ملخص
شهدت الهند في العقد الماضي التآكل المنهجي لكل صور التعددية، فالممثل الوحيد للهند محلياً ودولياً في الوقت الحالي هو حزب واحد، حزب بهاراتيا جاناتا، وفي داخله رجل واحد، هو رئيس الوزراء ناريندرا مودي
من المقرر هذا الربيع أن تجري الهند انتخاباتها العامة الـ18. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي من المرجح أن يفوز بولاية ثالثة في منصبه. وسوف يؤكد هذا الانتصار مكانة مودي المميزة. فهو يهيمن على البلاد بأكملها ويلقي بظلاله ونفوذه عليها وكأنه من العمالقة، واعداً الهنود بأنهم أيضاً سيبرزون وسيتقدمون على المسرح العالمي. ومع ذلك، فإن طبيعة سلطة مودي، المتسمة بالسيطرة العنيفة التي يسعى رئيس الوزراء وحزبه إلى فرضها على بلد متنوع ومعقد للغاية، تهدد بتقويض طموحات الهند في أن تصبح قوة عظمى.
ويهيمن مودي، الزعيم الذي يتمتع بجاذبية هائلة والمتحدر من خلفية متواضعة، على المشهد السياسي الهندي وهو أمر لم يفعله سوى اثنين من أسلافه الـ15: جواهر لال نهرو، الذي شغل منصب رئيس الوزراء منذ استقلال الهند في عام 1947 حتى عام 1964، وابنة نهرو، إنديرا غاندي، رئيسة الوزراء منذ عام 1966 حتى عام 1977 ثم مرة أخرى من عام 1980 إلى عام 1984. وفي أوج عظمتهما، تمتع كلاهما بشعبية واسعة في جميع أنحاء الهند، متجاوزين حواجز الطبقة والجنس والدين والمناطق الجغرافية، على رغم أن سنواتهما الأخيرة في الحكم، على غرار ما يحدث في كثير من الأحيان مع القادة الذين يظلون في السلطة لفترة طويلة جداً، اتسمت بأخطاء سياسية أضعفت مكانتهما.
كان نهرو وإنديرا غاندي ينتميان إلى حزب "المؤتمر الوطني الهندي" الذي قاد نضال البلاد من أجل التحرر من الحكم الاستعماري البريطاني وبقي في السلطة لمدة ثلاثة عقود بعد الاستقلال. في المقابل، ينتمي مودي إلى حزب "بهاراتيا جاناتا" الذي قضى سنوات عديدة في المعارضة قبل أن يتحول إلى ما يبدو الآن الحزب المقدر له أن يتولى السلطة. ويكمن الاختلاف الأيديولوجي الرئيس بين حزب المؤتمر الوطني وبهاراتيا جاناتا في مواقفهما تجاه العلاقة بين الدين والدولة. في عهد نهرو خصوصاً، كان حزب المؤتمر ملتزماً التعددية الدينية، وذلك تماشياً مع التعهد الدستوري الهندي بضمان "حرية الفكر والتعبير والمعتقد والإيمان والعبادة" للمواطنين. على النقيض من ذلك، يرغب حزب بهاراتيا جاناتا في جعل الهند دولة تحكمها الغالبية وحيث تبنى السياسة والنظام العام، لا بل حتى الحياة اليومية، وفقاً للمبادئ الهندوسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر أن مودي ليس أول رئيس وزراء من حزب بهاراتيا جاناتا في الهند، فهذا الشرف يعود إلى أتال بيهاري فاجبايي، الذي تولى منصبه في عام 1996، ثم من عام 1998 إلى عام 2004. لكن مودي يستطيع ممارسة نوع من السلطة لم يكن متاحاً قط لفاجبايي، الذي كانت حكومته الائتلافية مكونة من أكثر من 10 أحزاب وأجبرته على مراعاة وجهات نظر ومصالح متنوعة. على النقيض من ذلك، وعلى مدى العقد الماضي يتمتع حزب بهاراتيا جاناتا وحده بغالبية برلمانية، وأصبح مودي أكثر صرامة بكثير من فاجبايي الذي كان معروفاً بأسلوبه المتواضع والمتحفظ. فوض فاجبايي السلطة إلى وزراء حكومته، واستشار زعماء المعارضة، ورحب بالنقاش في البرلمان. في المقابل، جعل مودي السلطة مركزية ومنوطة به وبمنصبه إلى حد كبير، وقوض استقلال المؤسسات العامة مثل القضاء ووسائل الإعلام، وكون مجموعة من الأتباع المخلصين الذين يفرطون في تمجيده والثناء عليه كقائد، وسعى إلى تحقيق أهداف حزبه الأيديولوجية بكفاءة منقطعة النظير.
وعلى رغم تفكيكه المؤسسات الديمقراطية، لا يزال مودي يتمتع بشعبية كبيرة. فهو مثابر وفطن للغاية، وقادر على جس نبض الناخبين وتكييف خطاباته وتكتيكاته وفقاً لذلك. يتجاهله المثقفون اليساريون باعتباره مجرد ديماغوجي، لكنهم مخطئون جداً، فمن جهة الالتزام والذكاء، هو يتفوق بأشواط على نظرائه الشعبويين مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، أو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، أو رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون. وعلى رغم أن سجله الاقتصادي متفاوت، فإنه نجح في كسب ثقة عدد من الفقراء من خلال توفير الغذاء وغاز الطهي بأسعار مدعومة للغاية من طريق برامج جرى التسويق لها على أنها هدايا شخصية من مودي. وسرعان ما انتقل إلى التكنولوجيات الرقمية، التي مكنت من توفير الرعاية الاجتماعية بصورة مباشرة والحد من فساد الوسطاء [الفساد الذي يحدث من خلال وسطاء يسهلون خدمات ما وغالباً ما يستغلون مناصبهم لانتزاع الرشى أو العمولات]. علاوة على ذلك، أشرف على تطورات كبيرة في البنية التحتية، تضمنت إنشاء طرق سريعة ومطارات جديدة تعتبر دليلاً على تقدم الهند تحت قيادة مودي.
