Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموت الرحيم: خلاص بكرامة أم انتحار مُقنّع؟

الظاهرة الأكثر جدلا تشغل الغرب والعالم العربي وتواجه جدار الاخلاقيات الانسانية

الموت الرحيم يثير سجالاً دائماً (صفحة أوتانازيا - فيسبوك) 

ملخص

تشهد الاوساط الثقافية في الغرب اليوم سجالا جديدا حول قضية "الموت الرحيم"، وهو سجال يتجدد فترة بلو أخرى، من دون ان يلقى حلولا نهائية. ويساهم الان فلاسفة ومفكرون غربيون في هذا السجال بحثا من أفق انساني ممكن.

لعل الموت من أخطر الموضوعات التي تثير خوف الإنسان وقلقه، ذلك بأن الإنسان "كائن مهموم أو معني بمآلات اختباراته الوجودانية. في أقصى هذه الاختبارات انفطار كيانه على الموت. فالإنسان هو الكائن المعقود كيانه على الموت. أمام استحقاق الموت، يدرك الإنسان أصالة كيانه في أعظم قدر من الجلاء الخلاصي. أمام استحقاق الموت المقبل، يستوعب الإنسان جوهر وجوده ومعطوبيته في الوقت عينه"، على ما يحلل الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون في كتابه عن هايدغر "الإنسان في رعاية الكينونة: هايدغر في المتناول الفلسفي العربي".

لذلك سعى الإنسان إلى إطالة عمره، بل كثيراً ما فكر في الخلود وسعى إليه عبثاً. من جراء التقدم العلمي والتكنولوجي والطبي زاد متوسط عمر الإنسان، لكن ترافق ذلك مع تزايد الأمراض وتوالدها. وعليه، كلما تقدم عمر الإنسان ضعف جسمه وكبرت معاناته من الأمراض التي تصيبه، لا سيما إذا كانت أمراضاً مستعصية مع ما يرافق ذلك من آلام شديدة لا تحتمل. لذلك كان التفكير في وسيلة تخفف عن المريض آلامه ومعاناته، فكان التفكير في الموت الرحيم بعدما فشلت كل الوسائل الأخرى. لكن هل يمكن أن يكون الموت تجربة لطيفة سلسة سهلة حتى هادئة وسعيدة؟ هل للإنسان الحق في الموت بكرامة كما له الحق في الحياة بكرامة لا سيما عندما يصاب بمرض لا شفاء منه مع ما يلازمه من أوجاع وآلام شديدة؟

لا شك في أن الموت الرحيم يبقى موضوعاً شائكاً ومثيراً للجدل، بل يصيب الإنسان في صميم كيانه، على رغم أن بعض الدول قد قوننته وشرعته. فيه يقف الإنسان عاجزاً أمام معاناة من يحبهم، فلا يستطيع معالجتهم وإنقاذهم من جهة، كما لا يحتمل من جهة أخرى رؤيتهم يتعذبون أشد العذاب ويعانون أشد المعاناة من دون أي أمل بالعلاج. هكذا يعيد الموت الرحيم طرح أسئلة الموت والحياة وأسرار الحياة وألغازها الكبار. لذلك يتطلب مناقشة هادئة دقيقة متزنة. وهذا ما زال محل نقاش كبير لا ينتهي في ميادين الأخلاقيات والقيم الإنسانية والقوانين المحلية والدولية المعنية.

لا جدال في أن الحق في الحياة، وتحديداً في الحياة بكرامة، ثابتة من ثوابت أنظومة القيم الإنسانية المعاصرة. حتى القتل الذي تمارسه السلطة اليوم لم يعد قتلاً بدافع الانتقام والتشفي، بل قتل من أجل الحياة، أي من أجل الحفاظ على المجتمع. لذلك دخلنا في ما سماه فوكو عصر السلطة الحيوية أو الإحيائية. ناهيك بأن الأديان في غالبيتها تقدس الحياة وتحسبها هبة من الله، يهبها ويعطيها، ومن ثم ينزعها ويأخذها. وعليه، ليس من صلاحية الإنسان ألبتة أن يتصرف فيها. بناءً على الخلفية الثقافية هذه، يغدو قتل النفس من أبشع الجرائم المدانة قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً. وعلى رغم أن الإنسان مارس القتل في الماضي وما زال يمارسه اليوم بوحشية غير مبررة، فإن القتل بقي في الوجدان الإنساني العميق عملاً لا إنسانياً لا أخلاقياً غير مشروع. من هنا صعوبة معالجة مسألة الموت الرحيم، إذ نجد أن لمسألة "الموت الرحيم" أو "القتل الرحيم" أو "القتل بدافع الرحمة" أو "القتل بدافع الشفقة"، أو "الموت بمساعدة"، أو "المساعدة على إنهاء الحياة"، أبعاداً أخلاقية وقانونية واجتماعية وعاطفية خطرة لا يمكن تجاهلها. لذلك عند معالجتنا هذه المسألة علينا الالتفات إلى الأنظومة الثقافية الدينية السائدة في المجتمع.

لمحة تاريخية موجزة

"القتل الرحيم" (Euthanasia) تعبير يوناني الأصل يعني الموت الجيد أو الموت اليسير أو الموت الكريم. شغل موضوع القتل الرحيم فلاسفة اليونان، إذ قال أفلاطون على سبيل المثال في كتابه الجمهورية: "لكل فرد الحق في العيش في كنف الدولة، ولكن ليس له الحق أن يعيش حياته بين المرض والعقاقير". إنه بذلك يدعو بشكل ضمني إلى قتل كل شخص يعاني مرضاً أو عيباً، جسدياً أو نفسياً، يجعله يعاني طوال حياته.

بعد ذلك بقرون، وتحديداً في القرن الـ17، اقترح الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون موتاً هادئاً وسعيداً للمرضى غير القابلين للشفاء. ورأى أن من واجب الطبيب أن يبذل قصارى جهده من أجل إعادة الصحة إلى المريض والتخفيف من آلامه. لكن إذا وجد أن شفاءه أمر ميؤوس منه، وجب عليه أن يهيئ له موتاً هادئاً سهلاً. في النصف الأول من القرن الـ20، أصدرت الحكومة الألمانية النازية عام 1939 قانوناً سمح بموجبه بقتل الأشخاص الذين يقرر الأطباء أن علاجهم غير ممكن بعد القيام بالفحوصات الطبية اللازمة. ترتب على هذا القانون تصفية مئات الآلاف من عام 1939 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كذلك أجبرت الطواقم الطبية على التبليغ عن الأطفال حديثي الولادة والأطفال تحت سن الثالثة، الذين يعانون إعاقة. وشرعت الحكومة الألمانية آنذاك بتشجيع الأهل الذين لديهم أطفال معاقون بعرضهم على العيادات المتخصصة بطب الأطفال، التي كانت كذلك تقتل الأطفال المعاقين إما بجرعات دواء زائدة، وإما من طريق التجويع .

لكن ما المقصود بالقتل الرحيم؟

الموت الرحيم أو القتل الرحيم مصطلح يستخدم لوصف عملية إنهاء حياة شخص مريض بشكل قانوني من دون آلام كبيرة، أي يشير إلى ممارسة إنهاء حياة إنسان على نحو يخفف من آلامه المبرحة ومعاناته الفظيعة. يرتبط الأمر، إذاً، بألم ومعاناة لا يحتملان، يحولان حياة المريض إلى جحيم لا يطاق. ذلك بأن الغاية من القتل الرحيم أو الموت الرحيم غاية إنسانية ترمي إلى تخفيف آلام المريض الميؤوس من شفائه ومعاناته، لكن بـ"قتله" قبل "الأوان" ضمن شروط محددة ودقيقة، بناءً على طلب المريض نفسه أو طلب ممن ينوب عنه، سواء أقام الطبيب بتنفيذ عملية القتل بنفسه أم أوكل هذه العملية إلى شخص آخر، وسواء أتمت العملية بشكل إيجابي أي عندما يعطى المريض ما يعجل بموته أم تمت سلباً عندما يترك المريض لمصيره الحتمي، فتنزع عنه أجهزة الإنعاش ويتم الامتناع عن تقديم العلاج المناسب للمريض.

لذلك يمكن القول إن مصطلح القتل الرحيم غالباً ما يستخدم للإشارة إلى القتل الرحيم النشط الإيجابي، أي عندما يكون هناك تدخل مباشر من الطبيب أو غيره للتعجيل بموت المريض. ومن ثم، فالموت الرحيم بمعناه المعاصر هو ما يقوم به طبيب لإنهاء حياة مريض، بهدف تخليصه من آلامه المبرحة ووضع حد لمعاناته غير المحتملة وغير القابلة الشفاء. هكذا يتبين أن جوهر المشكلة يكمن في التعجيل بإنهاء حياة محكوم عليها بالهلاك حتماً، وأن الدوافع إنسانية محض.

بهذا المعنى، تعد عملية القتل الرحيم النشط أو الإيجابي جريمة قتل جنائية في كثير من المجتمعات التي لما تتقبل بعد هذا النوع من القتل، حتى لو كان بدافع الرحمة أو بدافع الشفقة الإنسانية وحتى لو تعذر أخذ موافقة المريض. أما القتل الرحيم الطوعي والسلبي فلا يعدان في الغالب جريمة قتل جنائية. في هذا السياق، يوصف القتل الرحيم الطوعي الذي يتم بناءً على موافقة المريض بأنه نوع من الانتحار المقنع أو حتى بأنه مساعدة على الانتحار. لذلك يرى المعارضون أن اعتماد "سياسة واسعة" من القتل الرحيم هو بمنزلة سن قواعد مقنعة لتحسين النسل، لا سيما في البلدان التي تعاني كثرة كبيرة في أعداد المسنين.

شروط مفترضة

وعليه، فإن الموت الرحيم يمتلك مشروعية معينة في نظر أنصاره، لا سيما أن دور الطب يتمثل إما في شفاء المريض أو في تجنيبه المعاناة الشديدة وحفظ كرامته حتى في موته، فالغرض إنساني بامتياز.

بإمكاننا، إذاً، أن نلخص الشروط التي بموجبها يتم القتل الرحيم بما يلي:

١ -أن يكون المرض مستعصياً غير قابل الشفاء.

٢ -أن يكون واضحاً أن خلف فعل القتل رغبة إنسانية نبيلة في تخفيف المعاناة.

٣ -أن يصرح المريض بوضوح عن رغبته وموافقته على موته.

٤ -وأن يوافق طبيب أو طبيبان على أن حال المريض تستدعي الموت الرحيم.

ما فتئ مؤيدو الموت الرحيم يؤسسون مشروعيته على حرية الإنسان السيدة المطلقة في تقرير مصيره والتحكم بجسده أولاً، وعلى أن للإنسان الحق في الموت بكرامة كما له الحق في الحياة بكرامة. أما الاعتراضات على الموت الرحيم فكانت تأتي غالباً من خلفية ثقافية دينية. لذلك كانت دائماً شرسة. يتعلق الأمر إذاً بالأنظومة الثقافية الدينية الاجتماعية التي تحكم المجتمع. وينبه المعترضون إلى أن الدوافع الاقتصادية قد تكون أحياناً وراء إقرار بعض الدول قوانين الموت الرحيم، لا سيما في ظل ما نعيشه من ليبرالية متوحشة لا ترحم مريضاً ولا معافى. كما لا يتجاهلون إمكان إساءة تطبيق القانون من قبل ذوي النفوس الضعيفة عندما يتم اللجوء إلى المتاجرة بأعضاء المريض.

في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى موقفين متعارضين في شأن المعنى من الحياة: الأول وقفه زعيم النفعيين جرمي بنتام، والثاني اعتمده البابا يوحنا بولس الثاني. في كتابه "مدخل مبادئ الأخلاق والتشريع "(1789)، كتب جيرمي بنتام عن مبدأ المنفعة ما يلي: "لقد وضعت الطبيعة الإنسان تحت سيطرة سيدين مطلقين، هما الألم واللذة … فهما يتحكمان في كل ما نفعل، وكل ما نقول، وكل ما نفكر فيه، ولا يمكن أن يؤدي أي جهد نبذله للتحرر من الخضوع لهما إلا إثبات هذا الخضوع وتأكيده… ويعترف مبدأ المنفعة بهذا الخضوع، ويفترضه أساساً لهذا المذهب الذي يهدف إلى تكوين نسيج السعادة بأيدي العقل والقانون". وينقل عن البابا يوحنا بولس الثاني قوله "الشفاء إن أمكن، أما العلاج فعلى الدوام". تشرح كلماته هذه أن المريض غير القابل الشفاء لا يعني أبداً أنه غير قابل العلاج، أو أن المريض لا يستحق العلاج والعناية والمحبة، فالعناية بالمريض والرأفة به حتى النهاية، والحضور إلى جانبه حضور المؤازرة، ومرافقته والإصغاء إليه، وجعله يشعر بالحب، هذا كله يمكن أن يجنبه الشعور بالوحدة، وأن يخفف عنه المعاناة والألم، وأن يبدد خوفه من الموت.

دول  وافقت على الموت الرحيم

تختلف قوانين الموت الرحيم من دولة إلى أخرى، إذ تسمح بعض الدول بالموت الرحيم بشكل قانوني فتضع ضوابط صارمة لتنفيذه، في حين ما زالت بعض الدول الأخرى تعده جريمة قتل جنائية ونوعاً من القتل المتعمد. يذكر أن هولندا (2001) وبلجيكا (2002) هما أول دولتين أجازتا الموت الرحيم بشكل قانوني في الأحوال المستعصية. فقد شرعت هولندا على سبيل المثال الموت الرحيم بموجب قانون صدر عن مجلسي النواب والشيوخ بتاريخ 10/4/2001، يتضمن شروطاً قاسية لتطبيقه، أهمها توافق رأي طبيبين على أن لا أمل في شفاء المريض، ومعاناة المريض من آلام مبرحة وعذابات قاسية، وطلب المريض مراراً إنهاء حياته، وضرورة خضوع الأطباء لإشراف لجان إقليمية مؤلفة من قضاة وأطباء، مكلفة السهر على احترام الشروط القانونية والتأكد من انعقادها. وعليه، نجد أنها المرة الأولى في تاريخ البشرية يقر الموت الرحيم قانوناً، وذلك بعد ثلاثة عقود من الجدل والاستفتاءات والنقاشات.

ومن ثم، فإن القتل الرحيم الطوعي قانوني في هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسويسرا وبعض الولايات الأميركية مثل أوريغون وواشنطن. أما في إسبانيا فدخل قانون يسمح بالمساعدة على إنهاء الحياة حيز التنفيذ في يونيو (حزيران) من عام 2021، وهو يجيز الموت الرحيم والانتحار بمساعدة طبية، في حين أن سويسرا تطبق أساليب مختلفة للمساعدة على الموت. هذا في أوروبا، أما في أميركا اللاتينية، فهناك بعض الدول كالإكوادور وكولومبيا والأرجنتين وغيرها ألغت تجريم الموت الرحيم وأقرته قانوناً بشكل أو بآخر.

فرنسا ومشروع القانون الجديد

في فرنسا ما زال موضوع الموت الرحيم من الموضوعات الحساسة التي تثير اهتمام المجتمع الفرنسي. يسمح القانون الفرنسي الحالي المعمول به، أي قانون "الموت الرحيم" الذي تعود أحدث نسخة منه إلى عام 2016، "بالتخدير العميق والمستمر" للمرضى الذين لا أمل لهم بالشفاء على المدى القصير، ويعانون آلاماً لا يمكن تخفيفها، لكنه لا يسمح بالانتحار بمساعدة شخص أو بـ"الموت الرحيم". في هذا السياق بدأت الجمعية الوطنية في نهاية شهر مايو (أيار) مناقشاتها حول مشروع قانون جديد هو مشروع قانون "المساعدة على الموت"، وهو جوهر مشروع قانون "نهاية الحياة" الذي قدمته الحكومة.

يناقش البرلمان الفرنسي مشروع قانون جديد يسمى "المساعدة على الموت"، يسمح للشخص الذي يعاني مرضاً عضالاً غير قابل الشفاء، ولا مجال للتخفيف من آلامه، وبعد قرار طبي، بتناول مادة قاتلة بنفسه أو بمساعدة شخص آخر (طبيب، ممرضة، أو قريب) إذا كان عاجزاً جسدياً. ومن ثم تتم مناقشته الخريف المقبل في مجلس الشيوخ الفرنسي، مما يشير إلى أن إقرار مشروع القانون الجديد ربما لا يتم بشكله النهائي قبل صيف عام 2025 بحسب بعض التقديرات.

بعدما تغير اسمه من "مشروع قانون نهاية الحياة" إلى مشروع قانون "المساعدة على الموت" وبعدما تم حذف عبارة "على المديين القصير والمتوسط"، إذ يكفي أن يعاني المريض آلاماً نفسية وجسدية مبرحة يحكم عليها بأنها لا تحتمل بغض النظر عن المدة التي يمكن أن يعيشها، يذهب الفيلسوف الفرنسي المعاصر لك فري (Luc Ferry)، في تعليقه على مشروع القانون الجديد الوارد في صحيفة "الفيغارو" (عدد 30/5/2024)، إلى أن وراء هذه النقاشات والتعديلات موقفين: من جهة هناك من يريد أن يحظى بـ"المساعدة على الموت" جميع الأشخاص الذين يتمنون ذلك، إذ يكفي أنهم "متعبون من الحياة"، ومن جهة أخرى نجد أولئك الذين يصرون، كما هي الحال في النص الأول، على أنه لا يحق طلب "المساعدة على الموت" إلا للأشخاص الذين يحكم عليهم بأنهم في نهاية الحياة.

فلسفتان متعارضتان تماماً تقفان، في رأي فري، وراء هاتين الرؤيتين: من جهة نجد النفعية أو المذهب النفعي الذي يهيمن في الثقافة الأنغلو-ساكسونية والذي يتمسك بما قاله جرمي بنتام، الأب المؤسس للنفعية، من أن المعيار الوحيد لتقدير قيمة حياة الإنسان وتثمينها هو "حساب اللذة والألم". إذا كان الألم يتغلب على الأفراح والملذات بشكل لا رجوع عنه، أمكن للإنسان أن يطلب "المساعدة على الموت"، حتى لو كان يمكن أن يعيش طويلاً. وعليه، لدى الإنسان الحق الكامل في التخلص من آلامه، وذلك بطلب المساعدة على الموت. لا تنفصل الفلسفة النفعية هذه، في رأي فري، عن الفلسفة الليبرالية التي تفترض في الإنسان ذاتاً "حاملة للحقوق" تتمتع بحرية فردية مطلقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن جهة أخرى نجد الإرث المسيحي يصر، وإن في تناول جديد، على أن الحياة مقدسة وأن المعيار الوحيد لتقدير قيمة الحياة ليس حساب الملذات والآلام، بل كمية الحب وعلاقات المحبة التي تربطها بالآخرين، إذ إن طلب "المساعدة على الموت" يخفي في طياته، في نظر هؤلاء، طلباً أعمق للمحبة.

الموت الرحيم في العالم العربي

على رغم ما يجري في البلدان الأوروبية وغير الأوروبية من تقدم ملحوظ في قوننة الموت الرحيم، فإن القتل الرحيم أو القتل بدافع الشفقة ما زال في البلدان العربية التي ما برحت في ثقافتها تقف على أرضية دينية، عملاً محظوراً من الناحية القانونية، وإن كانت بعض الدول كلبنان وسوريا تجد في هذه الحال أسباباً مخففة للعقوبة. وعليه، فإن المجتمعات العربية ليست جاهزة بعد للاعتراف بالموت الرحيم وإقرار قانون لا يعده انتحاراً أو قتلاً عمداً، حتى لو فرضت شروط قاسية لتنفيذه. فنظرتها في الحياة ما زالت نظرة دينية محضاً. غني عن البيان أن الأديان في غالبيتها ترفض "الاعتداء" على الحياة التي تعاين فيها هبة مقدسة من الله. ‏‎لذلك من الصعب، في المدى المنظور، على الدول العربية ذات المجتمعات المحافظة أن توافق على إقرار قوانين تعجل بموت المريض قبل "أجله".

ومع ذلك، نجد أن بعض المجتمعات العربية، لا سيما في الدول التي تعاني تدهوراً في بنيتها التحتية الصحية ونقصاً في الدواء أو التي تعاني فساداً مستشرياً في جميع المرافق العامة، "تمارس" نوعاً آخر من القتل يمكن أن نسميه بـ"الموت غير الرحيم"، وهو الذي ينجم عن الفساد أو الإهمال أو الامتناع عن تأمين نفقات الاستشفاء، كما تتقبل و"تمارس" نوعاً آخر من القتل يمكن أن نسميه بـ"القتل العنيف"، وذلك عندما توافق، وإن بشكل غير رسمي، على قتل بعض المفكرين والمستنيرين بفتاوى دينية رخيصة. وعليه، فإن المجتمعات العربية ترفض القتل الرحيم أو المساعدة على إنهاء الحياة، حتى لو كان ذلك بشروط قاسية جداً ودقيقة جداً، لكن بعضها يمارس بكل خفة الموت غير الرحيم الناتج من الفساد والإهمال والنقص في التمويل. كما يمارس نوعاً من القتل العنيف لا سيما عندما تنحل الدولة أو تضعف، لأتفه الأسباب الدينية وغير الدينية. هكذا تبدو حياة الإنسان في العالم العربي مقدسة من جهة، حتى لو كانت في حال احتضار نهائي، وممتهنة من جهة أخرى عندما تزهق بسبب الفساد أو القتل الأيديولوجي الديني.

خلاصة القول إن موضوع الموت الرحيم ما زال مسألة شائكة طبياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً. فمهنة الطب تفقد قيمتها الإنسانية ورقيها الأخلاقي إذا ما أصبح قتل المريض الحل الأمثل والأسرع الذي يلجأ إليه الطبيب. لذلك لا يمكن، بحسب بعضهم، أن تتحول مهمة الطبيب من العناية بالحياة والحفاظ عليها ومعالجة أمراضها إلى التعجيل بالموت وإنهاء حياة المريض مهما كانت مبررات ذلك وجيهة ومشروعة. ليس من الأخلاق، بحسب هؤلاء، أن نساوي بين اليد التي تعالج واليد التي تقتل، حتى لو كان قتلاً بداعي الشفقة أو الرحمة. وكذلك ما زالت الخلفية الثقافية الاجتماعية الدينية مؤثرة وفاعلة في كثير من المجتمعات من حيث حساسية الموضوع. لسنا نجانب الصواب عندما نقول إنه من الصعب أن يوافق الإنسان على إنهاء حياة عزيز على قلبه والتعجيل بموته، حتى لو قال له الأطباء إن حاله ميؤوس من شفائها ولا علاج لمرضه. فالإنسان، في هذه الأحوال، يعيش حال إنكار تنافي العقل والمنطق. بإمكاننا هنا الإشارة مثلاً إلى حال الأمير السعودي النائم، الوليد بن خالد بن طلال، الذي ما زال غارقاً في غيبوبة عميقة منذ 20 سنة، ومع ذلك يرفض أبوه اتخاذ قرار نزع الأجهزة الطبية عنه. في الوقت نفسه نوافق بشكل ضمني على نوع من الموت الرحيم السلبي في أحوال ميؤوس من شفائها، وذلك عندما نوافق الطبيب على إيقاف العلاج وأخذ المريض إلى بيته حتى يموت بين أهله بسلام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة