Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحداث المحمرة الدامية: مراجعة لرواية النظام الإيراني

أنصار الخميني قمعوا حراكاً لعرب الأحواز بعد إطاحة نظام الشاه راح ضحيته المئات من المواطنين

ملثمون مناصرون للنظام الإيراني خلال قمع الحراك العربي في مدينة المحمرة   (التواصل الاجتماعي)

ملخص

يعد كتاب "الإمبريالية وخوزستان والشعب العربي المستضعف" الأول من نوعه بعد أحداث المحمرة الدامية في صيف 1979، ومصدراً للجهات الحكومية وربما غيرها من الإيرانيين بسبب عدم إمكان الرد عليه ونقده في الداخل. وهو في حاجة إلى مراجعة دقيقة من قبل الذين عايشوا تلك الفترة بخاصة أبناء المحمرة.

 في تاريخ إيران المعاصر كانت ثورة 1979 أول ثورة یشارك فيها شعب الأحواز بجميع فئاته وطبقاته. وفي معظم مدن عربستان وبلداتها خلافاً لثورة "المشروطة" التي استمرت ثلاث سنوات (1906 - 1909)، ولم يشارك فيها أي أحوازي في مملكة عربستان، أي أننا لم نشاهد أي تظاهرة أو إضراب أو اعتصام خلال ثورة "المشروطة" (الدستور)، لا في قطاع النفط ولا أي قطاع اقتصادي آخر، والسبب هو أن المملكة كانت تتمتع بشبه استقلال وتحكم من قبل الأمير خزعل بن جابر ولم تتبع بلاد فارس إلا اسمياً.

 وكانت مشاركة الجماهير العربية في عربستان خصوصاً بمدينتي المحمرة وعبادان، التي كانت تتبع القائد الروحي الأحوازي الشيخ محمد طاهر شبير الخاقاني، مؤثرة في عملية إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، إذ شكل إضراب عمال شركة النفط في مصفاة عبادان رصاصة الرحمة التي أنهت الحياة الاقتصادية لذلك النظام.

غير أن النظام الجمهوري الديني الجديد لم يكافئ العرب لما قاموا به قبل الثورة وبعيد الثورة بخاصة بعد الفراغ الناجم عن انهيار النظام السياسي الشاهنشاهي ومنه الحفاظ على أمن المدينتين الحدوديتين وتسيير دوريات في الحدود المحاذية للعراق، بل واجههم بالنار والحديد الأربعاء الـ30 من مايو (أيار) 1979 وما بعدها، وقتل منهم أكثر من 200 وجرح 500 وفق صحيفة "بيغام امروز" الصادرة في الثاني من يونيو (حزيران) 1979 وذلك عندما طالبوا سلمياً بحقوقهم القومية.

 المحمرة أرض المذابح

تختلف المحمرة قبل الثورة عما بعد الثورة، فالأولى كنت أزورها بعد زياراتي لعبادان وكذيل من عبادان وكميناء جميلة مستلقية على نهرين كبيرين، فيما المحمرة الأخرى أصبحت ذات تكوين مستقل، تجسد هويتي العربية التي كادت تنطمس، وعاصمة للنضال السياسي والثقافي.

مدينة اختبرت مذابح ارتكبها الشاه رضا بهلوي في أوائل القرن الـ20 ضد أهلها الذين رفضوا حكمه العسكري الاحتلالي ومركزاً رئيساً لإراقة دماء المئات من العرب الذين لم يرتكبوا ذنباً إلا المطالبة بإعادة هويتهم القومية وحقوقهم المسحوقة.

قبل الثورة، عندما كنت أذهب إلى المحمرة كان عليَّ أن أذهب إلى محل لبيع الأشرطة والصفحات الموسيقية العربية في هذه المدينة، وهو المكان الوحيد الذي كان يبيع أشرطة الموسيقى العربية. وكذلك أن أعبر نهر كارون بالزورق (البلم) المحلي ومع جموع العابرين من كوت الشيخ إلى مركز المدينة، وكنت أستمتع بعظمة كارون وجماله وأنا أشاهد التقاءه بشط العرب بعد بضعة أمتار.

وعشية الثورة كانت المحمرة التي ألهمتني بأولى التظاهرات وبهتافات وشعارات عربية، وأثارت فيَّ حساً كامناً مقموعاً وهو ضرورة الهتاف بلغتنا القومية الممنوعة، وشجعتني لتحويل ذلك الحس إلى إحساس جديد يقول إننا كعرب نستطيع أن نهتف بلغتنا ضد هدف مشترك مع الآخرين وهو نظام الشاه، وهذا ما فعلناه بعد فترة في مدينة الأحواز.

وبعد الثورة أصبحت المحمرة مقصدي الدائم التي كنت أزورها، إما للتحضير للوفد الثلاثيني الموفد إلى طهران وإما لزيارة المركز الثقافي العربي بالمدينة، لكني لم أزر المنظمة السياسية للشعب العربي الأحوازي إلا مرة واحدة، وذلك ضمن بعض أعضاء الوفد الذي كان يتهيأ للسفر إلى طهران.

وخلافاً للمركز الثقافي الذي لم يكن يتمتع بأي حراسة، كان هناك شخص مسلح يحرس مبنى المنظمة الواقعة في الكورنيش الساحلي لنهر كارون ورقمه 122 ويبدو لي أنهم حولوه إلى شارع الخميني، والمبنى كان سابقاً قنصلية الولايات المتحدة الأميركية في المحمرة الذي فر طاقمه بعد قيام الثورة في الـ11 من فبراير (شباط) 1979، كان هادي النزاري (سيد هادي مزاري بور) ينتظرنا عند باب المبنى بوجه بشوش ومرحب.

صعدنا إلى الطابق الثاني للمبنى وجلسنا حول طاولة كبيرة في غرفة واسعة نسبياً، إذ كانت صورة الأمير خزعل معلقة على الحائط، يحدق بنا بعينيه النافذتين. كانت المرة الأولى التي نرى فيها صورة الأمير خزعل في مكان عام، ولقد نظر بعضنا إلى بعض مستغربين الأمر، بل اعتبره بعضنا نوعاً من التطرف. تكلمنا عن أمور مختلفة وعلى رأسها موضوع الوفد الذي ذهب إلى طهران في الـ26 من أبريل (نيسان) ليطالب بحقوق الشعب العربي الأحوازي.

المحمرة في عيون الحكومة

بعيد القمع الذي أدى إلى إغلاق المركز الثقافي العربي والمنظمة السياسية للشعب العربي وإخماد الشارع الغاضب المطالب بحقوقه القومية في المحمرة وإبعاد الزعيم السياسي والروحي للشعب الأحوازي الشيخ محمد طاهر شبير الخاقاني إلى قم بأمر من الخميني، أصدرت إحدى الجهات الحكومية كتاباً بالفارسية عنوانه "امپریالیسم، خوزستان وخلق مستضعف عرب" أي "الإمبريالية، وخوزستان، والشعب العربي المستضعف"، ويعني بخوزستان هنا مملكة عربستان التي تحولت إلى محافظة في عهد الشاه رضا بهلوي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 لم يذكر الكتاب اسم الناشر لكن ما ذكره مؤلف الكتاب "م - أحمدي" في الصفحة الأولى، يظهر أنه من منشورات "كانون فرهنگي نظامي انقلابيون مسلمان خرمشهر"، أي المركز الثقافي - العسكري للثوريين المسلمين في المحمرة الذي كان يترأسه آنذاك محمد جهان آرا، أحد العناصر الفارسية المتطرفة دينياً وقومياً.

فإلى جانب القوات البحرية والشرطة لعب ذلك المركز دوراً أساساً في قمع الحراك الأحوازي المطالب بالحقوق السياسية والثقافية للشعب. كما أن الأدبيات السياسية للكتاب واستخدام مصطلحات كالإمبريالية والشعب العربي والنبرة والمنهج المستخدم في تأليف الكتاب ينبعان من البيئة السياسية الرائجة في المجتمع الإيراني ويماثلان أدبيات حزب "تودة" الشيوعي الداعم للسلطة الدينية آنذاك ويؤكد تعاون عناصر من الحزب في صياغة الكتاب.

ماذا يقول الكتاب؟

على رغم أن شكله يماثل الكتب الأخرى لكنه ليس كتاباً بمفهومه العلمي والببليوغرافي، أي لا يوجد فهرس للمحتويات وتنظيم للصفحات وتصنيف دقيق للفصول، ويختلط صف الحروف الرديء بالصور والمسح، وتوجد أمور فنية ضعيفة، إذ يصغر وأحياناً يكبر قياس الحروف في الصفحات المختلفة، بل يبدو أن الناشر الحكومي والسلطة الإيرانية حاولا إصدار الكتاب على عجل ونشره بسرعة ليردا على أسئلة أثارتها مجازر المحمرة ليس بين العرب فحسب، بل بين القوى اليسارية والديمقراطية التي كانت تحظى بنفوذ في كل مناطق إيران. كان كتاباً لتبرير الجرائم التي ارتكبت في حق العرب في إيران.

وجاء في مقدمة الكتاب أن "ما جرى في خوزستان (عربستان) وبصورة رئيسة في خرمشهر (المحمرة) لم تكن حادثة بسيطة ولا صداماً موقتاً ولا خلافاً موضعياً، بل مظهر من تيار عميق ومحسوب".

وهو على حق لأن التيار الذي يشير إليه وهو التيار العروبي - الوطني في الأحواز، تيار له جذور عميقة في التربة الأحوازية، وهذا ما أكدته الأحداث التي تلت الأربعاء السوداء في المحمرة، التي شهدتها عربستان خلال 45 سنة من عمر الجمهورية الإسلامية في إيران.  

ويحاول المؤلف أن يعزو هذا التيار ونشاطه إلى خطط ما يصفها بالإمبريالية المعادية للجمهورية الإسلامية، فيما يعود تاريخ نضال الشعب العربي ضد الدولة القومية الإيرانية إلى قبل قيام الثورة الإسلامية أي إلى عهد النظام البهلوي (حليف الإمبرياليين) الذي أسقط الحكم العربي في الأحواز في 1925.

 كما يصب الكتاب جام غضبه على شيوخ القبائل والعشائر العربية في المحمرة ويصفهم بـ"عوامل المؤامرة" ويتهمهم بالعمالة لنظام الشاه. فعلى رغم الحضور غير المحسوس لبعض هؤلاء في المنظمة السياسية للشعب العربي في خوزستان (عربستان) بالمحمرة لكن شارك أيضاً رؤساء قبائل أو أبناؤهم من الذين لم ينتموا إلى "السافاك" (جهاز الأمن الشاهنشاهي) في إدارة تلك المنظمة.

كما يجب الإشارة إلى أن المنظمة السياسية كانت تضم شيوخ عشائر وعناصر قومية عربية ورجال أعمال وتكنوقراطاً، فيما كان يدير المركز الثقافي ناشطون قوميون ويساريون تختلف أيديولوجياتهم مع أولئك الذين يديرون المنظمة، غير أن المرجع والوازن بين أنشطة المؤسستين كان الشيخ محمد طاهر شبير الخاقاني.

ونرى أن تركيبة الوفد العربي الأحوازي الموفد الذي أوفده الشيخ الخاقاني إلى طهران للتفاوض مع الحكومة الموقتة بعد الثورة في أبريل 1979، وضم المحامين والمثقفين والناشطين اليساريين والدينيين والقوميين وبعض التجار وعناصر من شيوخ القبائل من معظم أنحاء عربستان.

وينتقد المؤلف في الصفحة الثامنة من الكتاب الحكومة الموقتة لمهدي بازرغان المساعدة في نمو والتطور السريع لما يصفهم بالقوى الرجعية في خوزستان (عربستان)، لأنها "سلمتهم سبع سيارات من نوع جيب عسكري، وأربعة أجهزة لا سلكي عسكرية، وعدداً من السلاح والتزام التعاون معهم (بل تسليم) الشريط الحدودي لهم". ويعني بالقوى الرجعية المنظمة السياسية للشعب العربي في خوزستان (عربستان).

ويأتي انتقاده لحكومة بازرغان لانتماء المؤلف والمركز الثقافي - العسكري للثوريين المسلمين في المحمرة إلى نهج المتشددين التابعين للخميني، الذين أخذوا يعارضون نهج الحكومة الموقتة باعتباره نهجاً ليبرالياً تساومياً غير ثوري.

 لكن على رغم ذلك، في نهاية المطاف تطابقت مصالح الجناح الليبرالي القومي (مهدي بازرغان والجنرال أحمد مدني الحاكم العسكري للمحافظة) والجناح المتشدد بقيادة المرشد الأعلى روح الله الخميني في قمع كل الحراك القومي العربي المطالب بحقوق الأحوازيين، من الشيخ محمد طاهر الخاقاني والمركز الثقافي إلى المنظمة السياسية وكل العناصر المشاركة في الحراك. وهذه التجربة المرة الدامية مورست بعد العرب ضد الشعوب الأخرى كالتركمان والكرد والترك الأذريين.

وتوجد في الصفحة الـ14 من الكتاب صورة لخمسة من رؤساء القبائل بالزي الرسمي الحكومي الذي كان سائداً في عهد الشاه، وفي الصفحة الـ15، صورة لعدد من شيوخ القبائل بالزي العربي في زيارة للشاه محمد رضا بهلوي.

كما نرى في الفصل الأول وثائق ورسائل ومحاضر جلسات عدة تؤكد انتماء بعض الشيوخ إلى "السافاك"، ويبدو أنها مأخوذة من أرشيف "السافاك" التي بحوزة الميليشيات الدينية التابعة للسلطة الوليدة.

وفي الفصل الثاني يخصص المؤلف بعض الوثائق لما يصفها علاقة بعض الشيوخ بالرئيس العراقي السابق صدام حسين وكذلك قادة المعارضة الإيرانية آنذاك، منهم الجنرال تيمور بختيار من مؤسسي جهاز "السافاك" وأول رئيس له (1957 - 1960) الذي انشق بعد ذلك وناصب الشاه العداء واستقر في العراق.

ومفردة "السافاك" مخفف لاسم الجهاز باللغة الفارسية: "سازمان امنيت واطلاعات كشور" أي مؤسسة الأمن والاستخبارات في البلاد. وبالطبع لا توجد آلية للتحقق من صحة هذه الوثائق لأن السلطة الإيرانية لم تنشرها لا في ذلك الوقت ولا بعده.

في الحقيقة أن "السافاك" كان يتدخل في معظم الشؤون الاجتماعية ويستميل بل ويجبر بعض الشيوخ للتعاون معه. والأنكى في الأمر أنه عندما يتعلق الأمر بين مواطنين قريبين للنظام، واحد عربي والآخر فارسي، تحبذ الأجهزة الأمنية المواطن الفارسي وهذا ما حدث في الانتخابات البرلمانية التي كانت تجري في المحمرة في عهد الشاه ومنها بين مكي الفيصلي من شيوخ عشيرة الفيصلية وابن المحمرة، ومحسن بزشكبور، زعيم حزب "بان إيرانيست" العنصري المعادي للعرب وابن وسط إيران، إذ كانت وضمن تدخلها وتلاعبها في الأصوات ترجح الثاني على الأول.

ويعد هذا الكتاب الأول من نوعه بعد أحداث المحمرة الدامية في صيف 1979، ومصدراً للجهات الحكومية وربما غيرها من الإيرانيين بسبب عدم إمكان الرد عليه ونقده في الداخل، وهو في حاجة إلى مراجعة دقيقة من قبل الذين عايشوا تلك الفترة بخاصة أبناء المحمرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير