Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مواطن متحايل وطبيب نفساني محبط يتواجهان في بلد ينهار

"هل هالشي طبيعي؟" مسرحية العبث اللبناني مع زياد عيتاني وطلال الجردي

الممثلان طلال الجردي وزياد عيتاني في المسرحية اللبنانية (خدمة الفرقة)

ملخص

تستعيد بيروت أحد مسارحها الجميلة المعاصرة وهو مسرح "مترو المدينة" في الحمرا الذي أغلق مدة من الزمن ليعود فينطلق وينتقل إلى عنوان جديد، وهو ما كان يعرف سابقاً بـ"أكروبوليس بلازا". ويقدم مترو المدينة بحلته الجديدة مسرحية "هل هالشي طبيعي؟" كتابة خالد صبيح وإخراج رياض شيرازي وبطولة زياد عيتاني وطلال الجردي. وزياد عيتاني هو الممثل المعروف الذي دخل السجن بعدما دبرت له اتهامات هو براء منها ثم خرج بريئاً مرفوع الرأس.

يقع الجمهور في مسرحية "هل هالشي طبيعي؟" على نموذجين اثنين متعارضين متضادين من المجتمع اللبناني: الأول يجسده زياد، وهو المواطن العامل المكافح الذي يعرف الشارع وخباياه و"زواريبه" كما يقولون والذي يعرف من أين تؤكل الكتف ولا يخشى من أكلها كلما سنحت له الفرصة. أما الشخصية الثانية، فهي شخصية طلال الذي يشكل النموذج النخبوي من المجتمع، وهو مثال الطبيب النفسي والرجل المثقف المؤمن بالعلم والمثاليات والفضيلة العامة. يجسد كل من زياد وطلال نموذجين اثنين من الإنسان اللبناني الذي يواجه بطريقته الخاصة ما ترميه الحياة بوجهه من مشكلات سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية. يواجه كل من الاثنين الحياة وهمومها بطريقته، فهل من أحد يملك الإجابة الصحيحة؟ هل من نموذج ينتصر على الآخر بطريقة تفكيره وطريقة معالجته لمآزق المجتمع؟

هزائم الوطن

يجسد عيتاني نموذج المواطن اللبناني البسيط المقيم في الطريق الجديدة رجل عامل كادح سطحي الثقافة سريع البديهة يملك حنكة الشارع وأهله ويحل أموره من دون غضب ولا قلق وإنما بمكر وخفة وعملانية. يجسد زياد المواطن اللبناني الذي اضطر إلى دخول سوق العمل وهو بعد في سن المراهقة ليعيل نفسه ويعيل عائلته هو الذي خسر والده في سن صغيرة. وتبدو علاقة زياد بوالده علاقة مضطربة يشوبها شيء من الاحتقار والنكران لكون الوالد قد استشهد في سبيل قضية وأيديولوجيا وعقيدة. استشهد والد زياد من أجل المثاليات وترك ابنه ليحارب الحياة والمجتمع وحيداً، مما حمل زياد على التملص من طريقة النخبة المثقفة في التعامل المترفع مع الواقع والنزول إلى المعركة بسلاح العدو: الفساد. تميل شخصية زياد بطبعها إلى العملانية اليومية والرغبة في حلحلة المسائل بأسرع طريقة ممكنة وإن عنى ذلك الرشوة والبرطيل والوسائط. يجسد زياد في هذه الشخصية الإنسان اللبناني "الحربوق" الذي يتخلص من مآزق الوطن اليومية والحياتية عبر توظيف الاحتيال والفساد وممارسة الدهاء الملتوي. بلهجته ومنطقه وحركات جسده يكرس زياد شريعة الغاب وقانون البقاء للأقوى على حساب الشعارات الأخلاقية العقائدية والنظريات الفكرية التي تقول بالمساواة والعدل ومحاربة الفساد.

من ناحية أخرى، يقع الجمهور على شخصية طلال، الطبيب النفساني المثقف الهادئ العقلاني الرصين، المؤمن بالنظريات السياسية والفكرية والذي يستعمل الكلمات الطويلة والصعبة والمعقدة ليعبر عن أفكاره. يجسد هذا الطبيب النفسي طبقة الفنانين والمثقفين والمنظرين السياسيين الذين راحوا يغرقون رويداً رويداً في الإحباط السياسي والوجودي بسبب دوامة الوطن التي لا تنفك تحملهم من مصيبة إلى أخرى. تعجز شخصية طلال عن الخروج عن المبادئ والقيم والفلسفة والمثاليات، تعجز هذه الشخصية النخبوية التي تناقش المواضيع الوجودية بلغة إنجليزية بليغة في المقاهي والكافيهات عن قبول الفساد والرشى والمحسوبيات على رغم أنها الطريقة الوحيدة التي يسير وفقها البلد. فيعلق المثقف في متاهة مسدودة، لا هو قادر على التعامل مع المجتمع ولا هو قادر على تغييره ولا هو قادر على نزع عباءة مثالياته عنه.

يتحول الطبيب النفسي في هذه المسرحية إلى مريض، إلى عاجز، إلى إنسان متوتر، لا يجد الحل لكنه لا يستطيع أن يستسلم، فهل يجد الحل لدى المواطن "العادي" الذي يستطيع أن ينازل مجتمعه باعتماده وسائله؟

هستيريا جماعية

لا يخفى على أحد أن علاقة الإنسان بوطنه هي علاقة مضطربة تتأرجح بين الحب والكره، فكيف إن كان الوطن هو بؤرة قيم أخلاقية عقائدية وفساد سياسي واجتماعي في الوقت نفسه؟ نموذجان متعارضان متضادان يقدمهما هذا العمل ويقدم عبرهما طريقتي تعامل مع الواقع وهمومه من غياب الكهرباء والماء والدواء والغلاء المعيشي وانغماس الدولة في الانهيار والفقر والفساد. وقد يصنف البعض هذا العمل على أنه كوميديا سوداء، لكن النص ليس كوميدياً بالكامل وأقل من ذلك بعد ليس كوميديا سوداء بتاتاً، فالشخصيتان واقعتان في إحباط وانهيار عصبي (ديبرشين) كل بحسب ما تتيحه له قدراته الفكرية وثقافته وظروف عيشه. فبينما الطبيب النفسي يملك رفاهية الحزن الاكتئابي البودليري والرغبة في الإغراق في التمحيص والتنظير، يقع على العامل البيروتي الكادح أن يرزح تحت نير الفساد والقسوة الاجتماعية اليومية وضرورة القيام بأود العائلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يجسد الحوار في هذه المسرحية صنفي المواطنين كما يجسد رمزية نوعي الثوار الذين يحاولون التعامل مع الوطن كل بحسب طباعه. والجدير ذكره أن أداء زياد عيتاني وطلال الجردي ممتاز على رغم أن النص وقع أحياناً في الكليشيه والمتعارف عليه والجمل الاعتيادية التي تعب منها المواطن: تعب من قولها وتعب من سماعها. وقع نص العمل بشيء من "الشعبية الفنية"، أي إنه لم يصدم ولم يحرك ولم يستفز، بل أخبر الواقع كما هو، مع شيء من الحبكة المسرحية التي جعلته قادراً على إظهار عبثية مواجهة الواقع وعبثية مواجهة زلازل الوطن.

مسرحية "هل هالشي طبيعي؟" مسرحية الصراع الأزلي بين نموذجين وهويتين وفئتين من المجتمع بالتالي الصراع بين طريقتين في التعاطي مع الأزمات. ويبدو أن المواطن اللبناني مهما أمعن في محاولة تخطي أزمات الوطن، ومهما كانت طريقته المعتمدة، فالأكيد أنه سيبقى عاجزاً عن إيجاد الحلول والمخارج في المدى القريب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة