شهد مجال تعدين الذهب في الأراضي المنخفضة غرب ووسط إقليم تيغراي الإثيوبي تواريخ من التنقيب عبر قرون مضت، إذ أغرت الثروات المعدنية داخل الصخور السفلية في عصر ما قبل الكمبري أجيالاً من المنقبين، بخاصة خلال فترات الجفاف، وشرع عمال المناجم الحرفيين في رحلات استكشافية على طول ضفاف الأنهار والأراضي المنخفضة والوديان بهدف استخراج الذهب.
وعلى رغم أن هذا النشاط ظل حبيس الممارسة التقليدية للمجتمع المحلي لقرون عدة، فإن الانتقال إلى العمليات الصناعية الواسعة النطاق بدأ متأخراً، بعد أن تم منح الامتيازات لشركات مثل "إيزانا" (Ezana Mining Development)، وهي شركة تابعة لصندوق إعادة تعمير تيغراي (EFFORT)، للاستثمار بكثافة في مصنع ذهب بمنطقة "تيراكيمتي" في شمال تيغراي، قرب بلدة "شيري إنداسيلاسي".
مع ذلك، فإن الحرب، التي اندلعت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، قوضت مثل هذه المساعي، مما أدى إلى تغيير مسار صناعة كانت على وشك التحول. وتعد "إيزانا" من بين 61 شركة في تيغراي أبلغ عن تعرضها لأضرار جسيمة بسبب الحرب.
على رغم مرور أكثر من عامين على توقف الحرب التي استمرت في الإقليم الشمالي الإثيوبي (2020-2022) قبل توقيع اتفاق "بريتوريا" للسلام. فإن شركات تعدين الذهب المحلية والأجنبية لم تستأنف بعد أنشطتها للتنقيب نظراً إلى تدهور الوضع الأمني، مما أدى إلى بروز أنشطة موازية لاستغلال هذه الثروة من قبل جهات لا تتوفر على رخص ممارسة التعدين، الأمر الذي دفع بالسلطات المحلية في الإقليم إلى رفع درجة التأهب لوقف الإهدار الكبير الذي تتعرض له هذه الثروة المعدنية، إذ تشير دلائل عدة إلى أن الظروف قد تتجه نحو الأسوأ، بخاصة بعد تصاعد التوترات بين المستثمرين والمجتمع المحلي، وقد شكل هذا الوضع أيضاً تحديات أمام الإشراف التنظيمي وجهود الحفاظ على البيئة.
من المسؤول؟
من جهته قال كيروس مفلس، وهو متخصص جيولوجي يعمل في مكتب الأراضي والتعدين بإقليم تيغراي، إن ثمة توترات متزايدة تشهدها المناطق الغنية بالذهب، مؤكداً أن الأمر لا يقتصر على التنقيب الموازي الذي تقوم به بعض الجهات المحلية، بما فيها الشباب العاطل عن العمل فحسب، بل ثمة شبكة دولية تتبع كيانات أجنبية تسهم في تنامي عمليات التنقيب غير القانوني.
كما يوجه الانتباه إلى أن الإدارة الموقتة لتيغراي تفتقر إلى الرقابة الكافية، مما أدى إلى مخالفات داخل قطاع التعدين، بما في ذلك أنشطة التعدين غير المصرح بها، فضلاً عن التدهور البيئي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير إلى أن ثمة تواطؤاً ملحوظاً من بعض المسؤولين المحليين، سواء في أجهزة الأمن أو دولاب الإدارة، في عمليات النهب المنظم التي يشهدها قطاع التعدين في الإقليم. منوهاً بأن التعدين الحرفي في المقام الأول يتم في المنطقة الشمالية الغربية من تيغراي، إذ يجري إنشاء عمليات جديرة بالملاحظة في مناطق مثل "تسيمبلا" و"أسدي" و"أدي دايرو" و"سيمت أديابو".
وفي وسط تيغراي، تعرف مناطق مثل "رحمة دربات" و"ندير" و"كولا تمبيان" و"هوازن" بإسهاماتها الكبيرة في إنتاج الذهب داخل المنطقة. ويؤكد الجيولوجي التيغراوي أنه بعد التوقيع على اتفاق "بريتوريا" للسلام بدأت الإدارة الموقتة لتيغراي عملية منح التراخيص للمستثمرين الذين يستوفون المعايير المحددة. مع ذلك فإن هذه الجهود لا تزال تواجه تحديات مستمرة. مشيراً إلى أن "الجهات الفاعلة غير المشروعة تستمر في انتهاك لوائح التعدين من خلال توفير المعدات لمشغلي التعدين غير المصرح لهم، والمشاركة في أنشطة تهريب الذهب" خارج البلاد.
