Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مبارزة" متخيلة بين شكسبير وغريمه مارلو على خشبة سورية

المخرج رائد مشرف تبنى رواية الكاتب رضوان شبلي وصاغ منها عرضاً غرائبيا

صراع درامي بين شكسبير ومارلو (خدمة الفرقة)

ملخص

كثيراً ما تقاطعت روايات عدة عن الكاتبين البريطانيين ويليام شكسبير وكريستوفر مارلو المولودين في العام نفسه 1564، فرواية تقول بأن الثاني لم يقتل في حانة بعد شجار مع صديقه، بل توارى عن الأنظار بعد تورطه في مسائل سياسية وخدمات استخباراتية للملكة، ليعود للتأليف المسرحي تحت اسم حركي هو ويليام شكسبير، فيما تؤكد روايات عديدة أن مارلو عاش حياة بوهيمية فيها شطحات من العربدة والإدمان حتى قضى فعلاً عام 1593 على يد صديقه في حانة قرب لندن عن عمر لم يتجاوز الـ29 سنة.

على خلفية الروايات المتناقضة التي شملت حياة شكسبير وكريسوفر مارلو، يبني كل من المخرج رائد مشرف والكاتب رضوان شبلي فرضية جديدة عن صراع متخيل بين نجمي المسرح الإليزابيثي في مسرحية "المبارزة"، لكن يبدو أن الشطح أصاب رواية كل من مشرف وشبلي، ففي العرض السوري يتضح لنا أن شكسبير (عمار السيد) يجند أنطونيو (حاتم أتمت) ليقوم بسرقة مخطوط مسرحية "الدكتور فاوست" لمارلو (زين شعبان) ووضعها باسمه، وعلى هذا الأساس نشاهد تطور الأحداث بطريقة أقرب إلى الكاريكاتيرية، فشكسبير يبدو هنا لصاً أدبياً وغلاماً لدى الملكة إليزابيث (سيدرا جباخانجي) التي يعدها بأن تؤدي دور البطولة في مسرحيته الشهيرة "روميو وجولييت" كسباً لودها وخطباً لرضاها، بينما نشاهد على الضفة الأخرى هيلين (لين شلغين) حبيبة مارلو تتزوج غصباً من شكسبير بعد أن ترفض والدتها مادلين (نجاة محمد) اقتران ابنتها بحبيبها الفقير المخمور على الدوام، وتفضل عليه - كما في المسلسلات الشامية - رجلاً غنياً يدفع مهرها ذهباً وجواهر.

هكذا تمضي الأحداث على مسرح الحمراء الدمشقي لوحة في إثر لوحة، وعبر موسيقى صاخبة (إياد عساودة) وصولاً إلى مبارزة بين كل من مارلو وشكسبير تنتهي بمقتل الأول، وفوز شكسبير بحبيبة مارلو ومخطوط مسرحيته "مأساة الدكتور فاوست"، إذ يقدم العرض هذا المخطوط على أنه آخر ما كتبه مارلو، ومع أن المسرحية الأخيرة التي كتبها مارلو هي "مذبحة باريس"، فيما كتب مسرحيته "الدكتور فاوست" عام 1588، إلا أن مغالطات بالجملة في عرض "المبارزة" لم تقم للتواريخ أية حسابات، بل قدمت كلاً من الكاتبين كمصارعين في حلبة، فظهر شكسبير يصرخ متحدياً ورافعاً سيفه في وجه مارلو: "أنا هاملت وعطيل وريتشارد الثالث والملك لير"، بينما يرد عليه مارلو متفاخراً: "أنا يهودي مالطا الثري" في إشارة لتشابه أحداث هذه الأخيرة مع مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير.

وعلى رغم أن مارلو سبق مواطنه إلى تأليف "يهودي مالطا" عن تاجر يدعى باراباس، فإن مارلو كان أشد نقمة وتحاملاً ضد الشخصية اليهودية، مما قلل من تأثير وإقناع مسرحيته فيما بعد، أما شكسبير فلا شك أنه وعلى رغم تأثره تأثراً غير قليل بمسرحية مارلو، فإنه ببراعته في تصوير الشخصيات جسد شايلوك بكثير من الرهافة والعمق، ولم يكن متحيزاً لنبلاء البندقية المسيحيين، وعلى رغم أن ابنة شايلوك تهرب مثل ابنة باراباس مع شاب مسيحي، فإن الدافع المادي وراء حب لورنزو لها كان غير غائب عن الأنظار، فلقد استطاع شكسبير أن يكسب لمسرحيته الخلود، فلم يظهر عداءً للسامية، وإنما قدم شخصية المرابي اليهودي ظالماً ومظلوماً في آن معاً.

