قام الرئيس ترمب بتغيير أربعة مستشارين للأمن القومي للرئيس قبل انتهاء ولايته الأولى، في سابقة لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل، ما يشكل دليلاً جديداً أنه لا يرتاح إلى المؤسسات التنفيذيَّة الأميركيَّة، وغير ملتزم بمواقفها الراسخة، أو المسارات والممارسات التي اعتادت عليها في الماضي.
ليس من السهل أصلاً متابعة السياسة الأميركيَّة لتعدد جوانبها والأطراف المؤثرة فيها، رسمياً وإعلامياً وتشريعياً ومن جماعات الضغط، ولقد جعل ترمب قراءتها أكثر صعوبة بطباعه وممارساته غير التقليديَّة، مثل إعلانه قرارات عبر (تويتر)، والدخول في مشاجرات مباشرة مع كل من يختلف معه، وأكثرها حدة داخل الساحة الأميركيَّة، وتشمل الإعلام، والسياسيين الآخرين، وحتى شخصيات داخل حكومته أو في مؤسسات أميركيَّة مرموقة مثل البنك المركزي.
وعلى الرغم من خروج تصرفاته وبعض مواقفه عن المألوف، فلقد تفهمت رغبة ترمب في إيجاد توازن أفضل في العلاقة التِجاريَّة مع الصين، رغم مبالغته في التصعيد والتهديد، كما كانت لديّ تحفظات على الاتفاق النووي مع إيران تتفق مع بعض ما يثيره ترمب، إلا أن الانسحاب الكامل والأحادي من الاتفاق، بدلاً من العمل على تعديلها لم يكن موقفاً حكيماً، فضلاً عن أن تصعيد المواجهة الأمنيَّة بما في ذلك التهديد بعمل عسكري يعد مخاطرة كبيرة غير محسوبة، لها تداعيات خطيرة على الشرق الأوسط خصوصاً، وترمب لا يميل إلى استخدام القوة، إلا إذا فرضت الأحداث عليه ذلك، ولم يجد بديلاً لها.
هذا وأجد نفسي مؤيداً بعض منطلقات ترمب، خصوصاً أنه لا يرى أن تكون الولايات المتحدة شرطي العالم، ولا يميل إلى الإفراط في استخدام القوة العسكريَّة الأميركيَّة، وأؤيد كذلك الجهد الذي بذله في التصدي إلى الإرهاب في المشرق العربي، كما أؤيد اهتمامه بالتحاور مع قادة العالم، بمن فيهم الأعداء التقليديون مثل روسيا، أو القادمون مثل الصين، أو من لم يعتد التعامل معها سابقاً مثل كوريا الشماليَّة، بصرف النظر عن الأسلوب غير التقليدي لتعامل ترمب مع هؤلاء، والنتائج المعلنة غير الصحيحة أو المبالغ فيها بعد كل لقاء عن نجاحات ترمب وكفاءته التفاوضيَّة.
وإنما أكبر تحفظاتي على سياسته الدوليَّة هي نظرته الأحاديَّة، وتمسّكه بأن الولايات المتحدة لها وضع وحقوق متميزة وفريدة عن بقيَّة الدول بالمجتمع الدولي، وهو في ذلك لا يختلف كثيراً عن الموقف التقليدي للمؤسسات الأميركيَّة.
وليس من المبالغة القول إن مواقفه عن النزاع العربي الإسرائيلي تنتقص مع الحق العربي، في انحيازه الكامل والشديد لليمين الإسرائيلي، ونقل السفارة الأميركيَّة إلى القدس، ووقف المساعدات إلى وكالة غوث اللاجئين، وعدم تحمسه إلى حل الدولتين، وتأييده ضم الجولان، واستمرار سيطرة إسرائيل على المستوطنات في الضفة الغربيَّة، وفرض سيادتها على غور نهر الأردن. كل ذلك في الوقت الذي يتحدّث فيه عن صفقة القرن وتحقيق السلام بالمنطقة.