ويوضح أنه على رغم أن تراخيص عمليات التعدين تمنح على المستوى الفيدرالي، فإن المكاتب الإقليمية تمتلك سلطة ترخيص أنشطة التعدين المتوسطة الحجم والحرفية ضمن ولاياتها القضائية. مشدداً على أن ثمة قلقاً متصاعداً يتعلق بالعواقب البيئية لتقنيات التعدين التقليدية وغير المصرح بها، والتي تنطوي على استخدام المواد الكيماوية مثل الزئبق، مما يشكل أخطاراً صحية كبيرة على كل من عمال المناجم والمجتمعات المجاورة.
وأكد أن "غياب القواعد واللوائح الرسمية إلى جانب عدم كفاية الرقابة يؤدي إلى تفاقم هذه التحديات". وقد سبق واعترفت السلطات الإقليمية بالوضع السائد، من دون أن تتمكن من إيقاف عمليات التعدين الموازي.
بدورها تؤكد مديرة التراخيص والإدارة في مكتب الأراضي والتعدين في تيغراي، فيسيها ميريسا، في تصريح للصحافة المحلية، أن "الخلافات المحيطة بعمليات تعدين الذهب وتداعياتها البيئية، بما في ذلك المخاوف من تآكل المياه والتربة لا تزال تمثل تحدياً للإدارة الموقتة في الإقليم".
وأكدت أن الأمر في حاجة ماسة إلى الرقابة القانونية، وتدابير حماية البيئة لضمان استدامة هذه الأنشطة مع ضمان الفوائد المجتمعية أيضاً. مشيرة إلى أن "الإدارة الموقتة لتيغراي تعمل استباقاً على إشراك المجتمع في المداولات المتعلقة بالاستخدام الحكيم للموارد".
وعلى رغم مساعي السلطات الإقليمية لتنظيم قطاع التعدين، فإن التحديات لا تزال قائمة، إذ تقوم أكثر من 300 جمعية مرخصة بعمليات في مناطق مختلفة من المنطقة.
تحطم آمال المستثمرين
ويدور النزاع حول منطقة تيغراي الشمالية الغربية، وتحديداً داخل منطقتي "أسجد" و"هيتساتس" المشهورتين باحتياطاتهما الكبيرة من الذهب.
وتحدث أفريم إيمانويل أحد المستثمرين المرخص لهم بالتنقيب عن الذهب في تيغراي، لصحيفة محلية بأن عمليات تعدين الذهب داخل تيغراي أضحت تنطوي على تحديات أمنية كبيرة، وأن ثمة مخاوف لدى الشركات الحاصلة على الترخيص في ممارسة نشاطها نتيجة انتشار التعدين الموازي، فضلاً عن تعرض معداتها للنهب والسرقة.
يؤكد المستثمر أنه بعد الحصول على الموافقات اللازمة من المكتب الإقليمي للأراضي والتعدين، شيد مباني لإقامة العمال بقيمة 3.7 مليون بر (65 ألف دولار) التزاماً بالمسؤولية الاجتماعية. موضحاً، "لقد أعطت شركتنا الأولوية للتعدين الثانوي لرواسب الذهب، وهو مسعى غير شائع نسبياً يهدف إلى تقليل التلوث الرسوبي والبيئي".
وأكد أن شركته حصلت على ترخيص يشمل ما لا يقل عن 10 هكتارات من الأراضي على طول النهر، باستثمار أولي قدره 120 مليون بر (2.2 مليون دولار) وقوة عاملة تتكون من 57 موظفاً، بغرض الاستثمار في التعدين الذي يتم على الرواسب الثانوية. ومع ذلك، واجهت جهود الشركة عديداً من العقبات الإدارية والأمنية.
وأضاف، "على رغم خضوع الشركة لإجراءات ترخيص صارمة امتدت لأشهر، فإنها واجهت انتكاسات منذ البداية، إذ شهدت توقفاً كاملاً للنشاط بعد ستة أيام فقط من بدء عملياتها. إن انتشار أنشطة التعدين غير المشروعة، التي تقودها فصائل جيدة التنسيق تستغل الوضع، أدى إلى تفاقم التحديات التي تواجهها الشركة".
وكشف أفريم أنه في منتصف مارس (آذار) 2024، واجه نشاطه تحدياً كبيراً عندما هاجمت مجموعات مسلحة مقراته، وقامت بطرد موظفي الشركة قسراً من معسكرهم، مما أدى إلى أعمال عنف ضد العمال ومصادرة المعدات، مؤكداً أنه "على رغم تقديم الالتماسات إلى السلطات الإقليمية المتخصصة، فإن نداءات الشركة للحصول على المساعدة قوبلت بتدخل محدود، مما جعلنا جميعاً عرضة لمزيد من الاعتداءات".
واعترافاً بالتحديات التي يواجهها المستثمرون، علقت مديرة التراخيص والإدارة في مكتب الأراضي والتعدين في تيغراي قائلة، إن تلك الأحداث تقع نتيجة اتهامات لا أساس لها من الصحة، ينشرها بعض الأفراد بهدف تشويه سمعة الشركات العاملة في التعدين، مما أدى إلى توترات داخل المجتمع".
وأشارت إلى أنه "على رغم سعي الشركات إلى القيام بمبادرات مفيدة مثل شق الطرق لأسر المحاربين القدامى والشهداء، فإن حسن نيتها طغت عليه النكسات والمضايقات غير المبررة من قبل جماعات مسلحة". موضحة أن المستشارين الأجانب الذين استعانت بهم بعض الشركات لمعالجة أوجه القصور التقني أسيء فهمهم، إذ يتم تصويرهم باعتبارهم مستثمرين أجانب مستغلين لثروات البلد.
ومع تزايد وجود شركات التعدين التي تبدأ عملياتها في المنطقة، يعرب السكان عن مخاوفهم حيال إدراجهم في الفوائد الناشئة عن هذه الأنشطة. وكما أفادت سلطات المنطقة، فإن عديداً من هذه المواجهات أدت إلى خلافات، مما دفع الشرطة إلى إجراء تحقيق.
وتؤكد السلطات الإقليمية أن المساعي جارية لإدماج الشباب العاطلين من العمل في هذه العمليات التعدينية من خلال إنشاء جمعيات. ووفقاً لفيسيها، يشارك حالياً ما يقارب 30 ألف شاب في أنشطة التعدين.
بصيص أمل
بدوره أوضح نائب رئيس مكتب الأراضي والتعدين في تيغراي، تسفاليم هادجو، أن الشباب المنظمين في إطار جمعيات مختلفة يشاركون بنشاط في أنشطة التنقيب عبر 26 مقاطعة في المنطقة حيث توجد مناجم الذهب.
وأكد تسفاليم في مؤتمر صحافي عقده للرد على أخطار الاستثمار في قطاع التعدين بالإقليم، أن السلام والاستقرار في المنطقة قد خلقا فرصة للجمعيات الشبابية المنظمة للمشاركة في ممارسات استخراج الذهب التقليدية. مشيراً إلى أنه تم منح الجمعيات المرخصة حق الوصول إلى ما يصل إلى 5 آلاف متر مربع من مناطق تعدين الذهب في مواقعها المفضلة منذ بداية فبراير (شباط) 2024.
وأشار تسفاليم إلى أن "الجهات غير الشرعية انتهزت الظروف والتحديات التي تواجهها المنطقة لاستغلال مناجم الذهب، والتحقيقات والمراقبة جارية حالياً لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد هؤلاء الجناة".
وأقر المسؤول التيغراوي بأن عمليات التنقيب والتعدين في تيغراي تسير بوتيرة بطيئة. كاشفاً عن أن 29 شركة غالبيتها أجنبية حصلت على التراخيص اللازمة للعمل في مرحلة الاستكشاف. ومشيراً إلى أن غالب عملياتها لا تزال خاملة نتيجة الأوضاع التي أعقبت الحرب، وقليل منها يتخذ خطوات لبدء العمليات بكامل طاقته.
آمال الشركات الأجنبية
بالاطلاع على قائمة الامتيازات الممنوحة من السلطات المركزية في أديس أبابا، نكتشف أن إحدى أهم هذه الشركات هي "Sun Peak Metals" الكندية، التي أعلنت أخيراً عن استئناف أنشطة التنقيب في موقعها بمنطقة "شري" الغنية بالذهب، إذ حصلت منذ سنوات على ستة تراخيص استكشاف في إطار مشروع "شيري" (Shire) التابع لها، والذي يغطي مساحة تبلغ نحو 1450 كيلومتراً مربعاً.
مع ذلك، توقفت عمليات الشركة لمدة ثلاث سنوات بسبب جائحة كورونا، وكذلك الصراع بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF). وأعلنت الشركة قبل شهرين عن استئناف أنشطتها التشغيلية، كاشفة عن عزمها بدء جهود التنقيب على ثلاثة تراخيص ضمن مشروع "شيري" في النصف الأول من عام 2024.
من جهتها، أدركت السلطات الفيدرالية في أديس أبابا، التحديات التي تواجهها شركات الذهب الواسعة النطاق العاملة في مجال التنقيب عن المعادن وتطويرها في المنطقة بسبب الحرب. مؤكدة مراراً أنها عازمة على استعادة الأمن في الإقليم، بغرض توفير الأرضية المواتية للاستثمارات المحلية والأجنبية.
ففي مقابلة مع وسائل الإعلام الحكومية في يوليو (تموز) 2023، أشار وزير الدولة للمناجم، مليون ماثيوز، إلى أن "هناك الآن فرصاً لاستئناف أنشطة استكشاف وتطوير التعدين في إقليم تيغراي". مشيراً إلى بدء تشغيل مصنع "أسمنت ميسوبو" كمثال على التقدم، والجهود جارية لتمكين الشركات الأخرى من استئناف أنشطة التنقيب والتعدين.
وأوضح أن عمال المناجم الكبار والمتوسطين والحرفيين في المنطقة كانوا ينتجون في السابق ما يصل إلى 900 كيلوغرام من الذهب سنوياً، ويزودونه بالسوق المركزية، مما جعل تيغراي واحدة من كبرى مناطق إنتاج الذهب في إثيوبيا.
وعلى رغم التأكيدات التي تطلقها الحكومة المركزية، فإن "إيزانا" التي تعد الشركة الإثيوبية الكبرى الحاصلة على امتيازات النشاط التعديني في تيغراي، لم تستأنف بعد أنشطتها بوتيرة عالية نظراً إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بمنشآتها في مناطق "تيراكيمتي" قرب "شيري تاون" أثناء الحرب. وكانت الشركة أسست في يونيو (حزيران) 1993، وقامت بأنشطة التنقيب في المنطقة الشمالية من البلاد لأكثر من عقدين من الزمن قبل أن تبدأ عمليات التعدين قبل سبع سنوات.
وعند الانتهاء من بناء مصنعها، الذي يتضمن استثماراً يزيد على 17.8 مليون دولار عام 2017، برزت الشركة باعتبارها ثاني أكبر مؤسسة لتعدين الذهب على نطاق واسع في إثيوبيا بعد "MIDROC Gold Mine PLC"، التي تعمل في مواقع استخراج الذهب التابعة لها في "ليجيدينبي" و"ساكارو".
وقبل بداية الحرب (2020) احتلت الشركة مكانة بارزة في صناعة التعدين، إذ مثلت عملياتها خمس إجمالي الذهب المورد للبنك المركزي الإثيوبي. وبعد توقف دام ثلاث سنوات أبرمت "إيزانا" اتفاقية مع البنك الوطني الإثيوبي (NBE) تنص على اعتبار الأولى الجامع الرسمي لجميع الذهب الذي ينتجه عمال المناجم الحرفيون في تيغراي. ويبلغ الإنتاج السنوي للإقليم حالياً 200 كيلوغرام من الذهب.
مع ذلك، فشل حجم التحصيل الحالي في تلبية التوقعات، ويعزى ذلك في المقام الأول إلى أنشطة تهريب الذهب الواسعة النطاق، والتي ترجع في الغالب إلى فجوات كبيرة في الأسعار بين السوق السوداء والقنوات الرسمية.
ويعزو الاقتصاديون هذا التفاوت، الذي من المقدر أن يصل إلى 2000 بر إثيوبي (35 دولاراً) لكل غرام كحد أقصى، يعمل بمثابة حافز لتهريب الذهب. بينما تؤكد الإدارة الموقتة لتيغراي أنها تواجه تحديات ناجمة عن هذه التفاوتات في السوق. مع ذلك، هناك جهود مستمرة جارية للتخفيف من هذه المشكلات بصورة فعالة، على حد قولها.
ويبقى مصير الاستثمار في مجال التعدين بإقليم تيغراي مرهوناً بالحال الأمنية، وطبيعة العلاقة بين المركز والإقليم، حتى تتجاوز إثيوبيا محنة الفقر والحاجة نحو تحقيق تنمية مستدامة قوامها الثروة المعدنية الكامنة في هذا الإقليم الموبوء بالصراعات السياسية.