ملخص
تونس تأتي في المرتبة الرابعة عالمياً من حيث استهلاك المياه المعدنية.
شهد قطاع تعليب المياه المعدنية في تونس تطوراً لافتاً خلال الأعوام الأخيرة، إذ يعد تراجع الخدمات التي توفرها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (حكومية) أبرز الدوافع لتصاعد استهلاك التونسيين للمياه المعلبة.
وتبلغ نسبة التونسيين المعرضين لأخطار استهلاك المياه الملوثة 20 في المئة بحسب بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مستقلة).
وارتفع حجم التراخيص الممنوحة لمستثمرين للتنقيب وحفر آبار عميقة من أجل إنشاء وحدات إنتاج وتعليب المياه المعدنية في مقابل تعسر حصول المزارعين على مثل هذه التراخيص في بعض المناطق مما تسبب في احتقان اجتماعي وأثار غضب المنظمات والمتخصصين الذين انتقدوا تواتر منح التراخيص في الأعوام الأخيرة لشركات استغلال المياه وتعليبها عوض العمل على توافر مياه شرب نقية للتونسيين إضافة إلى التغافل عن التداعيات على المخزون من المياه الجوفية في ظل إجهاد مائي غير مسبوق.
تضاعف الوحدات في عقد من الزمن
عرف قطاع المياه المعدنية في تونس إنشاء أول وحدة إنتاجية للتعليب عام 1963 بمحافظة نابل شرق العاصمة ليتطور إلى 30 وحدة متوزعة على 13 محافظة في الوقت الحالي وتنامى قطاع المياه المعلبة منذ عام 2010 من ثماني شركات تعليب في الفترة الفاصلة بين 2001 و2010 إلى 13 شركة بين عامي 2011 و2020، علماً أن مصادر هذه المياه تدخل ضمن مشمولات الملك العمومي للمياه الذي يعتبر غير قابل للتفويت، إذ يقع منح رخص في صورة لزمات لشركات التعليب وهي عقود استغلال تمتد لفترة زمنية معينة.
ونص القانون على أن "مياه التعليب هي كل المياه النابعة أو غير النابعة التي يمكن تعليبها في حاويات مائية طبقاً للمواصفات التونسية 09.33 و09.83 والشروط المعمول بها حالياً ولا يمكن بأية حال الأحوال أن تصدر هذه المياه عن شبكة لتوزيع مياه الشرب".
ويخضع هذا القطاع لإشراف الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه (حكومي)الذي تأسس وفق القانون رقم (58) لعام 1975 المؤرخ في الـ 14 من يونيو (حزيران) 1975 وتنقيحه بحسب القانون رقم 102 لعام 1989 وهو مؤسسة عمومية.
وأسهم تطور قطاع المياه المعدنية في ارتفاع استهلاك الفرد للمياه المعلبة من 879 مليون ليتر في عام 2010 إلى 3.275 مليار ليتر للفرد الواحد في 2022، وهو ما يعادل 676 مليون قارورة وفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي كشف عن أن تونس تأتي في المرتبة الرابعة عالمياً من حيث استهلاك المياه المعدنية.
وتحتل المركز الـ10 عربياً و الـ75 عالمياً في ترتيب الدول بحسب جودة المياه من أصل 178 دولة وفق موقع "وورلد بيليوشن ريفيوة".
عقود مربحة
وتجاوزت تعاملات شركات تعليب المياه 850 مليون دينار بترويج 2.7 مليار ليتر مياه معلبة في 2020، وزادت مبيعاتها عن 3.2 مليار ليتر في 2022 محققة رقم تعاملات يزيد على مليار دينار وفق الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه.
واقترن ارتفاع عدد شركات التعليب بزيادة استهلاك التونسيين للمياه المعدنية وتضاعف الاستهلاك في الفترة الفاصلة بين 2015 و2022، إذ زاد من 115 ليتراً للشخص الواحد إلى 274 ليتراً حالياً.
واقترن التنامي السريع لعدد شركات تعليب المياه بتردي جودة مياه الشرب التي تقدمها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه.
وزادت نسب العينات غير المطابقة للمواصفات من الجانب البكتريولوجي، إذ ارتفعت من 9.9 في المئة في 2019 إلى10.1 في المئة في 2020، مما أدى إلى إقبال التونسيين على اقتناء المياه المعدنية المعلبة وفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وعلق عضو المكتب التنفيذي بالمنتدى منير حسين لـ"اندبندنت عربية" قائلاً إن "الشكوك التي أحاطت بجودة المياه أسهمت في تنامي قطاع التعليب لكن ذلك لا يمنع إخضاع القطاع إلى لوبيات تمكنت من الرخص بحكم نفوذها وهي تحقق أرباحاً طائلة تجاوزت المؤسسة الحكومية وهي الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه التي يتجاوز عدد عملائها أربعة ملايين مستهلك".
وأرجع ذلك إلى طبيعة عقد الاستغلال وهو ما يطلق عليه عقد امتياز، إذ يحدد سعر المتر مكعب(1000 لتر) بنحو 50 ملم فحسب (0.016 دولار) وهو سعر زهيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف حسين أن "وزارة الفلاحة هي الجهة المانحة لرخص التحفير، بينما يكتفي الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه بمهمة رقابية تقنية للمياه قبل أن تسحب المهمة الرقابية من الديوان الوطني للمياه وأسندت إلى الهيئة الوطنية للسلامة الصحية على المنتجات الغذائية التي تأسست في 2019".
وأوضح أن "الرقابة تتطلب السهر على سقف استغلال المياه المحدد في العقود الموقعة حماية للمائدة المائية، لتظل الأزمة هي الافتقار إلى المعدات المتطورة للمراقبة، إذ تسجل تجاوزات خطرة في هذا الإطار".
مشيراً إلى أن الأمر لا يتوقف عند تجاوز السقف المحدد فحسب، بل تمتنع الشركات المستغلة عن تحيين التركيبة المتغيرة للمياه بعد فترة تمتد إلى ستة أشهر، لافتاً إلى أن ذلك يمثل تهديداً للثروات المائية وصحة المستهلكين، إذ يعمق تنامي القطاع الشح المائي ويسهم في تراجع جودة مياه الشرب التي يوفرها القطاع العام للعائلات في حال مجاورة آبارها للمنابع التي يستغلها القطاع الخاص.
وتابع حسين أن الأمر يمتد كذلك إلى المياه المعدنية التي تشكو في العامين الأخيرين تراجع جودتها، مما يؤكد ضرورة النظر في حوكمة التصرف في الثروات الطبيعية التي طاولها الفساد الذي استشرى في العقد الأخير، قائلاً "هذا يفسر الارتفاع القياسي لعدد الرخص".
واعتبر المتخصص حسين الرحيلي انفلات الرخص منذ أعوام ترتب عليه تراجع الدور الحيوي للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وتهميشها، علاوة على مهمات استخراجية إذ تحتكم الشركة إلى موارد طبيعية من منابع وآبار.
وأشار الرحيلي إلى أن تلك الشركات توكل إليها مهمات صيانة وتجديد منشآت جلب الماء ونقله وتنظيفه وتوزيعه، بعدما تعذر على هذه المؤسسة العمومية القيام بمهماتها على خلفية تراجع عوائدها المالية وتقليص مخصصاتها من موازنة وزارة الفلاحة، إضافة إلى المديونية التي تعانيها والتي قاربت 700 مليون دينار (225.8 مليون دولار).
وأوضح أن تهميش دور هذه المؤسسة العمومية تسبب في تراجع نقاء المياه الموزع من طرفها ومن ثم الإقبال على استهلاك المياه المعلبة، مضيفاً "هذا إلى جانب المعطيات المناخية المستجدة وهي الجفاف واستنزاف المائدة المائية ما من شأنه التأثير سلباً في جودة المياه".