Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لا يحب الجزائري حياة التقاعد؟

العمل في مخيلته حالة غير منتجة وفارغة من أي مجهود مرهق يتطلب الرغبة في الراحة والانفصال

بات التقاعد عبئا ثقيلا على كاهل المواطنين في الجزائر (وكالة الأنباء الجزائرية)

ملخص

مرحلة التقاعد بالجزائر حالة من القنط والإحباط، بينما تنتظرها شعوب أخرى في الشمال على أحر من الجمر فهي منتجة وليست عقيمة

لماذا يرفض الجزائري الخروج إلى التقاعد؟ لماذا يكره الجزائري مرحلة التقاعد؟

في المتخيل الجزائري أن مرحلة التقاعد هي الموت الأول، قبل الموت الطبيعي، حتى ليبدو المتقاعد وهو يباشر سن تقاعده كأنما يمشي في جنازته الخاصة حياً / ميتاً! إن يوم بداية التقاعد هو يوم عزاء بامتياز!

نتساءل كيف ومن أين نتجت ثقافة رفض الخروج إلى التقاعد، وما سبب هذا الحزن الذي يصاحب ذلك لدى الجزائري بشكل عام؟

على المستوى السيكولوجي والاجتماعي، بمجرد أن يغادر الجزائري دوام العمل منتقلاً إلى فترة التقاعد، يجد نفسه في حال من الضياع، من دون محفز على الحياة غير مقبل عليها، غير قادر على تصور تصميم لحياة جديدة ثانية، مختلفة عن الأولى وربما أكثر عمقاً منها وأكثر متعة، حياة ثانية بذوق آخر وفلسفة جديدة لمقاربة اليومي ومقاربة الجسد والآخر.

يرفض الجزائري الذهاب إلى التقاعد، حتى وإن كان أكمل سنوات العمل كما ينص عليها القانون، لأن العمل نفسه في مخيلة الجزائري بشكل عام حالة غير منتجة، فالعمل مفرغ وفارغ من أي مجهود مرهق يطلب ويتطلب الرغبة في الراحة والانفصال.

العمل في ثقافة الجزائري، في أغلب الأحيان، هو عبارة عن تسجيل حضور جسدي مفروض من المشغل، حضور مفروض في مكان معين وبحسب توقيت يومي معين أيضاً.

إن فلسفة العمل في ثقافة الجزائري عبارة عن عادة يومية يمارسها العامل أو الموظف لـ"قتل" الوقت مع الأصدقاء الذين يشاركونه هذه العادة!

في عيون الجزائري ومخيلته، العمل غير مرتبط بمفهوم الإنتاج والمنافسة، لذلك فالعطلة كما التقاعد لا معنى لهما. العمل متداخل مع العطلة، وحين لا يكون العمل مجالاً لبذل مجهود جسدي أو فكري أو اقتصادي فإن العطلة كما التقاعد يفقدان المتعة ويفقدان المعنى الخاص بهما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بمجرد أن يلتحق الجزائري بمرحلة التقاعد يجد نفسه مسكوناً بالشعور "بالموت"، شعور غريب، وأمام هذا الإحساس المحبط يتعذر عليه التفكير في صناعة أو بناء حياة ثانية جديدة. ويستسلم العامل لهذا الإحباط السيكولوجي فيصبح فرداً هشاً، فيسلم جسده بشكل غير واع إلى شتى الأمراض.

منذ اليوم الأول لمرحة التقاعد، تتعرض يوميات الجزائري إلى حال من الانقلاب الجذري، إذ يبدو ضائعاً منذ ساعة الصباح الأولى، مشتتاً ما بين المطبخ وجهاز التحكم في التلفزيون، يقفز من قناة إلى أخرى، من برنامج إلى آخر، ينتظر اللاشيء!

هذا الضياع اليومي يشارك في تشكيله مجموعة من عناصر المحيط العام، فالمجتمع لا يقدم برنامجاً ثقافياً منوعاً قادراً على ربط المتقاعد بالحلم، لذا فالحياة اليومية تخضع للصدفة وتصنعها مجموعة من السلوكات العقيمة غير المنتجة والمرتجلة أو الروتينية.

ولأن المجتمع يخلو من نواد خاصة بالصحافيين والمحامين والقضاة والكتاب والموسيقيين والأطباء والسينمائيين والمهندسين والمغنين والفنانين التشكيليين، فالمتقاعد الذي ينتمي إلى واحدة من هذه المجموعات المهنية يجد نفسه منذ اليوم الأول ضائعاً في ما يشبه المتاهة الاجتماعية الكفكاوية.

وانطلاقاً من هذه الحالة السيكولوجية المطبوعة بحس الضياع والقلق، تبدو صور المتقاعد الجزائري كالتالي: هناك مجموعة من المتقاعدين الذي ينتمون إلى تقاليد المدرسة القديمة تجدهم غارقين في حل الكلمات المتقاطعة أو السهمية، وآخرون جلوس على الأرض في الساحات العمومية أو على الرصيف يلعبون الدومينو أو "الضامة" أو لعبة الأوراق "الكارطا"، وفئة أخرى تجدها منشغلة بأحوال المناخ، أخبار الحرارة القائظة والبرد القارس، وآخرون يختلفون بحماس حول أسعار البطيخ في السوق المحلية وأسعار البترول في الأسواق العالمية!

وآخرون أولئك الذين سكنهم سوس السياسة، تجدهم لا يغادرون كراسي المقاهي، فهم مثل قنوات الأخبار المتواصلة من دون توقف، من أحداث غزة إلى تشكيل حكومة صينية جديدة إلى التعليق على سقوط طائرة الرئيس الإيراني وسقوط طائرة قائد قوات فاغنر، والاختلاف حول أسباب خروج الجيوش الفرنسية من بلدان الساحل.

 وآخرون أيضاً تسكن شرايين دمهم كرة القدم لا يتوقفون عن مناقشة أسعار بيع وشراء نجوم كرة القدم من الأندية السعودية والإمارتية والإسبانية، وأولئك الذين بهم لمسة رومانسية يقضون يومهم في الساحة العمومية جالسين على كراس من أسمنت يطعمون حمام المدينة بالخبز اليابس بمتعة وفرح.

فئة أخرى هم أهل  الثقافة والأدب يقضون يومهم في مناقشة روايات كلاسيكية كالبؤساء لفيكتور هيغو وابن الفقير لمولود فرعون واللاز للطاهر وطار، وهناك آخرون المنشغلون بالله وبالدين، الذين يراقبون ساعاتهم وهواتفهم، دقيقة بعد دقيقة، المنتظرون أذان الصلاة، والمختلفون حول مضمون دروس العصر وخطبة الجمعة وتكاليف الحج 2024.

وأما مجموعة المتشائمين فيقضون يومهم في قراءة صفحات إعلانات الموتى في الجريدة المحلية، يقرؤونها بدقة، ويصرون على المشي في جنازة جميع موتى الحي والأحياء المجاورة، يحلو لهم مرافقة الميت حتى المقبرة، يحبون حديث المقابر، ويحبون أيضاً تناول كسكسي الميت الذي يقدم على الرصيف!

ولأن المؤسسات الثقافية في البلاد لا تملك برامج ثقافية مميزة وجذابة ومتنوعة، لا توجد صالات العروض السينمائية بأفلام عالمية جديدة، ولأن الفضاءات العمومية تخلو من النقاشات الفكرية والأدبية الجادة، وهناك جفاف في الحياة الموسيقية، حفلات نادرة، بل مرتبطة بالمناسبات في أغلب الأحيان، لا توجد غاليريهات قاعات العروض الخاصة بالفنون التشكيلية، مع غياب مكتبات عمومية بأرصدة غير متجددة، ومكتبات فاتها الزمن الثقافي والتكنولوجي.

لكل هذه الأسباب وغيرها يستسلم المتقاعد الجزائري للموت بسرعة، لأنه لم يتمكن من صياغة حياة جديدة ثانية.

إذا كانت مرحلة التقاعد عندنا هي حالة من القنط والإحباط، فهي عند شعوب أخرى في الشمال، حيث للعمل قيمته وشروطه وجديته، مرحلة من السعادة الغامرة، على أحر من الجمر ينتظر الموظف والأستاذ والمهندس والطبيب هناك حياة التقاعد، ففي ثقافة الشعوب الأخرى يبدو التقاعد حياة أخرى كاملة ومتكاملة وسعيدة، وهي ليست عقيمة بل منتجة ومثيرة ومليئة.

ما في ذلك شك، فما أقدمت عليه الحكومة الجزائرية من زيادة في رواتب المتقاعدين يعد قراراً إيجابياً ونبيلاً، ولكن يجب أن يكون هذا الخيط من الأمل مرفقاً ومدعوماً بعمل مجموعة المؤسسات الثقافية والرياضية والاقتصادية التي عليها أن تساعد المتقاعد في الاندماج في الحياة الثانية اندماجاً إيجابياً، وتحويلها إلى وجود منتج وسعيد.                              

اقرأ المزيد

المزيد من آراء