تحية متأخرة

وكان ممكناً أن يشكل عرض "المبارزة" تحية ولو متأخرة لكريستوفر مارلو فيما أبداه من انحياز في معالجة أحداثه وشخصياته، لكن هذا لم يكن، بل عمد كل من كاتب العرض ومخرجه إلى تشويه مبالغ به لشخصية شاعر من طراز ويليام شكسبير على حساب تبييض صفحة مارلو، وفي هذا تهور غير مقبول تاريخياً في الأقل لتناول شخصية بحجم صاحب "العاصفة" وما تركه من أثر إبداعي خالد لا يزال يشغل عشرات النقاد والباحثين حول الكوكب حتى بعد نيف وأربعة قرون على رحيله عام 1616. الحل الوحيد لتفادي كل ذلك ربما كان في التوسع في الجانب الكوميدي للعرض، الذي كان واضحاً في مواضع عديدة منه، لكن المعالجة الفنية انتصرت للقالب التراجيدي في مصرع مارلو وسرقة مخطوط مسرحيته، وعليه لم يتح الفنان رائد مشرف هامشاً للدفاع عما سماه "وجهة نظر" كما أورد في كلمته على بروشور العرض.

وبالعودة إلى طريقة تجسيد الشخصيات في "المبارزة" يمكننا تلمس ذلك الخلط غير الواعي بين مارلو كبطل تراجيدي وشخصية أكاديمية فذة مريضة بداء الكتابة المسرحية، وبين تقديم شكسبير والملكة إليزابيث كشخصيتين نمطيتين، مما فاقم من المسافة بين الواقعي والمتخيل، وأدخل التجربة برمتها في إطار من الفانتازيا التي تستعير شخصيات من التاريخ حتى تقوم بمسخها وجعلها تبدو هزلية وكارتونية على حساب تمرير مقولة الظلم الذي تعرض له مارلو في ظل سطوع نجم شكسبير كشاعر وكاتب وممثل مسرحي ليس له منازع في عصره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الموضوعات التي تناولها مارلو في مسرحياته ربما تتشابه مع بعض الموضوعات التي كتبها شكسبير، لكن يبقى سؤال الفن ليس "ماذا نقول"، بل "كيف نقول"، وهذا ما لم يستطع مارلو إدراكه على رغم أكاديميته ونوله أرفع الشهادات في الجامعات البريطانية، ومثال ذلك طريقة معالجته وتناوله المتوازن لشخصية المرابي في مسرحيته "تاجر البندقية"، أو تصويره لشخصية "الدكتور فاوست" كضحية لرجل محب للمعرفة يبيع نفسه للشيطان ليعرف أكثر، فتكون عاقبته التهلكة، وليس خافياً الجانب الوعظي من المعالجة لهذه المأساة، وكيف تناولت بصورة مباشرة عقوبة من يبيع نفسه للشيطان حتى لو كان ذلك في سبيل أن يعرف أكثر.

وبالنظر إلى العناصر المادية لسينوغرافيا عرض "المبارزة" يمكن الإشادة بالمساحة الفارغة التي جاءت هنا كخيار إخراجي صرف، مع الاتكاء الرشيق على بعض قطع الديكور والأزياء (إيمان العمر) التي كان يتم تبديلها بين مشهد وآخر للإيحاء بالانتقال بين المناظر: (بيت مارلو- قصر الملكة - حانة - ساحة قتال- مسرح)... إلخ، في حين لعبت إضاءة (عماد حنوش) دوراً واضحاً في عزل كل من هذه المناظر عن بعضها بعضاً، وتوضيح الحالة الدرامية للشخصيات تبعاً لتطور الحدث وتصاعد الصراع، ووصولاً إلى تأكيد الفراغ كعنصر حاسم في تصميم الإضاءة المسرحية.

يبقى التوجه العام لعرض "المبارزة" مجافياً لواقع البلاد ويوميات السوريين، إذ تجاهل هذا الخيار الفني الجمهور ككائن تاريخي وجغرافي، وابتعد تماماً عن هواجس المتفرج السوري نحو هموم أدبية صرفة تعود إلى أواسط القرن الـ16، ومن دون الأخذ في الاعتبار لما يمكن للعرض المسرحي أن يحققه من اشتباك مع الراهن، ومحاولة لتقديم قراءة له حتى عبر صراع يجري في مخيلة كاتبين بريطانيين من بدايات عصر النهضة الأوروبية، وعليه ظل "المبارزة" نوعاً من التحايل على اللحظة السورية وتجاهلها بقصد أو من دونه لمصلحة الاحتفاء بالفانتازيا كمهرب من كل شياطين الحاضر وأسئلته الملحة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة