Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوميات القراءة" تعكس صورة مارسيل بروست الناقد

يتضمَّن ذكريات البدايات لدى صاحب "البحث عن الزمن المفقود" ويؤكد انحيازه إلى الكلاسيكيات

الروائي الفرنسي مارسيل بروست (متحف بروست)

ملخص

يكشف كتاب "يوميات القراءة" وجهاً آخر لدى الروائي الفرنسي الكبير مارسيل بروست صاحب ملحمة "البحث عن الزمن الضائع"، هو وجه الناقد الرصين وذي الآراء الصائبة، لا سيما في أعمال الروائيين الذين سبقوه او جايلوه.

في العطلات التي كان يقضيها مع الأسرة في منزل ريفي، لم يكن الصبي مارسيل بروست يتوقف تقريباً عن القراءة، ليلاً ونهاراً. وهو الأمر الذي لازمه بقية عمره، سواء في أيام العطلات أو غيرها. وفي نص "يوميات القراءة" الذي صدرت له أخيراً ترجمة عربية جديدة بتوقيع دينا مندور(المركز القومي للترجمة) ، يؤكد مارسيل بروست (1871 - 1922) أن الأيام التي نقضيها بصحبة كتابنا المفضل هي أهم أيام حياتنا.

يسرد بروست بأسلوب يجمع بين سحر النص وعمق المعنى وبلاغة اللفظ، ذكرياته مع قراءاته الأولى وحولها؛ واصفاً ما يمكن أن نسميه الجو العام والخاص لتلك القراءات. وهو في رحلته المدهشة في عالم الكتب والقراءة يمنحنا جرعة جمال بعين روائي ومفكر استثنائي. وهو في ذلك لم يبخل على بعض الأسماء من معاصريه أو سابقيه من المفكرين والكتاب بالنقد وربما التقريع، مهاجماً من أشاد بهم من النقادُ؛ "بجرأة أو غرور لا يخفى على أحد ممن درس شخصية بروست". وإجمالاً فإن هذا النص القصير؛ "يظل وثيقة مرهفة وصادقة عن جانب مهم ودال في فكر مارسيل بروست ونفسه". وللعلم فإن هذا النص نشر للمرة الأولى عام 19ِ05. والحقيقة هي أننا بصدد كتيب من 40 صفحة من القطع الصغير، إلا أنه يُعَدُّ، على صغر حجمه من أهمِّ مؤلَّفات مارسيل بروست، بعد مؤلَّفه الضَّخم "البحث عن الزَّمن المفقود" الذي أكسبه شهرةً عالميَّة.

وتنبع أهمِّيَّة "يوميات القراءة"، كما ورد في المقدمة، من اشتماله على زُبدة الأفكار التي كوَّنها وعايشها بروست عن القراءة ودورها؛ لا في صقل موهبته الأدبيَّة فحسب، بل في تكوين شخصيَّته وإعطاء معنى للحياة وتقوية إرادته في العيش هو المريض منذ الطفولة بالرَّبو، والذي عانى من اضطرابات نفسية وعصبية كانت تقوده إلى المستشفى حيناً وإلى الانطواء والعزلة في معظم الأحيان، ومكَّنته من تحمل هذا كله، وصنعت منه كاتباً كبيراً جعل من سيرة حياته الحميمة سلسلة من الروايات الخارجة عن مقاييس الرواية التقليدية، من حيث السرد وبناء الشخصيات وغياب الحبكة والنهايات المفتوحة التي طبعت معظم عمله الروائي "البحث عن الزمن المفقود"، مما حمل بعض النقاد على اعتباره رائد الرواية الحديثة. وإلى تميزه كروائي، كان بروست ناقداً ومترجماً. 

