Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تأملات في شعر والت ويتمان أمام انحدار السياسة الأميركية اليوم

ما الذي كان يمكن أن يخطر في بال صاحب "أوراق العشب" وهو يتأمل حال الحلم الأميركي في أحدث "تجلياته"؟

والت ويتمان: نعي مبكر جداً للحلم الأميركي (غيتي)

ملخص

"قصيدة أوراق العشب" للشاعر الأميركي والت ويتمان صارت أشبه بنشيد جماعي والمعادل الموضوعي الداعي إلى ترسيخ قيم الطبيعة والإنسان والفن والإخاء والصداقة والحب والديموقراطية، في وقت كانت فيه الآلات الضخمة والجرافات بدأت تحطم الطبيعة وتقطع الأشجار وتردم ضفاف الأنهار لكي تقيم الجسور والطرقات والمصانع.

لعله من أكثر الأسئلة رهافة التي يمكن أن تطرح اليوم، ذلك السؤال الذي طرحه ناقد أدبي في إحدى المجلات الفكرية وأراد التعليق على ما يحدث في أميركا اليوم، أي منذ باتت المنافسة الرئاسية محصورة بين الرئيس السابق ترمب والرئيس الحالي بايدن، ناعياً على أميركا ما "آلت إليه من انحدار فكري وخلقي وجمالي"، تساءل الناقد: "ترى لو أن والت ويتمان ومن هم من طينته حياً بيننا اليوم يشاهد ما يحصل كيف سيكون رد فعله"؟

والحقيقة أن طارح السؤال إنما يطرحه هنا على صورة نعي لأميركا والأفكار الكبيرة التي صنعتها طوال القرنين الماضيين، لكنه لم يأت كأول نعي لها. ففي أوائل خمسينيات القرن الـ20 عندما كان شعراء جيل "البيت" (البيتنكس) وعلى رأسهم ألان غينسبرغ وغاري سنايدر يصرخون غاضبين: "أميركا ماذا فعلت بحلمك الجميل؟ أميركا أعطيناك كل شيء ولم تعطنا شيئاً"، كانوا يتذكرون سلفاً كبيراً لهم كان قبلهم صرخ في وجه أميركا صرخة أخرى: صرخة أمل بعبارات تفاؤل، كان ذلك السلف لا يزال يحلم بأميركا الرواد والطبيعة والتآخي بين البشر. إنه والت ويتمان، أما صرخته فحملت عنواناً لا تزال له قوته التعبيرية وحضوره الطاغي: "أوراق العشب" تلك "القصيدة" الطويلة المتعددة التي لم يتوقف ويتمان عن كتابتها، والإضافة إليها منذ وعى كونه شاعراً للمرة الأولى وحتى وفاته.

يوم ولد فنان كبير

كانت "أوراق العشب" على أية حال القصيدة الأميركية الأولى، بالمعنى الذي يمكننا اليوم أن نفهمه بهذه الكلمة. من هنا إذا كان عدد من الشعراء والكتاب الأميركيين رجموا ويتمان واعتبروه نشازاً وفاسداً وشاعراً سيئاً حين أصدر "أنشودة نفسي"، التي ستشكل جزءاً أساسياً لاحقاً من "أوراق العشب"، فإن إمرسون كاتب أميركا وشاعرها الأكبر في ذلك الحين لم يكن بعيداً من الصواب حين صرخ يقول بعدما قرأ القصيدة: "الآن يمكن للأميركيين الذين آثروا العيش في الخارج أن يعودوا، لقد ولد لدينا فنان كبير".

في ذلك الحين كان إمرسون الوحيد القادر على الدفاع عن "أوراق العشب" وويتمان، ولكن لاحقاً، وعلى رغم كل شيء، صارت "أوراق العشب" أشبه بنشيد جماعي لرفعة أميركا. وصارت المعادل الموضوعي الداعي إلى ترسيخ قيم الطبيعة والإنسان والفن والإخاء والصداقة والحب والديموقراطية، في وقت كانت فيه الآلات الضخمة والجرافات بدأت تحطم الطبيعة وتقطع الأشجار وتردم ضفاف الأنهار لكي تقيم الجسور والطرقات والمصانع.

