ملخص
تملك فرنسا نحو 500 جندي في السنغال، البلد الواقع في غرب أفريقيا، وهي منطقة بدأت تنتقل فيها حمى معاداة الوجود الفرنسي من بلد إلى آخر بعد موجة انقلابات عسكرية شكلت إيذاناً بميلاد حكام مناهضين لباريس والغرب بصورة عامة.
ألمح رئيس الوزراء السنغالي المعين حديثاً عثمان سونكو إلى غلق القواعد الفرنسية في بلاده، في مؤشر جديد على حجم الغضب الشعبي تجاه باريس في أفريقيا التي فتحت أحضانها لروسيا، معلنة قطيعة مع القوى الغربية وفي مقدمتها فرنسا.
وجاء هذا التلميح اللافت في توقيته ودلالاته، بعد أيام من إعلان فوز المعارض باسيرو ديوماي فاي بالانتخابات الرئاسية في السنغال، وهو الذي انتقد خلال حملته الدعائية العلاقات التاريخية بين بلاده والاتحاد الأوروبي وفرنسا، مؤكداً أنها "يجب ألا تكون على حساب السنغال".
وقال سونكو المعروف بانتقاداته اللاذعة لسياسات فرنسا في القارة الأفريقية، إنه "بعد مرور أكثر من 60 عاماً على استقلالنا يجب أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل الجيش الفرنسي على سبيل المثال لا يزال يستفيد من قواعد عسكرية عدة في بلادنا، ومدى تأثير هذا الوجود في سيادتنا الوطنية واستقلالنا الاستراتيجي".
وتملك فرنسا نحو 500 جندي في السنغال، البلد الواقع في غرب أفريقيا، وهي منطقة بدأت تنتقل فيها حمى معاداة الوجود الفرنسي من بلد إلى آخر بعد موجة انقلابات عسكرية شكلت إيذاناً بميلاد حكام مناهضين لباريس والغرب بصورة عامة.
وقال سونكو "أكرر هنا رغبة السنغال في أن تكون لها سيطرتها الخاصة، مما يتعارض مع الوجود الدائم لقواعد عسكرية أجنبية في البلاد، لقد وعد عدد من الدول باتفاقات دفاعية، لكن هذا لا يبرر حقيقة أن ثلث منطقة دكار محتل الآن بحاميات أجنبية".
وتسعى فرنسا، وهي المستعمر السابق للسنغال وشريكها السياسي والاقتصادي الأول، إلى الحفاظ على وجودها في هذا البلد على رغم ما شهده من اضطرابات منذ عام 2021 بسبب الصراع القوي على السلطة بين الرئيس السابق ماكي سال ومعارضه الأبرز عثمان سونكو الذي دعم فاي إثر استبعاده من السباق الرئاسي.
رحيل محتمل
تلميح السلطات الجديدة في السنغال إلى إمكان غلق القواعد العسكرية في وجه القوات الفرنسية يأتي في خضم متاعب تواجهها باريس أصلاً في منطقة غرب أفريقيا، مما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى التخطيط لتقليص الحضور العسكري لبلاده في المنطقة المذكورة، بحسب ما أفاد تقرير لصحيفة "لو موند".
لذلك تقول الباحثة السياسية الفرنسية لوفا رينال إن "رحيل القوات الفرنسية من السنغال أمر محتمل، لكن يجب التأكيد أن سونكو ألمح إلى ذلك، لكنه لم يطلب بعد بصورة رسمية انسحابها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردفت رينال لـ"اندبندنت عربية" أن "موقف السنغال التام من هذا الأمر سيحسمه رئيس الجمهورية فاي الذي بيده صلاحيات إدارة الشؤون العسكرية في دكار''، مشددة على أن "هذا الأمر، أي انسحاب القوات الفرنسية من دول أفريقية، بصدد التكرر. رأيناه في النيجر وبوركينا فاسو ومالي. هذا صحيح لأن الشعوب أصبحت لها إرادة في ذلك، وهناك قادة جدد يستجيبون لها".
وكانت مالي وبوركينا فاسو والنيجر طردت القوات الفرنسية واستبدلتها بقوات روسية من مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية، مما يثير تكهنات وتوقعات في شأن دور روسي محتمل في السنغال.
وحيال ذلك، قالت رينال إن "روسيا تواصل القيام بلعبتها في أفريقيا، لكن علينا أن ننتظر نتائج ذلك، نتائج تدخلاتها في دول الساحل الأفريقي كما في غيرها".
دعوة إلى التفاوض
وتتعاظم في أفريقيا التي تزداد فيها المجاعات والفوضى الأمنية والسياسية، مشاعر العداء تجاه فرنسا التي ينظر إلى دورها في القارة السمراء على أنه "سلبي"، لا سيما بعد تعثر حملتها العسكرية ضد الجماعات المسلحة في غرب أفريقيا، وهي حملة "برخان" التي أُجبرت السلطات في باريس على إعلان نهايتها غداة طرد قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وانتهجت باريس تاريخياً سياسة "أفريقيا الفرنسية"، إذ تضخ استثمارات في مجالات محددة مقابل حضور عسكري شبه دائم لها، لكن مناهضي هذا الحضور يرون أن "فرنسا نهبت القارة ولم تقدم لها فرصاً تذكر".
ومن غير الواضح ما إذا كان الرئيس السنغالي الجديد الذي دعا خلال حملته الانتخابية إلى إعادة هندسة علاقات بلاده الخارجية وتنويع شراكاتها، سيصدق على قرار أو سيدعو فرنسا صراحة إلى سحب قواتها.
وقال الباحث السياسي في الشأن الدولي نزار مقني إن "تلميح السنغال يحمل أكثر من معنى، فأولاً القوات الفرنسية غير مرحب بها في دكار، لكن ذلك لا يعني أن قرار الطرد صدر، ومن ثم الابتعاد من محور باريس وحلفائها نحو محور آخر، بل يمكن قراءة الأمر على أنه دعوة إلى التفاوض".
ورأى أن "التفاوض اليوم يصب في مصلحة السنغال في ظل ما تعيشه المنطقة من عمليات طرد للقوات الفرنسية"، موضحاً أن "الفرنسيين قد يضطرون إلى التفاوض للحفاظ على مصالحهم، ومن المحتمل أن تكون دكار تعمل على زيادة الفرص الاقتصادية لها مقابل أن تحافظ فرنسا على تمددها في السنغال".
وأبرز أنه "إذ كانت للسنغال نية أخرى، أي الدفع نحو انسحاب الفرنسيين، فإن هذا لا يعني بالضرورة التمهيد للتحالف مع روسيا، على رغم أن ذلك خيار مطروح الآن، كما يمكن أن تتجه أيضاً نحو الولايات المتحدة".
وشدد مقني على أن "السلطات السنغالية لديها خطاب سيادي، ويبدو رئيس الجمهورية الجديد ورئيس الوزراء الجديد من الجيل الشاب الذي يطمح إلى أن يكون للسنغال إشعاع كبير في المنطقة والعالم".
بوصلة غامضة
من غير الواضح ما إذا كانت السنغال ستحذو حذو بوركينا فاسو ومالي والنيجر من خلال الارتماء في أحضان موسكو التي تُبدي اهتماماً لافتاً بمنطقة غرب أفريقيا التي كانت إحدى قلاع فرنسا والغرب.
وسبق لفاي الذي أصبح أصغر رئيس منتخب في أفريقيا، أن تعهد بتنويع شراكات السنغال الخارجية، وهي البلاد التي تعد أبرز ركائز غرب أفريقيا التي هزتها سلسلة من الانقلابات العسكرية منذ عام 2020 أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقات بين الغرب والمنطقة.
لذلك سارع ماكرون منذ انتخاب فاي رئيساً إلى تهنئته وناقش معه سبل تطوير العلاقات الثنائية في ما بدا وكأنه استباق لما قد تحمله الأيام المقبلة.
وقال مقني إنه "لا يمكن تحديد البوصلة التي ستتجه نحوها السنغال بعد انسحاب الفرنسيين إذا تم، لكن التلميح إلى غلق القواعد الفرنسية أعتقد بأنه يستهدف ربما استدراج الفرنسيين للتفاوض على فرص اقتصادية جديدة مقابل الحفاظ على وجودهم في دكار، لكن بوجود جديد عبر التقليص في العتاد العسكري مقابل زيادة الاستثمارات الفرنسية في البلاد".
انسحاب أكثر هدوءاً
حتى كتابة هذه الأسطر لم تعلق باريس بصورة رسمية على تلميح السنغال إلى إمكان غلق القواعد العسكرية حيث يتمركز جنود فرنسيون.
واعتبر الباحث السياسي في الشؤون الأفريقية حمدي جوارا أن "حمى مناهضة الوجود الفرنسي أصبحت متجذرة وأسبابها جلية، لكن لم تسعَ فرنسا إلى التخلص منها جذرياً، ومعظمها يعود لرواسب تاريخية".
وأضاف جوارا لـ"اندبندنت عربية" أن "خطاب باريس لم يتغير كثيراً، أو يخطو خطوات للأمام بالنسبة إلى دول الساحل في الأقل، لذلك أتوقع أن تظل العداوة وتبقى جذوة الانتقاد والانتقام واضحة لدى الأفارقة تجاه فرنسا تحديداً".
وقال "صحيح أن هناك هدوءاً حالياً وهذا ناتج من توقف التصريحات النارية تجاه دول الساحل التي كانت تأتي من فرنسا، وهناك جنوح نحو التهدئة لكن هل من خطوات عملية لذلك؟".
ورأى جوارا أن "التلميح السنغالي هو رسالة إلى الرئيس الفرنسي بأن يستعد لسحب قواته من البلاد، وقد تم ذكر ذلك حتى قبل انتخاب الرئيس الجديد ووصوله إلى الحكم، وهذه القوات ستخرج لكن ربما بطريقة أكثر هدوءاً، بعيداً من الأخذ والرد والضجة الإعلامية الصاخبة مثلما حصل مع دول الساحل".
وخلص الباحث السياسي إلى أن "الكرة في الملعب الفرنسي، ونحن نراقب المشهد لعلنا نرى انفراجة في هذا التشاحن بين فرنسا ومستعمراتها السابقة".