ملخص
قسمت كيلي كارتر جاكسن كتابها (نرفض) إلى 5 أقسام يستكشف كل منها أحد التكتيكات الناجحة التي اتبعها أفراد سود أو مجتمعات سوداء لمقاومة الهيمنة البيضاء.
في كتابه "قيمة العنف" (2013) نقل المتخصص في مجال العلوم السياسية، رئيس مركز الدراسات الحكومية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز بنجامين غينسبرغ، عن طائفة من الأعلام أقوالاً في مناصرة العنف. فمن ذلك قول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل إن "قصة السلالة البشرية هي الحرب"، وقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبيز إن العنف وسيلة منطقية لتحقيق الأغراض السياسية، وإشارة المؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز إلى الحرب بوصفها امتداداً للسياسة ذا طبيعة مختلفة.
ثم كتب غينسبرغ أيضاً عن أن "الضعفاء لم يرثوا من الأرض الكثير، وأن سيطرة الغرب العالمية طوال معظم الفترات الماضية لا توعز في معظمها إلى غير مقدرته على العنف، وأن الطبقة الحاكمة في كل أمة تتشكل عموماً من خلال استخدام ما سماه الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين بعنف صناعة القوانين أو التلويح به". وليس شيوع الانتخابات في بعض أرجاء العالم خلال القرنين الماضيين بخارق لهذه النقطة. نعم، باراك أوباما، أول رئيس أسود لأميركا، هو رئيس منتخب، ولكن إمكانية انضمام شخص أسود إلى نخبة أميركا الاجتماعية والسياسية أسست من خلال احتجاج عنيف وقع قبل أربعة عقود، ناهيكم بالحرب الدموية التي حررت السود من ربقة العبودية.
تذكرت هذه المقالة التي حررها بنجامين غينسبرغ من كتابه ونشرها في (ذي كرونيكل أوف هاير إديوكيشن) وترجمتها قبل 10 سنوات أو نحو ذلك، وأنا أقرأ عن كتاب حديث الصدور للكاتبة الأميركية كيلي كارتر جاكسون عنوانه "نرفض"، فالكتاب الجديد شأن كتاب غينسبرغ يعيد الاعتبار للعنف.
يبدو لي أن قاهرينا مهما تباينت أشكالهم الظاهرة يوظفون جميعاً من يعظوننا بنوع من المقاومة يقدمونه باعتباره النوع الوحيد اللائق الجدير بتعاطف الإعلام ودعم من يتأثرون بالإعلام، وذلك هو اللاعنف والسلمية. وما عدا ذلك من أشكال المقاومة يشيطنه الإعلام وتجرمه المؤسسات القاهرة باعتباره إثارة للشغب أو فوضوية مرفوضة، ما لم يوصم بالإرهاب.
تكتب كيلي كارتر جاكسن أن "الرفض عمل سياسي قوي. وفي معرض الدفاع عن النفس عمد السود رجالاً ونساءً بصفة خاصة إلى رفض شروط القمع والتمييز والتجريد من الإنسانية. والرفض (لا) قوية مفعمة بالطاقة وبالمعنى". وتميز كارتر جاكسن بين الرفض والمقاومة، فتكتب في مقال مأخوذ من كتابها (نشرته لوس أنجليس تايمز في الثالث من يونيو "حزيران" الجاري)، أن "المقاومة هي كيفية استجابة المرء للعنصرية البيضاء، والرفض هو سبب ذلك. ونحن ننزع في أميركا إلى أن نكون أكثر تركيزاً على كيفية تجلي المقاومة أو أدائها. ولا نلتفت بالقدر الكافي إلى السبب في كون المقاومة جزءاً حاسماً من القصة الأميركية".
تمضي كيلي كارتر جاكسن فتكتب أن "والدة جدتي أرنيستا تعينني في حكاية هذه القصة. ففي عام 1915 كانت أرنيستا في التاسعة من العمر في ريف ألاباما حينما وطئت مسماراً صدئاً. ولم يمض وقت طويل حتى تلوث الجرح وحل بأرنيستا مرض عضال. معظم الظن أنها عانت التيتانوس الذي قد يكون مرضاً مميتاً إذا ما أسيء علاجه. وأصاب الذعر والدتها ماري".
"اصطحبت ماري ابنتها إلى الطبيب الوحيد الذي كانت تعرفه، وكان رجلاً أبيض يقطن بيتاً ضخماً في الطرف الآخر من بلدتها. وافق الطبيب على مساعدة أرنيستا بشرط واحد، أن تعيش في بيته بعد أن يعالجها وتعمل عند أسرته لما بقي من عمرها. كانت العبودية قد ألغيت قبل 50 سنة، غير أن الطبيب شعر أن له الحق في حياة أرنيستا وجهدها إلى الأبد".
