في تقريره السنوي الصادر حديثاً، حذر معهد ستوكهولم لأبحاث السلام من تنامي دور الأسلحة النووية في ظل التوتر الذي يسود العلاقات الجيوسياسية بين الدول حول العالم لافتاً إلى زيادة في عدد وأنواع الأسلحة النووية قيد التطوير لدى الدول التسع المسلحة نووياً، الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، التي نشر عدد منها أسلحة نووية جديدة أو أنظمة أسلحة ذات قدرة نووية عام 2023.
تقرير المعهد السويدي الصادر أمس الإثنين، كشف عن عدد من الأرقام التي تشير إلى عودة القوى الدولية إلى سباق تسلح نووي يعيد إلى الصدور القلق من تكرار تلك المأساة التي شهدتها البشرية في السادس والتاسع من أغسطس (آب) 1945 عندما قُتل أكثر من 210 آلاف شخص في هجومين ذريين شنّهما طيران الولايات المتحدة على اليابان خلال الحرب العالمية الثانية إذ قُتل نحو 190 ألفاً من سكان مدينة هيروشيما ونحو 75 ألفاً في مدينة ناغازاكي.
الصين تشعل القلق الدولي
الجزء الأكثر إثارة للقلق في التقرير ربما يكون من نصيب الصين إذ تتصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي الذي يمر عبره حوالى 3 تريليونات دولار من التجارة سنوياً، إذ تطالب بكين بنسبة 90 في المئة من بحر الجنوب الغني بموارد الطاقة، لكن تايوان وماليزيا والفلبين وبروناي وفيتنام يصرون على حقوق أوسع لهم. كما ترسل واشنطن سفناً حربية بانتظام إلى الممر المائي الإستراتيجي في هذه المنطقة لإثبات حرية الملاحة ودعم تايوان.
ووفق التقرير، فإن الصين تشهد توسعاً "كبيراً" لقدراتها النووية وقد تمتلك عدداً من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات يحاكي ما تمتلكه الولايات المتحدة أو روسيا بحلول عام 2030 إذ إنها تجري عملية تحديث وزيادة لترسانتها النووية فقد زاد مخزون الرؤوس النووية لدى الجيش الصيني من 410 رؤوس نووية عام 2023 إلى 500 بحلول يناير (كانون الثاني) العام الحالي.
ترفض بكين الانضمام إلى واشنطن وموسكو في أية معاهدة نووية، وفي تصريحات تعود إلى عام 2019، ردّ سفير الصين لدى الأمم المتحدة تشانغ جون على مطالب الولايات المتحدة لبلاده بأن تكون طرفاً في معاهدة نزع الأسلحة النووية قائلاً " أعتقد أن الجميع يعرف أن الصين ليست على المستوى نفسه للولايات المتحدة والاتحاد الروسي في ما يتعلق بالأسلحة النووية".
لكن وفق معهد ستوكهولم، فإن بكين تعمل على تطوير ما يسمى بـ "ثالوث نووي" يتكون من صواريخ برية وبحرية جديدة وطائرات قادرة على حمل الطاقة النووية.
وجاء التوسع في قدرات الصين في وقت حذر فيه المركز البحثي المعني بتتبع شؤون الأمن العالمي والسيطرة على الأسلحة، من أنه حتى مع انخفاض العدد الإجمالي للرؤوس الحربية النووية في جميع أنحاء العالم مع التخلص التدرجي من أسلحة حقبة الحرب الباردة، كانت هناك زيادات مطردة على أساس سنوي في عدد الرؤوس الحربية التشغيلية التي يمكن استخدامها سريعاً في حال الصراع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانخفض العدد الإجمالي المقدر للرؤوس الحربية النووية في العالم إلى حد ما وبلغ 12121 مطلع العام الحالي، بعدما كان 12512 في 2023. لكن في حين أن بعض هذه الرؤوس الحربية النووية تشمل رؤوساً قديمة من المقرر تفكيكها، فإن 9585 منها موجودة في المخزونات لاستخدام محتمل، بزيادة تسعة عن 2023، فيما 2100 في حال "تأهب تشغيلي عال"، أي جاهزة للاستخدام الفوري للصواريخ البالستية، وبينما تتعلق معظمها بروسيا والولايات المتحدة، فإنه يعتقد أن الصين وضعت بعض الرؤوس النووية في حال تأهب للمرة الأولى.