ضرورة ما لقراء العربية في أواخر سبعينيات القرن الـ20، حين نقل الشاعر العراقي سعدي يوسف إلى العربية بعض مقاطع "أوراق العشب"، ولم يكن هو بالطبع أول من قدم هذا العمل إلى العرب، تساءل في نهاية مقدمته التوضيحية: "ما أهمية والت ويتمان للقارئ العربي والشعر العربي؟"، وأجاب "في رأيي أن تقديم ويتمان إلى قارئنا وشاعرنا في هذه المرحلة بالذات له أهمية كبرى، فهو أولاً نسمة شعرية صحية بين كثير مما يترجم من شعر إلى لغتنا. وهو ثانياً شاعر أمة في دور النهوض، مما يقدم لشعرنا المتطلع إلى أن يكون المعبر عن نهوضنا أنموذجاً عالياً. وهو ثالثاً شاعر ثورة شعرية امتدت إلى أوروبا وآتت أكلها، فقصيدة النثر ما كان لها أن تشق سبيلها الأوروبي لولا إسهامة ويتمان الكبرى. وهو رابعاً شاعر المحسوس والواقع المعيش والمفردة السائرة، وما أحوجنا وأحوج شعرنا إلى المحسوس والمعيش والمفردة السائرة".

والواقع أن الأديب الفرنسي فاليري لاربو الذي كان من أفضل من قدموا ويتمان إلى القارئ الفرنسي في القرن الـ20 سبق سعدي يوسف إلى هذا الرأي، وكان يرى أيضاً أن "طموح والت ويتمان كان يكمن في إعطاء أميركا مثلاً أعلى فلسفة وديناً". ولكن وكما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال، لم يكن الأميركيون أول وأفضل من استقبل شعر ويتمان، سبقهم الأوروبيون إلى ذلك، على رغم حماسة إمرسون الفائقة، وفاقوهم فيه، إذ كان الإنجليز - وبأقل منهم الفرنسيون - أول من احتفى بشعر ويتمان، وفي مقدمهم روزيتي وسوينبرن (الذي لم يفته أن يقارن ويتمان بويليام بليك).

سيرة ذاتية للحلم الأميركي

أما لاحقاً فكان كبيراً عدد أولئك الأدباء والشعراء الذين "ولدوا" من رحم شعر ويتمان، وحسبنا أن نذكر هنا أسماء هنري ميلر ود. هـ. لورانس وشعراء "جيل البيت"، لكي نموضع شعر ويتمان في مكانه الصحيح. ولكن بعد هذا، ما "أوراق العشب"؟ ببساطة، هي مجموعة قصائد تؤلف في نهاية الأمر قصيدة واحدة. والعمل هو من نوع ذاك الذي ينمو عاماً بعد عام، ففي البداية في تموز (يوليو) 1855 صدرت الطبعة الأولى من "أوراق العشب" مؤلفة من 12 قصيدة، هي التي رأى فيها إمرسون باكراً "أعظم قطعة حكم أنتجتها أميركا حتى الآن". وفي العام التالي أصدر الشاعر طبعة ثانية معدلة ثم وفي عام 1860 أصدر طبعة ثالثة تحمل 122 قصيدة إضافية، من بينها المجموعة التي تحمل عنوان "فالاموس" (تلك المجموعة التي دانها نقاد كثيرون حين صدورها مضافة، إذ رأوا فيها اعتداداً من ويتمان بمثليته الجنسية، فيما رأى نقاد أقل عداء لويتمان أنها إنما تحتفي "بتعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان لا أكثر"). وستظهر في حياة ويتمان ست طبعات أخرى، تضاف إلى كل منها قصائد جديدة، بحيث ضمت المجموعة في نهاية الأمر 411 قصيدة هي التي تؤلف اليوم متن "أوراق العشب" النهائي. واللافت أن هذه المجموعة على رغم أنها كتبت طوال عشرات السنين، وحكمت بعضها ظروف تختلف عن التي حكمت بعضها الآخر، تحمل في نهاية الأمر وحدة عضوية، من ناحية الشكل كما من ناحية المضمون، بحيث تبدو لنا اليوم عملاً متكاملاً واحداً بالكاد يمكن انتزاع مقطع منه، وهي في شكلها النهائي تبدو أقرب إلى أن تكون سيرة ذاتية للحلم الأميركي. لأميركا كما آلت على نفسها أن تكون، "بل كما كان يجب عليها أن تكون"، ويتجلى هذا أكثر ما يتجلى في المقاطع المعنونة "أنشودة نفسي"، التي تبدو كنشيد للثقة بالنفس، ودعوة إلى كل إنسان لكي يموضع نفسه في تيار الطبيعة الكونية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقاء مع ذات الشاعر

والحال أن هذه "الأنشودة" تبدو في نهاية الأمر وكأنها محور الكتاب كله، أما المكان فيها الذي نلتقي فيه وويتمان فيبدو في هذا السياق واضحاً، إذ يقول (بترجمة سعدي يوسف) في واحد من أجمل مقاطع "أنشودة نفسي": "أرحل كالهواء/ وأهز خصلاتي البيض للشمس الهاربة/ أهرق لحمي مياهاً، في جداول مسكرة/ أوحد نفسي بالتراب، لا نجم من العشب الذي أحب/ فإن أردتني ثانية فابحث عني تحت نعل حذائك/ قد لا تعرف من أكون وما أعني/ لكني سأكون لك العافية/ ونقاء الدم ونسيجه/ إن لم تجدني أولاً فلا تيأس/ إن افتقدتني في مكان فابحث عن مكان آخر/ ولتجدنني أنتظرك في مكان ثالث".

وبقي أن نذكر أخيراً هنا أن حياة والت ويتمان نفسها تكاد تكون أشبه بخلاصة للحياة التي عاشها من قبله وسيعيشها من بعده عشرات الكتاب العصاميين من الذين صنعوا مجد أميركا الأدبي، فهو الذي ولد عام 1819 في لونغ آيلاند، لم تدم دراسته طويلاً، إذ سرعان ما نراه يلتحق بالعمل صبي مكتب، ثم عامل طباعة ثم معلماً في مدرسة ثم صحافياً متجولاً، وينخرط بعد ذلك في السياسة عضواً في التجمعات الديموقراطية، ويبدأ بنشر كتاباته وأهمها في ذلك الحين الطبعة الأولى من "أوراق العشب". وحين تندلع الحرب الأهلية يجند كمسعف ويعيش بين القتلى والجرحى تجربة قاسية ستطبعه دائماً. وبعد انقضاء الحرب يعود سيرته ويصدر كتاباً عن الحرب، كما يكتب مرثاة لأبراهام لنكولن حين يقتل هذا الأخير. وفي عام 1871 يصدر "الرواية الديموقراطية". وفي عام 1873 يصاب بالشلل ويستقر في نيوجيرزي. ويمضي السنوات الـ20 الأخيرة من حياته وحتى رحيله في عام 1892، في مستقره لا يقطعه سوى تأرجح بين تجوال سريع وبين اهتمام بنشر كتبه وطبعات "أوراق العشب" المتتالية. ترى أمام تلك الكتابة وهذه السيرة هل سيكون غريباً أن يفترض كله أن ويتمان هو أصلح من يعلن نعي الحلم الأميركي من خلال ما آلت إليه أميركا اليوم على أيدي زعيميها؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة