناصرها على إحداث انقسامات داخل مؤسسة الجيش، بل عمدوا إلى تصفية عدد من الضباط داخلها، مما عرض أفراد الكتيبة لخضوعهم للمحاكمة، ثم تم العفو عنهم وعادوا مرة أخرى لكنف الجيش،  بل أعلن عن تحويل الكتيبة إلى "لواء" على إثر انضمام أعداد كبيرة من مقاتليها إلى الجيش في سلاح المدرعات جنوب الخرطوم أحد أبرز مقار الجيش حيث يُخطط لقتال "الدعم السريع".

 ترتبط "كتيبة البراء بن مالك" بالقوات الخاصة المنبثقة من قوات "الدفاع الشعبي" التي أسسها النظام السابق بعد تنفيذه الانقلاب العسكري بأشهر قليلة، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 أجيز قانون هذه القوات التي ضمت قرابة 100 ألف مقاتل، وكان التدريب ضمن هذه القوات المدخل إلى الخدمة المدنية، ثم اقتصرت في التسعينيات على الخدمة العسكرية والأمنية. 

بعد المفاصلة الشهيرة عام 1999 التي استبعد فيها الرئيس السابق عمر البشير، عراب النظام حسن الترابي ومجموعته، كانت هذه المجموعة أكثر ميلاً إلى الترابي ولكن لضرورات الإمدادات اللوجستية ظلت مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، في حين قرب حزب "المؤتمر الشعبي" بزعامة الترابي حركة "العدل والمساواة" من دارفور فعوض الميليشيات الأيديولوجية بأخرى إثنية. واستمرت قوات "الدفاع الشعبي" على هذا النهج حتى ثورة 2018، إذ حلتها وزارة الدفاع وحولتها إلى قوات احتياط تابعة للوزارة عام 2020.

 بدأت "كتيبة البراء بن مالك" ظهورها العلني مرادفة للجيش السوداني منذ بداية الحرب، وبعد ساعات من خروجه من حصار دام أكثر من أربعة أشهر داخل أحد مباني القيادة العامة، زار الفريق البرهان زعيم الكتيبة المصباح أبو زيد في مستشفى الشرطة بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمال السودان على إثر إصابته في مواجهة مع قوات "الدعم السريع" بعد أشهر قليلة من الحرب، وتضم الكتيبة الكادر في تنظيم الأخوان المسلمين ورئيس حزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم أنس عمر وغيره من الكوادر التنظيمية. 

تضارب التوجيهات

 بينما دعا قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى تسليح المواطنين لمواجهة قوات "الدعم السريع"، وأكد أن تسليح المقاومة الشعبية وتنظيمها كي تدافع عن نفسها ووطنها في مواجهة "المتمردين" تحت إمرة القوات المسلحة، وجه نائبه الفريق أول شمس الدين كباشي كل قادة القوات المسلحة بأن تكون عمليات صرف السلاح حصرياً تحت إدارة القوات المسلحة.

 وشدد كباشي على أن "المقاومة الشعبية ستكون هي الخطر التالي على السودان إن لم تضبط، ويجب ألا تُستغل لأغراض سياسية، وأن من يحمل لافتة سياسية يجب ألا يدخل معسكرات الجيش"، مما فُسّر على أنه رسالة وجهها كباشي إلى عناصر النظام السابق المتهمين بالسيطرة على المقاومة الشعبية، ويتوقع كثر أن دعوة البرهان يمكن أن يستغلها "الأخوان المسلمون" لتنفيذ أجنداتهم عبر إعادة تنظيم صفوف قواتهم شبه العسكرية بغرض الاستيلاء على السلطة. وفي السياق، دافع مساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق ياسر العطا عن هذه الكتائب بحجة أن وجود أخطاء داخل تلك المجموعات يمكن تصحيحها.

 

 

لفت هذا التضارب في توجيهات قيادات الجيش إلى أن هناك خلافاً حول الاستقلالية التي تتمتع بها هذه الكتائب، خصوصاً كتيبة "البراء بن مالك" في إدارة المعارك العسكرية بين الجيش وقوات "الدعم السريع".

تمدد الميليشيات

 تشير الوقائع الأخيرة إلى أن الميليشيات التي يهيمن عليها النظام السابق تستخدم لصد تقدم "الدعم السريع" لكن من المرجح أنها ستكون بمثابة عائق خطر أمام السلام، وسيكون التحدي الأكبر الذي تواجهه الحكومة إيجاد طرق لكبح جماح الميليشيات أو دمجها في الجيش.

لا تزال استقلالية هذه الكتائب موضوعاً مثيراً للجدل، وسيتواصل إلى حد كبير في ظل التطورات السياسية في فترة ما بعد الحرب.  وستواجه الحكومة مسألة تأمين احتكار الدولة لاستخدام القوة، مما يعكس واقعاً مؤسفاً يُفسر برغبة شريحة من المجتمع، تقوم بدورها هذه الكتائب باعتبارها الأقرب للجيش، في استمرار الحرب، مما يهدد على المدى المتوسط والطويل مؤسسة الدولة. ويمكن أن تدخل الجهات غير الحكومية الفاعلة في الحرب في تحدٍ مع المؤسسة الرسمية والقوى السياسية في محاولة احتكار الدولة للجوء إلى القوة.

لفتت مشاركة كتيبة "البراء بن مالك" في معارك مدينة أم درمان الأخيرة وإعادة السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون، إلى تصدرهم المشهد العسكري، مما أدى إلى استهجان بعض عناصر الجيش. استمرت الكتيبة في البقاء تحت الأضواء ومحاولات كسب الظهور الإعلامي على حساب الجيش، وأثناء إقامتها إفطاراً رمضانياً جماعياً في مدينة عطبرة نفذت طائرة مسيّرة قصفاً على موقع التجمع بعدما نشر قائد الكتيبة إحداثيات الموقع على "فيسبوك"، فأسفرت الحادثة عن قتل 6 أشخاص وجرح 18 آخرين، مما يحذر بدوره من احتمال انتقال العمليات العسكرية وتمدد رقعة القتال إلى ولايات آمنة كانت تمثل ملاذاً للنازحين من مناطق الحرب.

المزيد من تقارير