يتوافق تقرير معهد ستوكهولم مع تقارير دولية أخرى، بما في ذلك تقرير صدر أخيراً عن خدمة أبحاث الكونغرس في الولايات المتحدة، يشير إلى أن الصين ربما لديها أكثر من 500 رأس نووي تشغيلي وأنها في طريقها لتجاوز التوقعات السابقة.
وفي حين تنفي بكين أنها تعمل على تطوير ترسانتها النووية، يقول الزميل المتخصص في السياسات النووية لدى مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تونغ تشاو إن الجيش الصيني ربما يحصل على أكثر من 700 رأس نووي بحلول عام 2027 وألف رأس بحلول نهاية العقد الحالي إذا ما استمرت عملية التطوير بوتيرتها الحالية.
ومع ذلك، يستبعد مراقبون أن تبلغ الصين مستوى ما تستحوذه روسيا والولايات المتحدة من رؤوس نووية بحلول عام 2030، إذ تمتلك الأولى 5580 رأساً نووياً فيما تمتلك الثانية 5044 رأساً نووياً. ويقول تشاو "شخصياً، لا أعتقد أن الصين اتخذت قراراً بالتوصل إلى التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة.. لكنني أفهم أن عدداً من الخبراء الأميركيين يفترضون بالفعل أن التكافؤ النووي هو هدف التوسع الصيني".
من الردع للاستخدام
في حين تهدف القوى الكبرى البقاء على الترسانات النووية باعتبارها أداة ردع، فإن التوترات الجيوسياسية التي ترسم ملامح العقد الثالث من القرن الـ21 تدفع بقلق متصاعد حيال احتمالات استخدام تلك الأسلحة، لا سيما منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، وتلويح موسكو مراراً باستخدام السلاح النووي. ووفق تقرير معهد ستوكهولهم فإنه للمرة الأولى في زمن السلم يُعتقد أن الصين تنشر عدداً محدودً من الرؤوس النووية إذ تم تثبيتهم على صواريخ بدلاً من بقائهم في وضع التخزين. ويعتقد الباحثون لدى المعهد أن بكين نشرت 24 رأساً نووياً من أصل 500 أي ما يعادل نحو 5 في المئة من مخزونها.
وفيما يبدو رد فعل على التحركات الصينية والتهديدات الروسية، كشف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبيرغ، أن الحلف العسكري الغربي ربما ينشر مزيداً من الأسلحة النووية. وتزعم في مقابلة نشرتها صحيفة ديلى تليغراف البريطانية أمس الأحد، أن الصين تستثمر بقوة في الأسلحة الحديثة بما في ذلك الترسانة النووية، "التي قد تزيد إلى 1000 بحلول عام 2030". مضيفاً أن كلاً من "الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين يعملون على تحديث الردع النووي لديهم نتيجة للتهديد المتزايد من روسيا."
ويقول مدير معهد ستوكهولم دان سميث: "نحن الآن في واحدة من أخطر الفترات في تاريخ البشرية". هناك مصادر عدة لعدم الاستقرار التي تتعدد بين المنافسات السياسية وعدم المساواة الاقتصادية والاضطراب البيئي وسباق التسلح المتسارع. مضيفاً "إن الهاوية تلوح في الأفق، وقد حان الوقت للقوى العظمى أن تتراجع وتتأمل. ويفضل أن يكون ذلك معاً". فيما يقول المتخصص لدى معهد ميدلبيري للدراسات الدولية جيفري لويس، "إنه عندما نفكر في أخطار سباق التسلح، نفكر في احتمال حدوث كارثة تنهي الحضارة، فعلى رغم أن الحرب الباردة لم تنتهِ بعد بكارثة واسعة النطاق، فإنها أسفرت عن سلسلة من الكوارث الصغيرة لكثير من الناس الذين عاشوها".
إضعاف الدبلوماسية النووية
الصراعات التي اندلعت منذ مطلع العقد الحالي عقدت الجهود الدبلوماسية للحد من الانتشار النووي، ووفق التقرير فإن الحرب في أوكرانيا كان لها "تأثير سلبي" في المحادثات المتعلقة بالحد من الأسلحة النووية، كما قلصت الفرص المتاحة لكسر الجمود الذي طال أمده في السيطرة على الأسلحة النووية وعكس الاتجاه المثير للقلق المتمثل في قيام الدول المسلحة نووياً بتطوير أنظمة أسلحة جديدة ونشرها.
وفي فبراير 2023، أعلنت روسيا أنها ستعلق مشاركتها في معاهدة عام 2010 في شأن تدابير زيادة خفض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية والحد منها (ستارت الجديدة)، وهي آخر معاهدة متبقية للحد من الأسلحة النووية التي تحد من القوى النووية الإستراتيجية الروسية والأميركية. وباعتباره إجراءً مضاداً، علقت الولايات المتحدة أيضاً تبادل بيانات المعاهدة ونشرها.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، سحبت روسيا تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، بحجة "عدم التوازن" مع الولايات المتحدة، التي فشلت في التصديق على المعاهدة منذ فتح باب التوقيع عليها عام 1996. ومع ذلك، أكدت روسيا أنها ستظل من الدول الموقعة وستواصل المشاركة في أعمال منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وفي الوقت نفسه، واصلت روسيا إطلاق التهديدات في شأن استخدام الأسلحة النووية في سياق الدعم الغربي لأوكرانيا. وفي مايو (أيار) الماضي أجرت روسيا تدريبات على الأسلحة النووية التكتيكية قرب الحدود الأوكرانية.
وقال مدير برنامج أسلحة الدمار الشامل لدى معهد ستوكهولم الدولي ويلفريد وان: "لم نر الأسلحة النووية تؤدي مثل هذا الدور البارز في العلاقات الدولية منذ الحرب الباردة.. من الصعب أن نصدق أنه لم يمر سوى عامين منذ أن أكد زعماء الدول الخمس الكبرى المسلحة نووياً بصورة مشتركة أن "الحرب النووية لا يمكن كسبها ويجب عدم خوضها أبداً".
ويعتقد الباحثون لدى المعهد الدولي أن الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة أدت إلى انتهاء التهدئة غير العلنية بين واشنطن وطهران في شأن الاتفاق النووي الإيراني، إذ "يبدو أن الهجمات بالوكالة التي شنتها الجماعات المدعومة من إيران على القوات الأميركية في العراق وسوريا أنهت الجهود الدبلوماسية الإيرانية الأميركية، كما قوضت الحرب في غزة الجهود الرامية إلى إشراك إسرائيل في مؤتمر إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى في الشرق الأوسط."
ويسلط التقرير السنوي للمعهد السويدي الضوء على التدهور المستمر للأمن العالمي خلال عام 2023، مشيراً إلى أن آثار الحربين في أوكرانيا وغزة واضحة في كل جانب تقريباً من القضايا المرتبطة بالتسلح ونزع السلاح والأمن الدولي. وبعيداً من هاتين الحربين، اللتين احتلتا مركز الصدارة في التقارير الإخبارية العالمية والجهود الدبلوماسية ومناقشة السياسة الدولية على حد سواء، كانت الصراعات المسلحة نشطة في 50 دولة أخرى عام 2023. وشهد القتال في جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان نزوح ملايين الأشخاص، واندلع الصراع مرة أخرى في ميانمار في الأشهر الأخيرة من عام 2023، وكانت العصابات الإجرامية المسلحة مصدر قلق أمني كبير في بعض دول أميركا الوسطى والجنوبية، مما أدى بصورة خاصة إلى الانهيار الفعلي للدولة في هايتي خلال عام 2023 وحتى عام 2024.