ملخص
دور نشر فرنسية تبادر إلى إصدار مجموعة من الكتب البارزة ترجم بعضها عن الإنجليزية - الأميركية بغية إفساح المجال للفرنسيين والناطقين بالفرنسية من متابعة تفاصيل هذه الانتخابات والتعرف على ما خفي من أميركا.
ينشغل العالم اليوم بالانتخابات الرئاسية الأميركية التي أصبحت بالنسبة إلى كثيرين ساحة المعركة العظمى. فازداد الاهتمام بقراءة كتب تتناول النظام الأميركي في جوانبه السياسية والقضائية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية. وها هي دور نشر فرنسية تبادر إلى إصدار مجموعة من الكتب البارزة ترجم بعضها عن الإنجليزية - الأميركية بغية إفساح المجال للفرنسيين والناطقين بالفرنسية من متابعة تفاصيل هذه الانتخابات والتعرف على ما خفي من أميركا.
من هذه الكتب كتاب ستيفن براير " تأويل الدستور الأميركي، الحرف أم الروح؟" (ترجمة باتريك هيرسان، أوديل جاكوب، 2024) الذي عين قاضياً مشاركاً في المحكمة العليا للولايات المتحدة من سنة 1994 حتى تقاعده سنة 2022. والمحكمة العليا هي أعلى محكمة في القضاء الفيدرالي الأميركي، تتمتع بولاية قضائية نهائية على جميع قضايا المحاكم الفيدرالية، لا سيما تلك التي تكون الدولة طرفاً فيها.
يتحدث براير في هذا الكتاب عن تحول المحاكم الأميركية إلى ساحة معركة تمس جوهر الديمقراطية. فيخبرنا أن المحكمة التي خدم فيها عكست في تكوينها عدم التوازن الحزبي. فهي مؤلفة من 9 قضاة تم تعيين 6 منهم من قبل رؤساء جمهوريين، علماً أن القضايا التي تطرح عليها تحوي جوانب سياسية بالغة الأهمية، ولو كان طابعها الأساس قانونياً صرفاً. من هذه الزاوية يدافع براير عن مبدأ قانوني يعرف بـ"النية" مقابل مبدأ القراءة الحرفية للنص القانوني، التي باتت اليوم القاعدة المتبعة في القرارات التي تأخذها المحكمة العليا. فيورد على سبيل المثال لا الحصر إلغاء حكم تناول الحقوق الإنجابية، وهي إحدى القضايا الرئيسة في الانتخابات الرئاسية الحالية، ليقول لنا أن المحكمة الأميركية العليا ألغت سنة 2022 الحق الفيدرالي في الإجهاض، مصدرة قراراً تاريخياً تخلى عن حكم "رو ضد ويد"، تاركة لكل ولاية تحديد حقوق الإجهاض لديها. وعلى الإثر منعت بعض الولايات المحافظة التي يحكمها الجمهوريون الإجهاض، متخلية عن القانون الذي كان يحمي هذا الحق منذ عام 1973.
اعتمد هذا الحكم القضائي بحسب براير على التعديل الـ14 للدستور، الذي ضمن لكل مواطن أميركي حق الحرية والمساواة. لكن قضاة سنة 2022 رأوا أنه لا شيء يثبت أن واضعي الدستور كانوا يقصدون تطبيق هذين الحقين على الحقوق الإنجابية. وعليه، لخص براير موقفهم قائلاً: "لا يمكننا اليوم القول إن التعديل يحمي هذه الحقوق"، مضيفاً: "هذا هو المبدأ الذي يعتمده القضاء الأميركي كطريقة تفسير (...) تعطي قيمة حاسمة للمعنى الذي أراده واضعوا الدستور"، مظهراً لقرائه كيف تعتمد المحكمة في قراراتها الصادرة سنة 2022 على ما كان يعتقده الناس سنة 1868، سنة التصديق على التعديل الـ14 للدستور، علماً أن هذا التعديل صدر يوم كان "الرجال" يمتلكون وحدهم حقوقاً قانونية، ولم يكن للنساء بعد "هوية قانونية منفصلة عن أزواجهن". يضيف براير أن واضعي دستور 1788 وتعديله سنة 1868، لم يسعوا إلى شيء إلا لإرساء حقي الحرية والمساواة.
حقوق النساء
وبالنظر إلى كونهم رجالاً من زمن معين لم يتصوروا إمكان إعطاء هذه الحقوق للنساء، لكن ذلك لا يعني أن تطبيقها عليهن خيانة لروح الدستور الموضوع "ليبقى قروناً وليواكب الأزمات التي قد تواجه الأميركيين"، بحسب جون مارشال، الذي ترأس المحكمة العليا عام 1819، ملخصاً مبدأ "النية"، التي تقوم على تحديد "قيم أساسية" في نيات المشرعين، صالحة لكل زمان، إلى جانب كونها قابلة للتطبيق في سياقها الخاص بكل فترة. بتعبير أوضح، أكد براير أن مبدأ "النية"، هو "الأكثر توافقاً مع التقليد"، بينما يمثل مبدأ العودة إلى حرفية النص المعمول به قطيعة جذرية مع هذا الانفتاح القديم على تطورات العالم، إذ يعبر عن رغبة معاصرة بالعثور في الماضي على "إجابة واحدة صحيحة" لكل قضية تعرض على القضاة. لكن هذا المبدأ الأخير يحكم للأسف القضاء الأميركي ويعبر عن الاعتقاد بحقيقة ثابتة لا تتغير، مما يزيد برأي المؤلف من حال التوتر والعبثية التي تهدد بإشعال البلاد. ولعل هذا الجانب من تفسير الدستور الأميركي يمس جوهر ما يدور في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
أما الكتاب الثاني الموسوم "المدينة فيما بعد، ديترويت تحقيق سردي" الصادر لدى فلاماريون لأستاذة الأدب المقارن رافاييل غيدي، فيهتم بشرح وتحليل حالة إفلاس مدينة السيارات ديترويت الواقعة في ولاية ميشيغان، مهد الاقتصاد الفوردي سنة 2013. فيه تحاول الكاتبة الإجابة عن سؤالين أساسيين يتناولان حال المدينة بعد الكارثة الاقتصادية التي حلت بها وتحولها إلى مدينة أشباح أو إلى مدينة متحررة من نير الرأسمالية.
في الواقع، يقدم لنا هذا الكتاب رحلة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، يجمع في تحقيق أدبي جميل، روايات السكان والنشطاء والكتاب والباحثين. فيه تتساءل الكاتبة عن كيفية رواية عوالم معقدة، هشة ومتنوعة تعيد تشكيل نفسها في زمن الكوارث. فتستعرض حالة "بومباي الأميركية" بعد الإفلاس من خلال مجموعة هائلة من الروايات والمقالات، مشيرة إلى التعقيد في القصص التي نسجتها هذه المدينة. كما تأتي على ذكر صورها التي ظهرت في "لوموند" و"إل باييس" و"نيويورك تايمز"، والتي كشفت عن حال الدمار التي كانت عليه مدينة السيارات وقاعدتها الصناعية المهترئة بعدما هجرها سكانها وأغلقت مدارسها وغطت الأعشاب منازلها ومستودعاتها، هي التي كانت رابع أكبر مدينة في أميركا.
الأزمة المالية
تقول رافاييل غيدي إن ديترويت "منذ الأزمة المالية العالمية سنة 2008، أصبحت موضوعاً سينمائياً وفوتوغرافياً يستقطب عشاق الكوارث والاستعارات الأدبية". فهي تمثل، في الوقت عينه، الانحدار والنهضة واليوتوبيا الأميركية. وتؤكد في مفارقة ظاهرة أن "ما يمثل بقايا مؤلمة للأزمة الاقتصادية لسكان ديترويت أصبح، في الكتب الفاخرة التي تزين طاولات القهوة الأميركية، عرضاً لصور فنية مثيرة"، مضيفة أن المدينة يزورها كل عام آلاف السياح "البيض" الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ليشاهدوا نهاية الرأسمالية، بينما يحاول السكان، ومعظمهم من الأميركيين الأفارقة، البقاء على قيد الحياة، من خلال تحويل الأراضي المهجورة، على رغم تلوثها، إلى بساتين ومزارع صغيرة. كما تلفت الكاتبة انتباه قرائها إلى أن "تحويل الأحياء المهجورة إلى مزارع وتجديد وسط المدينة عزز في مفارقة ظاهرة من قيمة العقارات ومنح الأراضي المزروعة إمكانية دخولها ولو جزئياً في السوق العقارية من جديد"، مما "رفع أسعار مساكنها القديمة واجتذب سكاناً جدداً من الساحل الشرقي وأوروبا، رأوا في هذه المدينة المهجورة "لوحة فارغة" يمكن على أنقاضها إعادة بناء مدينة مثالية". هؤلاء القادمون الجدد يأملون في الاستفادة من هذه الجنة في الغرب الأوسط، مجددين بذلك أسطورة الفتح الأميركي.
أما كتاب المؤرخ نيكولا أوبان "المارينز، تاريخ أسطورة أميركية" الصادر عن دار نشر بيران، فيعيد النظر في الصورة الأسطورية لقوات المارينز الأميركية التي تأسست سنة 1775، والتي عانت في بداياتها من سمعة سيئة بسبب ضعف انضباط وكفاءة عناصرها. غير أن هذه القوة، على ما يقول الكاتب، أصبحت بدءاً من أواخر القرن الـ19، ومع تصاعد الإمبريالية الأميركية، قوة تدخل حاسمة في العمليات السريعة. فنمت شهرتها منذ الحرب العالمية الثانية من خلال معارك شهيرة، زادت أفلام هوليوود من بريقها حين قدمت جنود المارينز كرمز للشجاعة والإخلاص. وعلى رغم من إخفاق هؤلاء الجنود في فيتنام والشرق الأوسط، يقدم كتاب أوبين رؤية عميقة حول تطور فرقتهم ودورها في الثقافة الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن الجغرافيا السياسية للولايات المتحدة وتأرجح بعض الولايات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري كانت أيضاً موضع اهتمام إيفان برونو الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية، الذي أصدر كتاباً بعنوان "في بلاد بيرني ساندرز، دراسة عن أميركا مختلفة" (منشورات المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية في باريس). يدرس هذا الكتاب الانقسام الواضح بين أميركا الحضرية الساحلية الموالية للحزب الديمقراطي وولايات الداخل والجنوب التي تهيمن عليها الريفية المحافظة، لكن هذا الانقسام الواضح يحتاج برأي الكاتب إلى إعادة نظر. فمن خلال دراسة أجراها برونو في مدينة صغيرة في ولاية فيرمونت بين الأعوام 2015 و2020، لاحظ أن هذه الولاية غير تقليدية، فهي ريفية وتقدمية في الوقت عينه. فيها يتعايش التيار المحافظ على أنماط الحياة التقليدية والرغبة بالتغيير التي يمثلها السيناتور بيرني ساندرز، الذي يمثل الجناح اليساري للحزب الديمقراطي.
وعلى رغم أن الكتاب لا يسلط الضوء على الديناميات السياسية الحالية، فإنه يعرض تفرد منطقة تحتفظ بتقليد الاجتماع السنوي الذي تأسس في القرن الـ17 وبثقافة النقاش الجماعي. ولعل هذا الكتاب يشكل توازناً مثيراً للاهتمام أمام النظرة المتشائمة التي تربط بين الريفية والانحسار الديمقراطي بصورة دائمة.
الأساطير المؤسسة
أما كتاب أنييس دولاهاي مديرة قسم الدراسات الأنغلوفونية في جامعة ليون 2 "مغامرون وحجاج وبيوريتانيون، الأساطير المؤسسة لأميركا" (باسي كومبوزي)، فيتناول مسألة ثقافية حادة تتمحور حول طبيعة الأمة الأميركية، والتي أظهرت الحملات الانتخابية الأخيرة أن الأميركيين غير متفقين على ما يجمع بينهم، إذ أصبحت مسألة الأصول قضية حاسمة، تتجلى في الصراع ضد الدراسات التاريخية التي تتناول موضوع وصول أول المستوطنين الإنجليز وقمع السكان الأصليين، الذي يقوده تيار محافظ يسعى إلى فرض رواية تاريخية وطنية تبدأ في العام 1776، مع إعلان الاستقلال، "تحكي حصراً عن مجد البيض"، وفق ما تقول المؤرخة.
يستند هذا الكتاب إلى دراسة دقيقة للكتابات التي تركها هؤلاء "المغامرون والحجاج والبيوريتانيون" في أوائل القرن الـ17. فيسعى إلى فهم تبريراتهم لهذا "الاستيطان الاستعماري" وكشف ازدواجيات الأسطورة الأميركية، المتأرجحة بين الوعد بالحرية للمهمشين الأوروبيين والهيمنة الإمبريالية، ازدواجيات تصعد اليوم حتى درجة الغليان، مما قد يشكل، بحسب دولاهاي، تهديداً للوحدة الوطنية.
أما الكتاب الأخير الموسوم "رجال لكل زمن" لآيمي هومز الصادر بترجمة فرنسية عن دار آكت سود، فيحاول فهم كيف أصبح الحزب الجمهوري حزب دونالد ترمب. فيه تعود الروائية إلى انتخاب باراك أوباما سنة 2008، في الليلة التي اعترف فيها المرشح جون ماكين بهزيمته في فندق في فينيكس في ولاية أريزونا.
تخبرنا الرواية أنه في هذه المدينة اجتمع المؤيدون والمتبرعون، ومن بينهم "البيغ غاي"، بطل الرواية التي تتحدث عن صدمته من رؤية رجل أسود يصل إلى البيت الأبيض وانهيار رؤيته الشخصية للحلم الأميركي، مما يدفعه إلى وضع خطة سرية لإنقاذ البلاد بالتعاون مع مجموعة صغيرة من الرجال الذين يتقاسمون وإياه القيم نفسها. على تتالي صفحات الكتاب، يتابع القارئ اجتماعات هذه المجموعة والحوارات الحادة التي تدور بين أعضائها حتى تنصيب الرئيس الجديد في خط سردي يكشف عن أحوال الولايات المتحدة من خلال وصف الحياة العائلية لـ "البيغ غاي" والمال السياسي والأسرار التي جعلت زوجته مدمنة على الكحول والتي تعكس كمرآة أحوال المجتمع الأميركي والأوليغارشية التي صارت تهدد بتدمير ديمقراطيته إلى جانب تنامي جماعات اليمين المتطرف ودعاة تفوق العرق الأبيض، والانقسام الحاد الذي أدى إلى صعود ظاهرة عدم الثقة في نزاهة الانتخابات وعدم التسليم بنتائجها. فما كان يميز الولايات المتحدة كقوة للتنوع والثراء الاجتماعي، لم يعد اليوم موضع إجماع، وبات الأمن الأيديولوجي الأميركي في خطر مع تمدد جماعات الكراهية التي تضم عسكريين ورجال شرطة حاليين وسابقين، في بلد يسمح بامتلاك السلاح وتعاطي الماريجوانا، مما يضع الديمقراطية الأميركية في مأزق حاولت هذه الكتب مقاربته من زوايا مختلفة.