ملخص
شبكة الاعتماد المتبادل التي تطورت خلال أعوام العولمة منذ ثمانينيات القرن الماضي أصبحت أكثر تعقيداً من أن تتفكك ببساطة من دون أضرار.
حدث تزامن غير مقصود بين انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في 22 دولة من دول الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي وشهدت تقدماً لليمين المتطرف، وبين الإعلان عن فرض تعرفة ورسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية الواردة إلى أوروبا بنسبة 38 في المئة، لكن حتى على رغم التزامن غير المقصود فإن هناك دلالة مهمة لتلك الخطوة الحمائية الأوروبية تجاه الصين والسياسات المتوقعة لبروكسل في ظل وجود قوة يمينية متطرفة داخل البرلمان الأوروبي.
يأتي ذلك في وقت تقر "مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى" الاقتراح الذي توصل إليه وزراء مالية دول المجموعة في وقت سابق حول إقراض أوكرانيا 50 مليار دولار، بضمان عائد الأصول الروسية المجمدة ومعظمها في أوروبا، وربما يكون مفهوماً موقف أوروبا في ما يتعلق بروسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا، أي على حدود الاتحاد الأوروبي، وبالتالي اتفاق بروكسل مع واشنطن في سياسة معاقبة موسكو وعزلها مالياً واقتصادياً، إلا أن سابقة التصرف في أصول مجمدة تعني أن أوروبا تخطو خطوة إضافية على طريق التبعية لواشنطن والتخلي عن قواعد وأعراف راسخة في العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية الدولية، ومع أن نسبة الرسوم الأوروبية لم ترق حد التعرفة التي فرضتها الولايات المتحدة على السيارات الكهربائية الصينية عند نسبة 100 في المئة، لكنها في النهاية خطوة على طريق اصطفاف أوروبا مع أميركا في ما يتعلق بمواجهة ما تسميه واشنطن "فائض الإنتاج" الصيني.
سياسات اليمين الاقتصادية
ربما لم تكسب قوى اليمين المتطرف غالبية في البرلمان الأوروبي، لكن زيادة عدد المقاعد التي فازت بها في البرلمان الجديد تعني أن السياسات الاقتصادية الأوروبية ستتجه نحو بعض ما يعتقده هذا اليمين لتأتي قضية الهجرة في المقدمة، وعلى رغم أن هناك مشكلات تتعلق بالهجرة غير الشرعية، بخاصة من جنوب المتوسط، إلا أنه لا يمكن إغفال أهمية المهاجرين في النشاط الاقتصادي الأوروبي.
ومع التباطؤ الواضح في نمو الناتج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي فستزيد مسألة الحد من المهاجرين من الضغط على فرص النمو في جوانب مختلفة، أولها الإنفاق الاستهلاكي وليس آخرها سوق الوظائف والعمل.
وفي هذا السياق ستضغط قوى اليمين باتجاه سياسات انعزالية وحمائية على خطين متوازيين، الأول معارضة مزيد من سياسات الاندماج في الاتحاد والضغط من أجل إعادة زمام بعض الأمور التي تقررها بروكسل لعواصم الدول الوطنية في الاتحاد، وسيؤثر ذلك التوجه الانعزالي القُطري في علاقة الاتحاد الأوروبي ككل بشركائه التجاريين، ليس فقط في آسيا وإنما حتى في أميركا الشمالية والولايات المتحدة.
ومع ما هو معروف من شعارات مغالية في القومية الوطنية لدى قوى اليمين واليمين المتطرف خصوصاً، فيمكن أن نشهد مزيداً من الإجراءات الحمائية، ليس فقط في ما يتعلق بالتجارة ولكن أيضاً لرأس المال والتكامل الاقتصادي بصورة عامة، وسيضيف ذلك إلى الأخطار التي تواجهها العولمة بالفعل نتيجة العقوبات وفرض الرسوم وغيرها، ولن يكون مستغرباً أن تزيد وتيرة الحروب التجارية نتيجة تلك السياسات الحمائية والانعزالية.
وربما يكون المثال الأوضح في التحول في مجال الطاقة لمواجهة التغيرات المناخية، فمعظم اليمين الأوروبي، مثله مثل نظيره الأميركي، لا يرى أن هناك مشكلة تغير مناخي أو في الأقل لا يتحمس للتحول إلى الطاقة الخضراء النظيفة، ويعتبر ذلك تهديداً للصناعات التقليدية، وبما أن أوروبا تعتمد إلى حد كبير في مجال التحول إلى الطاقة من مصادر متجددة على استيراد مكونات أساس من الصين وغيرها، فإن التراجع عن "الصفقة الخضراء الأوروبية" يعني انخفاضاً في التجارة الأوروبية مع الشركاء في مكونات مصادر الطاقة المستدامة، من ألواح الخلايا الضوئية إلى توربينات الرياح.
العقوبات والرسوم والتجارة
التصور العام هو أن تلك العقوبات وفرض الرسوم والتعرفة الجمركية تهدف إلى إعادة تموضع سلاسل التوريد في الأسواق الخاصة بها، أي أن تصبح كل أعمال الشركات الأميركية في أميركا، لكن الواقع أن شبكة الاعتماد المتبادل التي تطورت خلال أعوام العولمة منذ ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت أكثر تعقيداً من أن تتفكك ببساطة من دون أضرار.
ومنذ أزمة وباء كورونا وبعدها الحرب في أوكرانيا وتوسع الغرب في فرض حزم عقوبات غير مسبوقة على روسيا، يتجه أكبر اقتصاد في العالم في الولايات المتحدة ومعه حلفاء واشنطن في أوروبا وغيرها نحو الانعزالية الاقتصادية، والضغط لتوطين الشركات في بلادهم والتخلي عن أهم ملامح العولمة.
وتضاف إلى كل ذلك عوامل طارئة واستثنائية تضر بالتجارة الدولية، مثل هجمات الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن على الملاحة في البحر الأحمر، وعرقلة الملاحة في البحر الأسود بسبب حرب أوكرانيا.
وليس المتضرر من تلك العوامل الدول المقصودة بالعقوبات مثل روسيا وحسب، ولا الدول المقصودة بفك الارتباط التجاري والمالي مثل الصين مثلاً، إنما يضر ذلك بمعظم الدول الصاعدة والنامية التي أصبحت مستفيدة من شبكة التبادل التي تطورت مع العولمة خلال العقود الأخيرة.
الصين وحروب التجارة
وعلى رغم القيود المتتالية ضمن الحرب التجارية الغربية عليها، فإن الصين مثلاً شهدت زيادة في صادراتها الشهر الماضي بـ 7.3 في المئة لتصل صادرات ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى 302.4 مليار دولار خلال مايو (أيار) الماضي، وهكذا اتسع فائض الميزان التجاري للصين على عكس ما تسعى أميركا وأوروبا إلى تحقيقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ فترة وبكين توسع علاقاتها التجارية مع الشركاء الآسيويين، وبخاصة في جنوب غرب آسيا، وتحذو روسيا حذوها في تغيير هيكل علاقاتها التجارية والمالية والاقتصادية بعيداً من الغرب، ومع ذلك تظل العقوبات التي يتوالى فرضها على موسكو تؤثر سلباً في اقتصادات صاعدة مثل تركيا والهند.
وفي دراسة حديثة لـ "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي" يخلص الباحثون إلى أن فاعلية الإجراءات الأميركية ضد الصين مشكوك في تأثيرها، ليس فقط لأن بكين تتخذ إجراءات انتقامية مقابلة، ولكن لأن الشركات والأعمال الأميركية تفقد ميزات مهمة للتوسع والنمو بفك الارتباط مع الصين، عبر معاقبتها برسوم وتعرفة عالية على صادراتها وتقييد الاستثمار الأميركي فيها.
ومع ما هو متوقع من اتساع نطاق الحروب التجارية والاقتصادية نتيجة صعود اليمين في أوروبا والغرب بصورة عامة، فربما تتمكن الاقتصادات القوية مثل الصين من تفادي التأثير الكارثي للقيود والعقوبات، لكن الاقتصادات الصاعدة والنامية مثل الهند ودول أخرى في آسيا، وكذلك دول في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ستكون أكثر تضرراً من تلك الحروب الاقتصادية.