لا يخفى على أحد السّمة غير المستقرة لرئاسة ترمب حتى الآن، كانت بتصرفاته وسياساته المتضاربة بين الحين والآخر، ولاختلاف توجهاته مع المؤسسات الأميركيَّة، حتى مع مستشاره للأمن القومي، وأخيراً مع وزير خارجيته حول عدم تمسّك الولايات المتحدة بشروط لعقد لقاء بين الرئيس الأميركي والإيراني خلال الدورة السنويَّة للجمعيَّة العامة للأمم المتحدة، أو بسبب شخصيَّة ترمب المتقلبة والنرجسيَّة، ما يشكل عائقاً حقيقياً للدول الأجنبيَّة لتقدير المواقف الأميركيَّة جيداً، لتحديد أفضل سبل التصرف في ظل ردود فعل أميركيَّة غير معروفة، وهو ما يفتح الباب لكثير من الأخطاء في تقدير المواقف، كانت المبالغة في التوقعات أو الاستهانة بالمخاطر، أو عدم انتهاز فرص التحرك عندما تتوفر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هذه الزوايا أرى أن خروج بولتون من الإدارة خطوة إيجابيَّة، لأنها ستسمح بقدر أكثر من الاستقرار والوضوح في مواقف الإدارة وأسلوب تحركها، وستفتح الباب لمزيدٍ من الدبلوماسيَّة، وتقلل من فرص استخدام القوة الأميركيَّة كرد فعل مفضّل دون حساب دقيق، على عكس معتقدات بولتون الذي عرفته مندوباً دائماً لبلاده في الأمم المتحدة، ومسؤولاً عن الحد من التسلُّح في الخارجيَّة الأميركيَّة، الذي يرى أن استخدام القوة الأميركيَّة سياسياً وعسكرياً هو حلٌ سهلٌ، والأكثر فاعليَّة في التعامل مع أي مشكلة، فضلاً عن أنه كان شديد الانحياز إلى إسرائيل على حساب العرب.
إنما أرى أن على العرب تجنُّب التفاؤل أو التشاؤم المبالغ فيه إزاء هذا التطور، فترمب لم يكن في يوم من الأيام ينوي التصدي إلى إيران عسكرياً، وإذا فعل ذلك سيكون مجبراً كرد فعل للأحداث، إنما سيستمر في ممارسة الضغط عليها، على الأقل خلال الحملة الانتخابيَّة الأميركيَّة، ولن يؤثر خروج بولتون على طرح ترمب مبادرة سلام عربيَّة إسرائيليَّة، إلا أن الموقف سيظل شديد الانحياز إلى إسرائيل، في تجاهل لكل اعتبارات الشرعيَّة الدوليَّة في التعامل مع النزاع العربي الإسرائيلي، ساعياً إلى تبني المجتمع الدولي الدوافع الإسرائيليَّة، وهي مواقف يستند إليها ترمب في مخاطبة نسبة غير قليلة من مؤيديه في السباق الانتخابي من أقصى يمين الجالية اليهوديَّة الأميركيَّة، وما يسمى بـ"المسيحيين الأصوليين".
وقد يوفّر استقرار مواقف الإدارة الأميركيَّة واتساقها مع بعضها بعضاً فرصة لنا كعرب لتقييم المواقف الأميركيَّة بالشكل الملائم، للاستفادة من توجهات ترمب التي تناسبنا دون المبالغة في توقعاتنا منها، على أن يكون ذلك بمفهوم استراتيجي وطويل الأجل، مرتبط بالمصالح المشتركة بيننا والولايات المتحدة، وليس كرد فعل لمخاطر آنيَّة أو أي ضغوط واعتبارات داخليَّة، تجعلنا نتردد في الاختلاف معها، وذلك لنستفيد تكتيكياً دون التنازل عن أهدافنا الاستراتيجيَّة.
ويجب أن نتمسَّك ونلتزم بالمنهجيَّة نفسها في التعامل مع التصريح الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه سيفرض سيادة إسرائيل على غور نهر الأردن عقب الانتخابات الإسرائيليَّة بالتنسيق مع الجانب الأميركي، في إغفال وتجاهل كامل لحقوق الفلسطينيين وأمن الأردن والقانون الدولي والشرعيَّة الدوليَّة، وهي مواقف تتفق مع الأيديولوجيَّة اليمينيَّة لنتنياهو المتمسك بمعتقدات جابوتينسكي التوسعيَّة، يطرحها متشجعاً بتأييد ترمب المطلق له، فضلاً عن أن التقدير مستمر للأغلبيَّة في إسرائيل حتى إذا انتهت الانتخابات إلى تشكيل حكومة ائتلافيَّة بقيادة جديدة، هو أن الضعف الفلسطيني واهتمام العرب بمواجهة إيران والمنشغلين بأمورهم الداخليَّة يوفر فرصة مواتية لجلب ثمار جديدة لإسرائيل، باعتبار أن تلك المشاغل ستجعل العرب يتجنّبون اتخاذ مواقف قويَّة معارضة لتلك الخطوة الإسرائيليَّة الجديدة.
والموقف الإسرائيلي يشكل تحدياً كبيراً ومساساً بحقوق تاريخيَّة، والاضطراب الإقليمي والسياسات الخشنة للدول العربيَّة بالمنطقة، يفرض علينا كعرب التوقف والتأمل والتفكير، والتخطيط في موقفنا ومصالحنا الاستراتيجيَّة، لنتحرك بوعي وحنكة تكتيكياً خارجياً، مع العمل على بناء الذات والقدرات الوطنيَّة، فليس هناك أمن أو استقرار دون توازن إقليمي، ووضع مصالحنا وتحركنا في إطار استراتيجي مدروس ومحكوم بنظرة شاملة.