بما أن الطبيب هو الذي أنقذ بقية عمرها، إذاً يملكها. عاشت الإنسانية بمثل هذا المنطق على مدى معظم تاريخها، ولعلها لم تتخلص منه قط، وإن تعلمت كيف تلبسه لباساً مسايراً للصرعة السائدة. فالطبيب في حالة أرنيستا يأخذ حياتها أجراً، وغيره لاحقاً سيأخذ الأجر نفسه بالتوقيع في ساعة أو بالوعد بالترقية أو ببطاقة ائتمانية نخدمها متوهمين أنها تخدمنا ونعيش بها عملياً عبيداً لسادة لا نعرفهم.
تمضي كارتر جاكسن في حكاية قصة جدتها قائلة إن "ماري فزعت. ولكنها لم تكن ترغب في فقدان ابنتها الوحيدة، فرضخت. ومن حسن الحظ أن والدة جدتي، وهي أمة سابقة، تدخلت. رفضت عرض الطبيب معدوم الضمير، وحملت حفيدتها المريضة ومضت بها إلى بيتها، ومارست كل وصفة طبيعية تعرفها، فنجت أرنيستا، ولكنها لما بقي من عمرها ظلت تعرج في سيرها. كثيراً ما رأيت في تلك القصة خلاصة قوة العنصرية البيضاء: اختاروا حياة العبودية، أو ارفضوها وعيشوا تعرجون. وإن ما صاغني أنا لم يكن عرض الطبيب وإنما رفض جدتي له. فلم يكن ردها على العرض (لا) وإنما (أبداً)، وذلك الرد هو الذي أفقد العنصرية البيضاء سلطتها".
استهلت ليندا فيلاروزا استعراضها الكتاب (نيويورك تايمز - الثاني من يونيو الجاري) بقولها إن مارتن لوثر كينغ كتب في مذكراته محدداً عدداً من المبادئ لمكافحة العنصرية وغيرها من أشكال القهر، فمن هذه المبادئ الشجاعة والصداقة وما إلى ذلك، ومستلهماً المهاتما غاندي ويسوع "حث كينغ على قبول المعاناة، بل والعنف، دونما انتقام" بدعوى أن ذلك "يجعل المرء يتناغم مع الكون، ويمنح البشر سلاحاً للانتصار على الكراهية".
وكتب أن المقاومين غير العنيفين يناضلون بـ"سلاح المحبة" وأن هذا النهج "أصبح التكتيك التأسيسي لكثير من نشطاء الحقوق المدنية". تقول فيلاروزا إنه منذ حقبة الحقوق المدنية أصبح نهج كينغ غير العنيف هو الأكثر شيوعاً وقبولاً وحظوة بالاحتفاء في مواجهة القهر ويمكنكم أن تروا جذور فلسفة كينغ اللاعنيفة في مسيرات صيف 2020 إثر مقتل جورج فلويد وبريونا تايلور وغيرهما كثير".
"أما أستاذة الدراسات الأفريقية، كيلي كارتر جاكسن، فتذهب إلى أن التاريخ المعهود للمقاومة السوداء تاريخ ضيق ينزع إلى التخفيف". وتكتب أن "تركيز ثقافتنا على اللاعنف تسبب في تغييب تواريخ كاملة لمقاومة السود عنصرية البيض. فاللاعنف في ذاته لا يمكن أن يتسع بالقدر الذي يسمح له بتصحيح ما ألحقته العنصرية من أضرار... ويحذر الكتاب من أخطار سوء تذكر الماضي، مقدماً صورة أكبر وأدق للمقاومة في إطار الرفض".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تكتب شانون غيبني (ستار تريبيون- 5 يونيو الجاري) أن كتاب "نرفض" يمثل "تحليلاً لما لا يحصى له عدد من الطرق التي قاوم بها السود العنصرية البيضاء... وقسمت كيلي كارتر جاكسن كتابها إلى خمسة أقسام، يستكشف كل منها أحد التكتيكات الناجحة التي اتبعها أفراد سود أو مجتمعات سوداء لمقاومة الهيمنة البيضاء، فهذه التكتيكات هي الثورة والحماية والقوة والهرب والبهجة".
"بدا لي ذلك التقسيم منهجاً أنيقاً. والحقيقة أن (نرفض) كتاب شديد السلاسة، مليء بالأمثلة التاريخية التي توضح نقاط الكتاب الرئيسة، ابتداءً بقانون العبد الآبق (الهارب من مولاه) والحرب الأهلية والثورة الأميركية والثورة الهايتية وحركة الحقوق المدنية والهجرة الكبيرة وكذلك الأفراد المشاركين في ذلك كله. وتنثر كارتر جاكسن في هذه الأمثلة قصصاً مؤثرة عن رفض أسرتها واحتمالها في مواجهة الخسارة والحزن العميقين. فكانت النتيجة كتاباً عميقاً من الناحيتين الشعورية والفكرية".
تكتب كارتر جاكسن قائلة إن "هذا الكتاب لا يناصر العنف، لكنني أشجع القراء على معاركة أسباب العنف ونتائجه، وعلى التفكير خارج ثنائية العنف واللاعنف"، ومن أكثر حجج الكتاب إقناعاً وإثارة للجدل في آن واحد أن "اللاعنف ما دام اعتبر عن خطأ أفضل الاستراتيجيات وأكثرها فعالية في محاربة عنف العنصريين البيض. وفي المثال تلو المثال يبين لنا الكتاب كيف أن مجموعة بسيطة من الوسائل الذكية قد ساعدت الشعب الأسود على الحياة والتحرر بقدر أكبر مما كانوا ليحققوه بطرق أخرى في مواجهة قهر البيض".
"وفي النهاية تضع كارتر جاكسن ثقتها في البهجة السوداء، فتكتب أن "الكتلة الكبرى من الحياة السوداء مؤلفة من البهجة. والبهجة لا تنفي ألم السود أو جروحهم أو موتهم، لكنها تؤكد أن الأمل ينبع من العمل والمقاومة والرفض". وثمة أشكال محددة من البهجة، من قبيل الرقص والدعابة تعدها كارتر جاكسن أشكالاً فنية أساسية للمقاومة، تغذي من ينشئون مساحات بعيدة من أعين البيض... وتنهي كارتر جاكسن الكتاب بكلمات تريد منا بوضوح ألا ننساها، "البهجة السوداء دواء والعدالة شفاء، وبوسعنا أن نحظى بالاثنتين".
في حوار أجرته فيكي بورا بلوم مع كارتر جاكسن (ببليشرز ويكلي – الـ29 من مارس "آذار" الماضي)، قالت "إن اللاعنف له حدوده. وعلينا أن نكون صرحاء في هذا. والعنف أيضاً له حدوده، لكن العنف أيضاً له منجزاته، وعلينا أن نكون صرحاء في هذا أيضاً. لقد أزعجني استعمال اللاعنف على نحو يدفع إلى تغيير عديم الفعالية. فلا خطأ في تظاهرة أو مسيرة، لكن هل حققت هذه أو تلك ما خرجتم لتحقيقه؟ إن لم تفعل فهي إذاً فاشلة. في كثير من الأحيان يستعمل الناس اللاعنف لتحقيق تغيير رمزي، وليس تغييراً بنيوياً فهذا يقتضي المزيد، بسبب شيطنة ذلك. أشعر أن نطاق أدواتنا تقلص، لأن تلك الأدوات أثبتت فعاليتها في الماضي. لدينا ما يزيد على التخيير ما بين (هل ستحرقون كل شيء أم ستخرجون في مسيرة؟) فهذان ليسا الخيارين الوحيدين".
والرفض من الخيارات الأخرى، إذ تقول كارتر جاكسن إن "الرفض أحد استراتيجيات المقاومة الفعالة. المقاطعة والإضراب وحركة إلغاء العبودية وحركة الحقوق المدنية، كثير من ذلك نصنفه ضمن المقاومة، لكنه بصورة أكثر تحديداً هو الرفض، والرفض استراتيجية تحدد المسموح به وغير المسموح به، بينما المقاومة مفهوم أوسع، لكن الرفض استراتيجية تستهدف الإشكالي فيما تقاومه: ما الذي أقول له لا؟ الرفض يتعلق بالتنافس على فهم حقوق الإنسان، وعلى تعريف اللياقة".
ومن الخيارات أيضاً البهجة. و"البهجة السوداء شيء شديد الخصوصية في التجربة المعيشة للشعب الأسود. السعادة شيء عابر. والبهجة تنبع من الكفاح ومن الألم ومن الإحساس العميق بالفقد. وشأن البهجة أن تبقى فيك على رغم كل الصعاب، وهي التي تحول دون فقدانك عقلك، وهي التي تصون فينا إنسانيتنا التي ناضل الشعب الأسود بضراوة من أجلها. لا أعتقد أننا نرى في البهجة سلاحاً لكنها كذلك في حقيقة الأمر".
تكتب كيلي كارتر جاكسون أن "الرفض يؤسس حدوداً ويكشف التفاعلات الإنسانية غير المقبولة من قبيل سلب الكرامة والاحترام واللياقة. وهو ليس بالفتور أو التهكم، ولكنه مقاومة مبنية على تجربة إنسانية معيشة كاملة". وتجلت هذه المقاومة في "برامج لا حصر لها لإطعام أوساط السود وتعليمهم وعلاجهم ورعايتهم. وكثير من الخطوات المحورية على طريق إنهاء العبودية كانت من أعمال الرفض، إذ أنشئت السكك الحديد تحت الأرض لأن دعاة إلغاء العبودية رفضوا التواطؤ في القمع والانتهاك. شكل القادة السود والحلفاء البيض جمعيات الحماية ونشروا الصحف والنشرات والروايات الشخصية لوضع أجندة وطنية لإلغاء العبودية بناءً على الرفض الثقافي والخطابي والسياسي والمادي. وحينما حارب قرابة 250 ألف جندي أسود خلال الحرب الأهلية كانوا يرفضون العبودية على الأراضي الأميركية".
"وبالروح نفسها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20 رفض حزب (الفهود السود) المواطنة من الدرجة الثانية، وأنشأوا برامج وطنية للإفطار وعيادات صحية وخدمات إسعاف ودعماً قانونياً ومدارس وبرامج رعاية لرفض فراغ الخدمات الصحية المتاحة للأميركيين السود. وفي فترات الاضطراب العرقي والسياسي، تركزت حركة (القوة السوداء) على البهجة والتضامن وإثارة الأمل والسعادة والقرابة لتكون درعاً يصد سهام العنصرية التي تنال من الروح المعنوية. وكان شعار (قلها عالية: إنني أسود وإنني فخور) الذي أطلقه جيمس براون رفضاً لتقويض العنصرية البيضاء كل جميل أو ملهم أو طيب".
"وعلى رغم أن الرفض قد ينبع من فرد فإنه في جوهره جماعي، ولذلك فإن الشعور الكامن وراء كلمة (نرفض) يظل قائماً وسط المقهورين. وهو قول متكرر لدى النسويين السود وفي سياسات الأميركيين الأصليين يؤكد أن المقهورين يمكن وينبغي أن يرفضوا إخفاءهم وإخراسهم وإنكار وجودهم، فقد ظل السود يقاومون على الدوام، منذ عهد سفن العبيد الآتية إلى العالم الجديد مروراً بالعبودية والفصل العنصري والعنصرية البنيوية المستمرة".
"والثقافة السوداء ترفض أن تتحدد في حدود القهر. لقد كان الرفض نشيدنا الوطني، وطريقتنا في الوجود، حاضراً في جدة وعبقرية عاميتنا، وفي الصحف والأدب اللذين أبدعناهما لنحكي عبرهما قصصنا في مواجهة محاولات إنكار التعليم علينا. وهو حاضر في الطبول والأوتار والأصوات في موسيقانا التي ترفض الاستنساخ أو المحو، وفي الأغاني التي ترفض الجبن أو المهاودة، بل إنه حاضر في تراث المغفرة لدينا وحسن الضيافة لمجتمعاتنا التي غالباً ما لا ترحب بنا".
"الثقافة الثورية، والفن، والمجتمع وكل ما نشأ من تراثنا دليل على أننا قادرون ـ شأن أسلافنا ـ على أن نشق طريقاً جديداً يرفض الاختيار ما بين حياة العبودية والعرج. بوسعنا الآن، وإلى الأبد، أن نرفض ونصر على خلق مصائرنا بأيدينا".
وفي حوار ببليشرز ويكلي تقول كيلي كارتر جاكسن إنني "أرجو أن يشرع الناس في الابتكار. فسر الجمود الذي نعيشه هو أننا نستعمل الأدوات نفسها راجين الحصول منها على نتيجة مغايرة. أريد أن يتمكن الناس من النظر إلى القصص الواردة في كتابي واستلهامها في شق طريق مختلف، طريق يحدث بالفعل تأثيراً. أعتقد أن معظم الناس يريدون ذلك. ولست أتحدث عن السود وحدهم. فبوسع جميع الناس، ويجدر بهم، أن يرفضوا. كلنا ينبغي أن نقول لا مجتمعين ثم نصوغ بعد ذلك شيئاً أفضل لنا جميعاً".
عنوان الكتاب: We Refuse: A Forceful History of Black Resistance
تأليف: Kellie Carter Jackson
الناشر: Seal Press