في الواقع، ينظر كثير من أنصار مودي إلى فترة ولايته كرئيس للوزراء باعتبارها فترة تحول تاريخي. ويزعمون أنه قاد النهضة الوطنية في الهند. ويشيرون إلى أن الهند في عهد مودي تمكنت من التفوق على حاكمتها الاستعمارية السابقة المملكة المتحدة لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم، وسوف تتفوق قريباً على اليابان وألمانيا أيضاً. واستطراداً، أصبحت الدولة الرابعة التي تحط بمركبة فضائية على سطح القمر. لكن تأثير مودي يتعدى الإنجازات المادية. ويتباهى أنصاره بفخر بأن الهند أعادت اكتشاف جذورها الحضارية الهندوسية وتأكيدها، مما أدى إلى نجاحها المتمثل في تحرير العقل من الاستعمار، وهو تحرر يعد أكثر صدقاً حتى من ذلك الذي حققته حركة الاستقلال بقيادة المهاتما غاندي.
وتتخلل خطابات رئيس الوزراء ادعاءات بأن الهند على أعتاب تولي قيادة العالم. وفي سعيها إلى تحقيق طموحاتها العالمية، استضافت حكومته اجتماع مجموعة الـ20 في نيودلهي العام الماضي، وقد صمم هذا الحدث بعناية لإظهار مودي في أفضل صورة ممكنة، وهو يقف شامخاً بمفرده على المنصة المركزية، ويرحب بقادة العالم واحداً تلو الآخر بمن في ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن، ويرافقهم إلى مقاعدهم (وقد حدثت انتكاسة بسيطة في هذا الحدث المنسق بعناية، تمثلت في الغياب المتعمد للزعيم الصيني شي جينبينغ، الذي ربما لم يكن راغباً في مجاراة مودي في استعراض عظمته).
ومع ذلك فإن مستقبل الجمهورية الهندية يبدو أقل تفاؤلاً بكثير من الرؤية التي وعد بها مودي وأعوانه. لم تعمل حكومته على تهدئة الصراعات التي تدور حول مسألة الدين والمناطق الجغرافية، بل عملت في الواقع بنشاط على تأجيجها، مما قد يفتت نسيج البلاد الاجتماعي بصورة متزايدة. علاوة على ذلك، فإن عدم القدرة أو عدم الرغبة في معالجة الأنشطة الضارة التي تؤدي إلى تدهور البيئة أو الإضرار بها يهددان الصحة العامة والنمو الاقتصادي، فيما يسهم تآكل المؤسسات الديمقراطية في جعل الهند تشبه أكثر فأكثر نظاماً ديمقراطياً بالاسم فقط وتصبح نظاماً استبدادياً انتخابياً في ممارساتها على أرض الواقع. وخلافاً لادعاءات أنصار مودي بأن الهند ستتحول إلى "فيشواغورو" أي معلمة العالم ومرشدته، فالأرجح أنها ستظل على ما هي عليه اليوم: قوة متوسطة تتمتع بثقافة ريادة الأعمال النابضة بالحياة وانتخابات نزيهة في الغالب إلى جانب مؤسسات عامة تعاني الخلل والانقسامات المستمرة في مواضيع الدين والجنس والطائفة والجغرافيا. إن وهم الانتصار والقوة الذي صنعه مودي يحجب حقيقة أكثر جوهرية، وهي أن بقاء الهند كدولة ديمقراطية، ونجاحها الاقتصادي الأخير، ينبعان بصورة رئيسة من التعددية السياسية والثقافية، وهي على وجه التحديد الصفات التي يسعى رئيس الوزراء وحزبه الآن إلى القضاء عليها.
نظرة ثاقبة حول طريقة الحكم
بين عامي 2004 و2014، كانت تدير الهند حكومات ائتلافية بقيادة حزب "المؤتمر الوطني الهندي" وكان رئيس الوزراء هو الأكاديمي الاقتصادي مانموهان سينغ. بحلول نهاية فترة ولايته الثانية، كان سينغ قد بلغ الـ80 من عمره وكان مريضاً، لذا وقعت مهمة إدارة حملة حزب المؤتمر قبل الانتخابات العامة في عام 2014 على عاتق راهول غاندي الأصغر سناً بكثير. وهو ابن سونيا غاندي، الرئيسة السابقة لحزب المؤتمر، وراجيف غاندي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء، على غرار والدته إنديرا غاندي وجده نهرو. وفي الواقع، اتخذ مودي، الذي كان في السابق يترأس ولاية غوجارات المهمة لمدة عقد من الزمن، خطوة سياسية بارعة فقدم نفسه على أنه إداري عصامي متمرس ومجتهد، في تناقض صارخ مع راهول غاندي، نجل السلالة الحاكمة الذي لم يشغل أي منصب سياسي قط، وبحسب وصف مودي، المرشح الذي ورث نفوذه ويظن أنه يملك أفضلية على غيره لكنه في الحقيقة يفتقر إلى القدرة على القيادة بفعالية.
وعلى مدى 60 عاماً من الديمقراطية الانتخابية وثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المدفوع بالسوق، أصبح الهنود متشككين بصورة متزايدة في المطالبات بأحقية تولي الحكم على أساس النسب العائلي أو الامتيازات. ومن الأمور التي ساعدت في ذلك أيضاً، أن مودي كان خطيباً أكثر جاذبية من راهول غاندي، وأن حزب بهاراتيا جاناتا استفاد بصورة أفضل من وسائل الإعلام الجديدة والتقنيات الرقمية للوصول إلى المناطق النائية في الهند. في انتخابات عام 2014، فاز حزب بهاراتيا جاناتا بـ282 مقعداً، مقارنة بـ116 مقعداً قبل خمس سنوات، في حين انخفض عدد مقاعد حزب المؤتمر من 206 إلى 44 مقعداً فحسب. ومرة أخرى، وضعت الانتخابات العامة التالية في عام 2019، مودي في مواجهة غاندي، ففاز حزب بهاراتيا جاناتا بـ303 مقاعد مقابل 52 مقعداً لحزب المؤتمر. ومع هذه الانتصارات القاطعة، لم يسحق حزب بهاراتيا جاناتا حزب المؤتمر ويهينه فحسب، بل رسخ أيضاً سيطرته على السلطة التشريعية. في العقود السابقة، كانت الحكومات الهندية عبارة عن ائتلافات متنوعة تعتمد على التسوية والتنازلات لكي تبقى موحدة ومتماسكة. في المقابل، فإن الغالبية الكبيرة التي يتمتع بها حزب بهاراتيا جاناتا في عهد مودي أعطت رئيس الوزراء مجالاً واسعاً للتحرك، وحرية مطلقة وغير مقيدة في تحقيق طموحاته.
ويقدم مودي نفسه على أنه تجسيد حقيقي للحزب والحكومة والأمة، وأنه يحقق آمال الهنود وطموحاتهم بمفرده تقريباً. وفي العقد الماضي، برز نفوذ مودي وسلطته بطرق مختلفة، بما في ذلك بناء أكبر ملعب كريكت في العالم، يحمل اسمه، وإدراج صورته على شهادات التلقيح ضد فيروس كورونا الصادرة عن حكومة الهند (وهي خطوة لم تتبعها أي ديمقراطية أخرى في العالم)، وظهور صورة مودي على جميع المخططات الحكومية وحزم الرعاية الاجتماعية، إضافة إلى تفاخر أحد قضاة المحكمة العليا بأن مودي "صاحب رؤية" و"عبقري"، وتصريح مودي نفسه بأن الله أرسله لتحرير نساء الهند.
ينظر أنصار مودي إلى فترة ولايته كرئيس للوزراء باعتبارها فترة تحول تاريخي
وتماشياً مع هذا التقديس الكبير لشخصيته، حاول مودي، بنجاح كبير، أن يجعل الحكم والإدارة أداتين لأجندته الشخصية وليس جهداً تعاونياً بين عدد من المؤسسات والأفراد. في النظام الهندي، القائم على النموذج البريطاني، من المفترض أن يكون رئيس الوزراء هو الأول بين نظراء مساوين له، ومن المفترض أن يتمتع الوزراء بدرجة من الاستقلالية في مجالات سلطتهم. ولكن في عهد مودي، يتلقى معظم الوزراء والوزارات التعليمات مباشرة من مكتب رئيس الوزراء ومن المسؤولين المعروفين بولائهم الشخصي له. علاوة على ذلك، لم يعد البرلمان مسرحاً نشطاً للنقاش، حيث تؤخذ آراء المعارضة في الاعتبار عند صياغة التشريعات، وفي الواقع صارت مشاريع القوانين تمرر في دقائق، من طريق التصويت الشفهي، وغالباً ما يظهر المتحدثون في كلا المجلسين [مجلس النواب ومجلس الشيوخ] سلوكاً حزبياً للغاية. وقد علق عمل العشرات من أعضاء البرلمان المعارضين، وفي إحدى الحالات التي حدثت أخيراً، وصل عددهم إلى المئات، بسبب مطالبتهم رئيس الوزراء ووزير الداخلية بالإدلاء بتصريحات حول مسائل مهمة مثل الصراعات العرقية الدموية في المناطق الحدودية الهندية والانتهاكات الأمنية في البرلمان نفسه.
ومن المؤسف أن المحكمة العليا الهندية بذلت جهوداً محدودة من أجل وقف الاعتداءات على الحريات الديمقراطية. في العقود الماضية، دافعت المحكمة، في الأقل في بعض الأحيان، عن الحريات الشخصية، وعن حقوق الأقاليم، وعملت بمثابة كابح متواضع لسلطة الدولة التعسفية. ولكن منذ أن تولى مودي منصبه، أعطت المحكمة العليا في كثير من الأحيان موافقتها الضمنية على سوء سلوك الحكومة، على سبيل المثال، من خلال الامتناع عن إلغاء القوانين العقابية التي تنتهك الدستور الهندي بصورة واضحة. أحد هذه القوانين هو "قانون (منع) الأنشطة غير المشروعة" الذي يقيد بشدة إمكانية الحصول على إخلاء سبيل بموجب كفالة والمستخدم لاعتقال مئات الطلاب ونشطاء حقوق الإنسان وتوصيفهم بأنهم "إرهابيون" بسبب احتجاجهم السلمي في الشوارع ضد سياسات الغالبية التي ينتهجها النظام.
علاوة على ذلك، فإن أجهزة الخدمة المدنية والسلك الدبلوماسي يميلان أيضاً إلى الانصياع لتوجيهات رئيس الوزراء وحزبه، حتى عندما تتعارض المطالب مع الأعراف الدستورية. وعلى نحو مشابه، فإن لجنة الانتخابات، المسؤولة عن تنظيم الانتخابات ووضع القواعد، تميل إلى تسهيل تطبيق الخيارات التي يفضلها مودي وحزب بهاراتيا جاناتا. ونتيجة لذلك، تأجلت الانتخابات في جامو وكشمير وانتخابات المجلس البلدي في مومباي، أغنى مدينة في الهند، لسنوات عديدة لأن الحزب الحاكم ما زال غير متأكد من أنه سيفوز بها.
واستكمالاً، عملت حكومة مودي بصورة منهجية على تضييق المساحات المفتوحة للاعتراض بسبل ديمقراطية. وبطريقة موازية، يركز مسؤولو الضرائب تدقيقهم بصورة غير عادلة على شخصيات المعارضة. وتعمل قطاعات كبيرة من الصحافة بمثابة أبواق الحزب الحاكم خوفاً من خسارة الإعلانات الحكومية أو مواجهة حملات ضريبية انتقامية. وتحتل الهند حالياً المرتبة 161 من بين 180 دولة شملها استطلاع مؤشر "حرية الصحافة العالمي" World Press Index، وهو تحليل لمستويات الحرية الصحافية، إضافة إلى ذلك، فإن المناقشة الحرة في الجامعات العامة الهندية التي كانت نابضة بالحياة ذات يوم لا تلقى أي تشجيع حالياً، وعوضاً عن ذلك، أصدرت "لجنة المنح الجامعية" تعليمات لنواب رؤساء الجامعات بتثبيت "نقاط سيلفي" [نقاط لالتقاط صور السيلفي] في الحرم الجامعي من أجل تشجيع الطلاب على التقاط صورهم مع صورة مودي.
هذه القصة عن إضعاف الأسس الديمقراطية بصورة منهجية في الهند انتشرت وأصبحت معروفة على نحو متزايد خارج البلاد، وأعربت مجموعات الرقابة عن أسفها لتراجع أكبر ديمقراطية في العالم. لكن التحدي الجوهري الآخر الذي يواجه الهند، وهو تآكل البنية الفيدرالية للبلاد، يحظى باهتمام أقل. فالهند هي اتحاد ولايات تتمتع بمجالس خاصة منتخبة على أساس حق الراشدين بالاقتراع. وكما هو منصوص عليه في دستور الهند، فإن بعض المسائل، بما في ذلك الدفاع والشؤون الخارجية والسياسة النقدية، تقع ضمن اختصاص الحكومة المركزية في نيودلهي، فيما تقع مسؤولية قضايا أخرى، بما في ذلك الزراعة والصحة والقانون وإنفاذه، على عاتق الولايات. في المقابل، فإن مسؤولية إدارة بعض القضايا مثل الغابات والتعليم، تقع على عاتق الحكومة المركزية والولايات. يتيح توزيع السلطات هذا لمجالس الولايات درجة كبيرة من الحرية في تصميم السياسات وتنفيذها لصالح مواطنيها. وهذا يفسر التباين الكبير في نتائج السياسات في جميع أنحاء البلاد، ولهذا السبب، على سبيل المثال، تتمتع ولايتا كيرالا وتاميل نادو الجنوبيتان بسجل أفضل بكثير في ما يتعلق بالصحة والتعليم والمساواة بين الجنسين مقارنة بالولايات الشمالية مثل أوتار براديش.
وباعتبارها اتحاداً فيدرالياً كبيراً مترامي الأطراف، فإن الهند تشبه الولايات المتحدة. لكن ولايات الهند أكثر تنوعاً من ناحية الثقافة والدين، وبخاصة اللغة. ومن هذا المنطلق، تعتبر الهند أقرب إلى الاتحاد الأوروبي من حيث التنوع الذي نراه في جميع أنحاء القارة. فالبنغاليون، وشعوب كاناديغا، والكيراليون [شعوب كيرلا]، والأوديون [الناطقون بلغة أوديا في ولاية أوديشا]، والبنجابيون، والتاميل، على سبيل المثال لا الحصر، يتمتعون بتاريخ أدبي وثقافي غني بصورة غير عادية، ومميز عن غيره، ويختلف بخاصة عن الولايات الوسطى في شمال الهند حيث يهيمن حزب بهاراتيا جاناتا. وفي حين احترمت الحكومات الائتلافية هذا التنوع وعززته، سعى حزب بهاراتيا جاناتا في عهد مودي إلى فرض التوحيد بثلاث طرق: من خلال فرض لغة الشمال الرئيسة، وهي اللغة الهندية، في ولايات تتداول هذه اللغة فيها بصورة نادرة وحيث ينظر إليها السكان المحليون على أنها منافس غير مرحب به للغتهم، ومن خلال الترويج لعبادة مودي باعتباره الزعيم الوحيد الأكثر أهمية أو تأثيراً في الهند، ومن خلال الصلاحيات القانونية والمالية التي تأتي مع تولي القيادة في نيودلهي.
ومنذ وصول حكومة مودي إلى السلطة، عملت جاهدة على تقويض استقلالية مجالس الولايات التي تديرها أحزاب أخرى غير حزب بهاراتيا جاناتا. وقد حققت ذلك جزئياً من خلال منصب المحافظ [الحاكم] المحايد ظاهرياً، الذي عمل في كثير من الأحيان في الولايات التي لا يديرها حزب بهاراتيا جاناتا، لصالح الحزب الحاكم في نيودلهي. علاوة على ذلك، أقر البرلمان الوطني، من دون استشارة الولايات، بعض القوانين في مجالات مثل الزراعة، مع أنها تخضع ظاهرياً لسلطة حكومات الولايات. وبما أن عدداً كبيراً من الولايات المهمة والمكتظة بالسكان، بما في ذلك كيرالا، والبنجاب، وتاميل نادو، وتيلانغانا، والبنغال الغربية، تدار من أحزاب منتخبة شعبياً غير حزب بهاراتيا جاناتا، فإن العداء الصريح من حكومة مودي تجاه استقلالها الذاتي أثار انزعاجاً كبيراً.
وهكذا، خلال فترة ولايته التي امتدت لعقد من الزمان، عمل مودي بجهد على جعل السلطة السياسية مركزية ومنوطة به فحسب. وحين كان رئيس وزراء ولاية غوجارات، لم يعط زملاءه في مجلس الوزراء مسؤوليات كبيرة، بل اعتمد على البيروقراطيين الموالين له من أجل تسيير أمور الإدارة والحكم. كذلك، عمل باستمرار للسيطرة على المجتمع المدني والصحافة في ولاية غوجارات. ومنذ أن تولى مودي منصب رئيس الوزراء عام 2014، انتقل هذا النهج الاستبدادي في الحكم إلى نيودلهي. ومع ذلك، فإن سلطته الاستبدادية كان لها مثيل في السابق، خلال الفترة الوسطى من تولي إنديرا غاندي رئاسة الوزراء بين عامي 1971 و977، عندما عززت عبادة الشخصية وحولت الحزب والحكومة إلى أداتين تعملان وفقاً لإرادتها. لكن مودي ذهب إلى أبعد من ذلك في إخضاعه للمؤسسات وتعزيز تبعيتها له. وفي ما يتعلق بأسلوبه في الإدارة، فإن مودي يعتمد نسخة متطرفة من الأسلوب الذي اتبعته إنديرا غاندي.
مملكة هندوسية
على رغم التشابه في أساليبهما السياسية، فإن إنديرا غاندي ومودي يختلفان بصورة ملحوظة من ناحية الأيديولوجية السياسية. نشأت إنديرا غاندي في بوتقة النضال الهندي من أجل الحرية، متأثرة بمبادئ التعددية التي اعتنقها زعيمها المهاتما غاندي (الذي لم يكن على صلة قرابة بها) ووالدها نهرو، وكانت ملتزمة بشدة بفكرة أن الهند تنتمي بالتساوي إلى جميع المواطنين من مختلف الأديان. لقد رفضت، على غرار نهرو، فكرة أن تصبح الهند نسخة هندوسية من باكستان، الدولة المصممة لتكون وطناً لمسلمي جنوب آسيا. فالهند لن تحدد فن إدارة الدولة أو الحكم وفقاً لآراء الغالبية الدينية في المجتمع. بل ستتمتع الأقليات الدينية المتعددة في الهند، بما في ذلك البوذيون والمسيحيون والجاينيون والمسلمون والبارسيون والسيخ، بنفس الوضع والحقوق المادية التي يتمتع بها الهندوس. لكن مودي اتخذ وجهة نظر مختلفة. لقد نشأ في بيئة متشددة للحركة القومية الهندوسية، وهو يرى أن الطابع الثقافي والحضاري للهند تحدده الهيمنة الديموغرافية التي يتمتع بها الهندوس، ومصيرهم الذي ظل مكبوتاً لفترة طويلة.
إن محاولة فرض الهيمنة الهندوسية على حاضر الهند ومستقبلها تشتمل على عنصرين متكاملين. الأول هو انتخابي، ويتمثل في إنشاء قاعدة ناخبين هندوسية متماسكة وموحدة. فخلافاً للديانات الإبراهيمية مثل المسيحية أو الإسلام، تفتقر الهندوسية إلى البنية الفريدة، فهي لا ترفع نصاً دينياً واحداً (مثل الكتاب المقدس أو القرآن) أو مدينة مقدسة واحدة (مثل روما أو مكة) إلى مكانة مميزة خصوصاً، بل تتضمن عدة آلهة، وعدة أماكن مقدسة، وعدة أساليب عبادة. ولكن في حين أن عالم الطقوس الهندوسية تعددي، فإن نظامها الاجتماعي يظهر تاريخياً قلة تكافؤ كبيرة، ويتميز بمجموعات منظمة هرمياً بحسب الحالة الاجتماعية تعرف باسم الطبقات، ونادراً ما يتزاوج أعضاؤها أو ما يتشاركون الطعام حتى.
وقد حاول حزب بهاراتيا جاناتا في عهد مودي تقليص التعددية الهندوسية من خلال السعي إلى تجاوز الاختلافات الطبقية والمذهبية بين المجموعات الهندوسية المختلفة. وقطع وعوداً ببناء "راج هندوسي" Hindu Raj، وهي دولة يتمتع فيها الهندوس بالسلطة المطلقة. يزعم مودي أنه قبل صعوده، عانى الهندوس 1200 عام من العبودية على أيدي الحكام المسلمين، مثل سلالة المغول، والحكام المسيحيين، مثل البريطانيين، وأنه سيستعيد الآن الاعتزاز الهندوسي وسيطرة الهندوس على الأرض التي هي ملكهم الشرعي. ومن أجل تسهيل هذا المسعى، عمد القوميون الهندوس بصورة منهجية إلى تشويه صورة الأقلية المسلمة الكبيرة في الهند، وتصوير المسلمين على أنهم غير نادمين بدرجة كافية على الجرائم التي ارتكبها الحكام المسلمون في الماضي، وغير موالين بما يكفي للهند المعاصرة.
لقد بذل مودي جهوداً كبيرة من أجل جعل السلطة السياسية مركزية ومنوطة به فحسب
إن "هندوتفا"، أو القومية الهندوسية، عبارة عن نظام عقائدي يتميز بما أسميه "الانتصار المصحوب بجنون الارتياب". ويهدف إلى غرس الخوف بين الهندوس لإجبارهم على العمل معاً والسيطرة في نهاية المطاف على الهنود غير الهندوس. وفي وقت الانتخابات، يأمل حزب بهاراتيا جاناتا في تعبئة الناخبين الهندوس على أساس هويتهم الدينية. وبما أن الهندوس يشكلون ما يقارب 80 في المئة من السكان، إذا صوت 60 في المئة منهم بصورة أساسية على أساس انتمائهم الديني في النظام الانتخابي المتعدد الأحزاب في الهند، الذي يفوز فيه من ينال أكبر عدد من الأصوات، فإن ذلك يمنح 48 في المئة من الأصوات الشعبية لحزب بهاراتيا جاناتا. وهو ما يكفي لضمان فوز مودي وحزبه بهامش مريح. وبالفعل، في انتخابات 2019، فاز حزب بهاراتيا جاناتا بـ56 في المئة من المقاعد على رغم حصوله على 37 في المئة فقط من الأصوات الشعبية. ويتجاهل الحزب الحاكم بوضوح الحقوق السياسية للمسلمين البالغ عددهم نحو 200 مليون في الهند، حتى إنه نادراً ما يختار مرشحين مسلمين لخوض الانتخابات، إلا عندما يضطر إلى القيام بذلك في منطقة كشمير ذات الغالبية المسلمة. ومع ذلك، يواصل تحقيق الانتصارات في الانتخابات الوطنية بفارق مريح. وفي الواقع، يضم حزب بهاراتيا جاناتا 397 عضواً في مجلسي البرلمان الهندي، ليس من بينهم أي مسلم.
وقد سهل النصر الانتخابي ظهور العنصر الثاني من "هندوتفا" وهو إضفاء صبغة هندوسية واضحة على هوية الدولة الهندية. وقد اختار مودي نفسه خوض الانتخابات البرلمانية من فاراناسي، وهي مدينة قديمة تضم عدداً لا يحصى من المعابد وتعرف عموماً بأنها المركز الأكثر أهمية للهوية الهندوسية. لقد قدم نفسه على أنه حارس للتقاليد الهندوسية، مدعياً أنه في شبابه كان يتجول ويتأمل في غابات الهيمالايا على طريقة الحكماء القدماء. لقد جعل، لأول مرة، الطقوس الهندوسية مركزية في مناسبات علمانية مهمة، مثل افتتاح مبنى البرلمان الجديد، وهو حدث أداره بمفرده، محاطاً بجوقة من الكهنة المرتلين، في ظل غياب واضح لأعضاء البرلمان، ممثلي الشعب. وترأس، بطريقة مماثلة، الطقوس الدينية في فاراناسي، حيث كان الكهنة يهتفون "المجد للملك". وفي يناير (كانون الثاني)، كان مودي نجم العرض مرة أخرى عندما افتتح معبداً كبيراً في مدينة أيوديا في موقع يزعم أنه مسقط رأس الإله راما. وكلما بثت القنوات التلفزيونية مثل هذه الأحداث على الهواء مباشرة في جميع أنحاء الهند، تركز كاميراتها على شخصية مودي الأنيقة. وهكذا فإن الرجل الذي نصب نفسه زاهداً هندوسياً في الماضي، تولى رمزياً إن لم يكن فعلياً، دور الإمبراطور الهندوسي في يومنا هذا.
أعباء المستقبل
يستفيد الإمبراطور من ندرة المنافسين المحتملين، والنجاح السياسي المستمر الذي حققه مودي يرجع جزئياً إلى الانقسام والمحسوبية في صفوف المعارضة. وفي محاولة متأخرة لعرقلة فوز حزب بهاراتيا جاناتا بولاية ثالثة، اتحد ما يصل إلى 28 حزباً لخوض الانتخابات العامة المقبلة تحت راية موحدة. وقد اختاروا اسم "التحالف الوطني التنموي الهندي الشامل"، وهو اسم غير عملي يمكن الإشارة إليه باستخدام تسمية مختصرة وواضحة هي "إنديا" INDIA (أي الهند).
بعض الأحزاب في هذا التحالف قوية جداً في ولاياتها، والبعض الآخر لديه قاعدة جماهيرية بين طبقات اجتماعية معينة. لكن الحزب الوحيد في التحالف الذي يزعم أنه حزب وطني هو حزب المؤتمر. وعلى رغم سجله السياسي المزري، فإن راهول غاندي يظل الزعيم الرئيس لحزب المؤتمر. وفي ظهوره العلني، كثيراً ما ترافقه أخته، التي تشغل منصب الأمين العام للحزب، أو والدته، مما يعزز شعوره بالامتياز. علاوة على ذلك، فإن الأحزاب الإقليمية الكبرى، التي تتمتع بنفوذ في ولايات مثل بيهار، وماهاراشترا، وتاميل نادو، هي أيضاً مؤسسات عائلية، تنتقل القيادة فيها غالباً من الأب إلى الابن. على رغم أن جذورهم المحلية تجعلهم قادرين على المنافسة في انتخابات الولاية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالانتخابات العامة، فإن عبء التوارث الذي يحملونه يضعهم في وضع غير موات بصورة واضحة أمام حزب يقوده رجل عصامي مثل مودي، قادر على تقديم نفسه على أنه متفان بصورة كاملة ومطلق من أجل رفاهية مواطنيه بدلاً من كونه سليل عائلة حاكمة. وسوف يواجه تحالف "إنديا" صعوبة في إطاحة مودي وحزب بهاراتيا جاناتا، وربما يأمل، في أفضل تقدير، في إضعاف غالبية الأخير المهيمنة على البرلمان.
ويواجه رئيس الوزراء أيضاً ضغوطاً خارجية محدودة. في ظروف أخرى، قد يتوقع المرء أن تتعرض أساليب مودي الاستبدادية، لنوع من الانتقادات من جانب قادة الديمقراطيات الغربية. لكن هذا لم يحدث، ويرجع ذلك جزئياً إلى صعود الزعيم الصيني شي جينبينغ. لقد شن شي تحدياً عدوانياً للهيمنة الغربية ووضع الصين في موقع قوة عظمى تستحق الاحترام والنفوذ على قدم المساواة مع الولايات المتحدة في الشؤون العالمية، مما خدم مصلحة مودي بصورة كاملة. لقد تعامل رئيس الوزراء الهندي ببراعة مع المؤسسة الأميركية، فاستغل الجالية الهندية الكبيرة والثرية لتأكيد أهميته (وأهمية الهند) بالنسبة إلى البيت الأبيض.
في أبريل (نيسان) 2023، تجاوزت الهند الصين رسمياً باعتبارها الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. واستطراداً، يحتل اقتصادها المرتبة الخامسة من ناحية الحجم، ولديها جيش كبير ومجهز بصورة جيدة نسبياً. كل هذه العوامل تجعلها أكثر جاذبية بالنسبة إلى الولايات المتحدة كثقل موازن للصين. في هذا الإطار، أظهرت إدارتا ترمب وبايدن تساهلاً غير عادي تجاه مودي، واستمرتا في التهليل له باعتباره زعيم "أكبر ديمقراطية في العالم" حتى وإن أصبحت هذه الصفة أقل صدقية في ظل حكمه. فالهجمات في الأقليات، وقمع الصحافة، واعتقال الناشطين في مجال الحقوق المدنية، لم تجتذب إلا همهمة بسيطة من الاستنكار من جانب وزارة الخارجية أو البيت الأبيض. ومن المرجح أن تخفت الادعاءات الأخيرة بأن الحكومة الهندية حاولت اغتيال مواطن أميركي ينتمي إلى طائفة السيخ، من دون أي إجراء أو انتقادات عامة قوية. في المقابل، كان زعماء فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، الذين يسعون إلى الحصول على حصة أكبر في السوق الهندية (بخاصة في مبيعات الأسلحة المتطورة)، حريصين على الإفراط في تملقهم لمودي بصورة تفتقر إلى الصدق.
وفي الوقت الحالي، يهيمن مودي على الداخل ويتمتع بالحصانة ضد الانتقادات الخارجية. ومع ذلك، فمن المحتمل أن يحكم التاريخ والمؤرخون على إرثه السياسي والشخصي بصورة أقل إيجابية إلى حد ما مما قد يوحي به موقعه الرفيع الحالي. فمن ناحية، تولى منصبه في عام 2014 متعهداً تحقيق اقتصاد قوي، لكن سجله الاقتصادي متفاوت في أحسن الأحوال. ومن ناحية أخرى إيجابية، سرعت الحكومة بصورة مثيرة للإعجاب وتيرة تطوير البنية التحتية وعملية إضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد من خلال التكنولوجيا الرقمية. ومع ذلك، اتسعت فجوة عدم المساواة الاقتصادية. وفي حين أصبحت بعض المؤسسات العائلية القريبة من حزب بهاراتيا جاناتا ثرية للغاية، فإن معدلات البطالة مرتفعة، وبخاصة بين الشباب الهندي، ومعدلات مشاركة المرأة في سوق العمل منخفضة. والفوارق الإقليمية كبيرة ومتنامية، فأداء الولايات الجنوبية أفضل بكثير من ولايات الشمال على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن يذكر أن حزب بهاراتيا جاناتا لا يحكم أياً من الولايات الجنوبية الخمس.
بطريقة موازية، يهدد التدهور البيئي المتفشي في جميع أنحاء البلاد استدامة النمو الاقتصادي. وحتى في غياب مسألة تغير المناخ، فإن الهند تشكل منطقة كوارث بيئية، إذ تمتلك مدنها أعلى معدلات التلوث الهوائي في العالم، في حين أن عدداً كبيراً من أنهارها ميت بيئياً، بسبب النفايات الصناعية السائلة غير المعالجة ومياه الصرف الصحي المنزلية، إضافة إلى ذلك، تستنزف طبقات المياه الجوفية فيها بسرعة. وجزء كبير من تربتها ملوث بالمواد الكيماوية. وقد نهبت غاباتها وهي في طريقها لأن تصبح أقل تنوعاً بيولوجياً، وذلك بسبب الأعشاب الضارة غير المحلية.
وكان السبب وراء هذا التدهور هو أيديولوجية اقتصادية من الطراز القديم تفترض على نحو خاطئ أن البلدان الغنية هي الوحيدة التي تحتاج إلى التصرف بمسؤولية تجاه الموضوع البيئي، وأن الهند أفقر من أن تصبح دولة صديقة للبيئة. والواقع أن دولاً مثل الهند، بكثافتها السكانية الأعلى وبيئتها الاستوائية الأكثر هشاشة، تحتاج إلى التركيز بالدرجة نفسها، أو أكثر، على طريقة استخدام الموارد الطبيعية بحكمة. لكن الأنظمة التي يقودها حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا منحت ترخيصاً مجانياً لاستخراج الفحم والبترول وغير ذلك من الصناعات الملوثة. قبل حكومة مودي، لم يسبق لأي حكومة أن عملت بمثل هذه الفعالية على الترويج للممارسات التدميرية.
وفي الواقع، سهلت حكومة مودي عملية الحصول على تصاريح بيئية للصناعات التي تسهم في التلوث وقللت من صرامة عدد من الأنظمة المتعلقة بحماية البيئة. في سياق متصل، كتب الباحث البيئي روهان دي سوزا أنه بحلول عام 2018، "امتد الأسلوب الذي لا يرحم، المتمثل في تدمير المؤسسات والقوانين والأعراف البيئية القائمة وإضعافها، إلى الغابات والسواحل والحياة البرية والهواء، لا بل حتى إلى إدارة النفايات". عندما تولى مودي السلطة عام 2014، احتلت الهند المرتبة 155 من بين 178 دولة خضعت للتقييم وفق مؤشر الأداء البيئي، الذي يقدر مدى استدامة تنمية أي بلد من ناحية حالة الهواء والماء والتربة والموائل الطبيعية، وما إلى ذلك. وبحلول عام 2022، احتلت الهند المرتبة الأخيرة، فجاءت في المركز 180 من أصل 180 دولة.
إن التأثيرات المترتبة على هذه الصور المتنوعة من التدهور البيئي تلحق كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة على مئات الملايين من البشر. ويؤدي تدهور المراعي والغابات إلى تعريض سبل عيش المزارعين للخطر، في حين يسهم التعدين غير المنظم للفحم والبوكسيت في نزوح مجتمعات ريفية بأكملها، مما يجعل سكانها لاجئين بيئيين. ويهدد تلوث الهواء في المدن صحة الأطفال، فيتغيبون عن المدرسة، وصحة العمال فتنخفض إنتاجيتهم. وفي حال عدم التصدي لهذه الصور من الاعتداءات البيئية فهي ستضع أعباء غير مسبوقة على كاهل الهنود الذين لم يولدوا بعد.
لقد تعامل مع المؤسسة الأميركية ببراعة
وسوف تضطر أجيال المستقبل الهندية هذه أيضاً إلى تحمل عواقب تفكيك المؤسسات الديمقراطية التي يشرف عليها مودي وحزبه. إن الصحافة الحرة، والهيئات التنظيمية المستقلة، والقضاء المحايد الذي لا يعرف الخوف، كلها أمور ضرورية للحفاظ على الحريات السياسية، ومنع إساءة استخدام السلطة الحكومية، وتغذية جو من الثقة بين المواطنين. وسيكون بناؤها، أو ربما بصورة أكثر دقة، إعادة بنائها بعد تخلي مودي وحزب بهاراتيا جاناتا عن السلطة في نهاية المطاف مهمة شاقة.
وقد تصل الضغوط على فيدرالية الهند إلى ذروتها عام 2026، إذ من المقرر آنذاك إعادة توزيع المقاعد البرلمانية وفقاً للتعداد السكاني القادم، المقرر إجراؤه في ذلك العام. علاوة على ذلك، فإن ما يبدو حالياً مجرد تباين بين الشمال والجنوب قد يتحول إلى انقسام فعلي. وبالعودة لعام 2001، حينما طرحت فكرة إعادة توزيع المقاعد على أساس عدد السكان، زعمت الولايات الجنوبية أن ذلك سيكون مجحفاً في حقها بسبب اتباعها سياسات تقدمية في مجال الصحة والتعليم في العقود السابقة مما أدى إلى خفض معدلات المواليد وتعزيز حرية المرأة. وفي ذلك الوقت، فإن الحكومة الائتلافية الخاضعة لقيادة حزب بهاراتيا جاناتا التي كانت في السلطة اعترفت بصحة حجج الولايات الجنوبية، واقترحت، بموافقة المعارضة، تأجيل إعادة توزيع المقاعد البرلمانية لمدة 25 عاماً أخرى.
وفي عام 2026، سيعاد طرح هذه القضية، وأحد الحلول المقترحة هو الاقتداء بالنموذج الأميركي، الذي تمثل بموجبه دوائر الكونغرس الانتخابية حجم السكان في حين تحتفظ كل ولاية بمقعدين في مجلس الشيوخ، بغض النظر عن عدد السكان. وربما تسهم إعادة هيكلة "راجيا سبها" أو مجلس الشيوخ في البرلمان الهندي على مبادئ مماثلة في استعادة الثقة في الفيدرالية. ولكن إذا ظل مودي وحزب بهاراتيا جاناتا في السلطة، فمن شبه المؤكد أنهما سيفرضان عملية إعادة توزيع المقاعد على أساس عدد السكان لكل من "لوك سبها"، أي مجلس النواب، وراجيا سابها، وهذا الأمر سيصب بصورة كبيرة في مصلحة الولايات الهندية الشمالية الأكثر اكتظاظاً بالسكان ولكن الأقل تقدماً من الناحية الاقتصادية. ومن المحتم أن يؤدي ذلك إلى احتجاجات في الولايات الجنوبية. وسوف تجد الفيدرالية والوحدة الهندية صعوبة في التعامل مع التداعيات.
وإذا حقق حزب بهاراتيا جاناتا فوزاً انتخابياً ثالثاً على التوالي في شهر مايو (أيار)، فقد يتحول استبداد الأكثرية البطيء في عهد مودي إلى استبداد أكثرية يتحرك بخطى أسرع، مما يشكل تهديداً كبيراً لوحدة الأمة الهندية. ويحذر الهنود ذوو العقلية الديمقراطية والتعددية من أخطار تحول الهند إلى دولة مثل باكستان، تحددها الهوية الدينية. وربما تمثل تجربة سريلانكا مثالاً تحذيرياً أكثر وضوحاً. بفضل سكانها المتعلمين، والرعاية الصحية الجيدة، والمكانة العالية نسبياً للمرأة (مقارنة بالهند وبجميع البلدان الأخرى في جنوب آسيا)، وطبقتها المهنية الماهرة والوافرة، وجاذبيتها كوجهة سياحية، كانت سريلانكا تستعد في سبعينيات القرن الماضي لتنضم إلى سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان باعتبارها واحدة من دول ما يسمى النمور الآسيوية. ولكن بعد ذلك، ظهر مزيج قاتل من الغالبية الدينية واللغوية. فاختارت الغالبية البوذية الناطقة باللغة السنهالية توحيد صفوفها ضد الأقلية الناطقة باللغة التاميلية، التي كان معظمها من الهندوس. ومن خلال فرض اللغة السنهالية لغة رسمية والبوذية ديناً رسمياً، نشأ انقسام عميق، مما أثار احتجاجات في صفوف التاميل، كانت سلمية في البداية لكنها أصبحت عنيفة بصورة متزايدة عندما قمعتها الدولة. واندلعت في أعقاب ذلك ثلاثة عقود من الحرب الأهلية الدموية. وانتهى الصراع رسمياً في عام 2009، لكن البلاد لم تتعاف بعد من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو النفسية.
ومن المحتمل ألا تسلك الهند الطريق نفسه الذي سارت عليه سريلانكا. ومن المستبعد أن تندلع حرب أهلية شاملة بين الهندوس والمسلمين، أو بين الشمال والجنوب. لكن حكومة مودي تعرض للخطر مصدراً رئيساً لقوة الهند، وهو صورها المتنوعة من التعددية. وقد يكون من المفيد إجراء مقارنة بين فترة ولاية مودي، وتلك الممتدة بين 1989 و2014، عندما كان حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا لا يتمتعان بالغالبية في البرلمان. آنذاك، كان على رؤساء الوزراء إشراك الأحزاب الأخرى في الحكومة، وتخصيص وزارات مهمة لقادتها. وقد عزز ذلك أسلوب حكم أكثر شمولاً وتعاوناً، وأكثر ملاءمة لحجم البلد وتنوعه. ووجدت الولايات التي تديرها أحزاب أخرى غير حزب بهاراتيا جاناتا أو حزب المؤتمر تمثيلاً لها على المستوى الوطني، وسمعت أصواتها وأخذت مخاوفها في الاعتبار. وازدهرت الفيدرالية، مثلما ازدهرت الصحافة والمحاكم، التي حظيت بمجال أكبر لاتباع مسار مستقل. قد لا يكون من قبيل الصدفة أن الفترة التي تولت فيها الحكومة الائتلافية الحكم تزامنت مع ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المطرد في الهند.
عندما تحررت الهند من الحكم البريطاني عام 1947، اعتقد عدد من المتشككين أنها كانت كبيرة ومتنوعة جداً لدرجة أنها لا تستطيع أن تستمر كدولة واحدة، وأن سكانها فقراء وأميون للغاية بحيث لا يمكن ائتمانهم على نظام حكم ديمقراطي. وتوقع كثر بلقنة البلاد [أي تقسيمها إلى كيانات أصغر]، أو تحولها إلى ديكتاتورية عسكرية، أو معاناتها من مجاعة جماعية. لكن عدم حدوث هذه السيناريوهات الفظيعة يرجع إلى حد كبير إلى فطنة القادة المؤسسين للهند، إذ عززوا روح التعددية التي تحترم حقوق الأقليات الدينية واللغوية وسعوا إلى تحقيق التوازن بين حقوق الفرد والدولة، وبين الحكومة المركزية والولايات. وهذه الحسابات الدقيقة قد مكنت البلاد من البقاء موحدة وديمقراطية وسمحت لشعبها بالتغلب بثبات على الأعباء التاريخية المتمثلة في الفقر والتمييز.
وقد شهد العقد الماضي التآكل المنهجي لتلك الصورة المتنوعة من التعددية. فالممثل الوحيد للهند محلياً ودولياً في الوقت الحالي هو حزب واحد، حزب بهاراتيا جاناتا، وفي داخله رجل واحد، هو رئيس الوزراء. وقد ساعدت الكاريزما التي يتمتع بها مودي وجاذبيته الشعبية على تعزيز هذه الهيمنة، من الناحية الانتخابية. ومع ذلك فإن الكلف آخذة في التصاعد. فالهندوس يفرضون أنفسهم على المسلمين، فيما تؤكد الحكومة المركزية سيطرتها على الولايات، وتزيد الدولة القيود على حقوق المواطنين وحرياتهم. في المقابل، فإن التبني غير المدروس لنماذج التصنيع الغربية التي تعتمد على كثافة الطاقة ورأس المال يتسبب في أضرار بيئية وخيمة، وغير قابلة للإصلاح في كثير من الأحيان.
يبدو أن مودي وحزب بهاراتيا جاناتا يسيران على الطريق نحو تحقيق الفوز الثالث على التوالي في الانتخابات العامة. وهذا النصر من شأنه أن يضخم هالة رئيس الوزراء، ويعزز صورته كمخلص للهند. وسوف يتباهى أنصاره بأن الرجل الذين يؤيدونه يقود الأمة بالتأكيد لتصبح "فيشواغورو"، أو معلمة العالم. ومع ذلك، فإن مثل هذا الشعور بالانتصار لا يمكن أن يخفي خطوط الصدع العميقة تحته، التي ستتسع في السنوات المقبلة في حال عدم الاعتراف بها ومعالجتها.
*راماتشاندرا جوها هو أستاذ جامعي متميز ومرموق في جامعة كريا ومؤلف كتاب "الهند بعد غاندي: تاريخ أكبر ديمقراطية في العالم"
مترجم عن "فورين أفيرز"، مارس/أبريل 2024