ديكارت وشوبنهاور

في أحد مواضع هذا النص المأخوذ من كتاب "معارضات وتنويعات" (منشورات غاليمار)، يعارض بروست رأي ديكارت الذي يذهب إلى أن "قراءة الكتب الجيدة تشبه محادثة مع الأكثر أمانة في القرون الماضية؛ الكُتَّاب". يقول إن القراءة على عكس المحادثة، تنصب بالنسبة لكل منا على استقبال التواصل من فكر آخر، على أن نظل بمفردنا، أي أن نستمر في التمتع بالقدرة الذهنية التي نمتلكها أثناء الوحدة التي تبددها المحادثة على الفور، مستمرين في قدرتنا على تلقي الإلهام والبقاء وسط شغل خصب للفكر على ذاته. وعن كتاب "الكابتن فراكاس" لتيوفيل غوتييه، يقول بروست: "أحببت فيه جملتين أو ثلاثاً؛ بدت لي الأكثر أصالة وجمالاً في الكتاب كله. لا أتخيَّل أي كاتب آخر كتب مثلها. لكني أعتقد أن جمالها يعود إلى أن غوتييه لم يجعلنا نراها مرة أو مرتين في الكتاب كله إلا في ركن صغير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وإلى الكتب؛ شعراً ونثراً، تطرق بروست أيضا إلى الفن التشكيلي، ومن ذلك أعمال لكلود مونيه، وروجيه فان دير فايدن، وموريس دوني وفويار، وإلى موسيقى فينسان ديدي ومونسينيي. وما خلص إليه أن "المجهود السامي للكاتب كالفنان لم يبلغ إلا أن يرفع، جزئياً، أمامنا، ستارَ القبح واللا معنى، الذي تركنا غير شغوفين أمام العالم". وفي السياق ذاته، يقول، متوجهاً إلى قارئ افتراضي: "تعلَّم أن ترى واختف في هذه اللحظة. ذلك هو ثمن القراءة، وذلك أيضاً هو عدم كفايتها. توجد القراءة على عتبة الحياة الروحية؛ ويمكن أن تقدمها لنا: لكنها لا تشكلها". ويضيف أنه مع هذا توجد بعض الحالات، التي يمكن وصفها بالمرضية، من الاكتئاب الروحي، حيث تصير القراءة نوعاً من الانضباط العلاجي وتُحمَّل بمحفزات متكررة، وإعادة تقديم دائمة لعقل كسول في حياة الفكر". ويرى بروست أن الكتب تلعب دوراً موازياً لدور المعالجين في بعض الحالات العُصابية. ولاحظ كذلك أن القدرة على القراءة المربحة، إذا صحَّ القول، هي أكبر بكثير عند المفكرين مما عند كتَّاب الخيال. وقدَّم مثالاً على ذلك، شوبنهاور، الذي رأى أنه قدَّم صورة فكرٍ تحمل حيويته، بخفةٍ، كماً هائلاً من القراءات: "إن كل معرفة جديدة تنحسر فوراً إلى جانب الواقع، في الحصة الحيَّة التي يحتويها. لم يطور شوبنهاور قط رأياً إلا معتمداً على استشهادات عدة، لكننا نشعر أن النصوص التي يذكرها ليست إلا أمثلة بالنسبة له، أوهاماً لا شعورية ومتوقعة، ودَّ أن يعثر فيها على ملامح من فكره الخاص، لكنها لم تلهمه على الإطلاق".    

تفضيل الكلاسيكيات

ومما ذكره بروست؛ القارئ الناقد، في أحد هوامش هذا النص، أن "أعمال بلزاك ليست نقية بدرجة ما، وهي مخلوطة بفكر وواقع متحول في شكل ضعيف جداً". ومن آرائه التي تضمَّنها النص نفسه، أنّ حين لا يكون الكتاب مرآة لفردية مؤثرة، يظل مرآة لعيوب مثيرة للفكر، موضحاً في هذا السياق، أن المرور بكتاب لفرومنتان أو كتاب لموسيه، "يجعلنا نلمح ما يتميَّز بالضآلة والبلاهة في عمق الأول، وبفراغ البلاغة في عمق الثاني"! ويضيف أنّ، إذا كانت ذائقة الكتب تتقاطع مع الذكاء، فإن مخاطرها، تقل معه، معتبراً أن "الفكر الأصيل يستطيع إلحاق القراءة بنشاطه الشخصي، فهي بالنسبة له، ليست إلا التسلية الأكثر نبلاً، والأكثر رفعة؛ لأن القراءة والعلم وحدهما  يمنحان الطرق الجميلة للفكر". وهو يرى كذلك أن تفضيل العقول العظيمة للأعمال الأدبية القديمة، يرجع إلى أنها لا تمثل لنا فقط، مثل الأعمال المعاصرة، الجمالَ الذي وضعه مبدعوها فيها، "بل تمثل جمالاً أكثر تأثيراً، فأنا أرى اللغة التي يكتبون بها كمرآة للحياة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة