قد يكون من المستغرب حقاً أن يقام في بيروت معرض للفنان العالمي بابلو بيكاسو يضم عشرين عملاً اصلياً وليس منسوخاً على ما درجت العادة في لبنان. وقد تحدى متحف سرسق الظروف الأمنية والعسكرية الراهنة نتيجة ارتفاع حدة التوتر، بين حزب الله وإسرائيل، وبين إيران والولايات المتحدة، وغامر فعلا في جلب هذه الاعمال الباهظة الثمن وتحمّل كلفة كبيرة مالية ومادية، نتيجة التأمين عليها ونقلها من باريس، وقد تلقى دعماً من جهات عدة وأفراد.
افتتح المعرض مساء أمس تحت عنوان "بيكاسو والعائلة" في متحف نقولا سرسق الذي يقيمه بالتعاون مع متحف بيكاسو في باريس، ووزارة الثقافة اللبنانية. وكانت إدارة متحف سرسق قامت بحملة إعلامية محتفلة مسبقاً بهذا الحدث الذي يعتبر كبيرا في لبنان البلد الذي يعاني مرحلة من اشد مراحله المأزومة سياسياً ومالياً، واحتفلت السفارة اللبنانية في فرنسا بالحدث أيضاً قبل ايام. لكن المعرض قد يبدو عادياً جداً أو فقيراً، إذا ما تمت مقارنته بمعارض بيكاسو في العالم، فهو بالكاد يضم 20 عملا بين لوحات زيتية ورسوم بالأسود والأبيض وبضع منحوتات، وهذه لا تكفي لإقامة معرض لرائد الفن الحديث في أي عاصمة من عواصم العالم. لكن مبادرة متحف سرسق تظل فريدة ومهمة في المعنى اللبناني، وفي حجم قدرة لبنان على استقبال مثل هذه المعارض العالمية.
يقام معرض "بيكاسو والعائلة" في سياق جولة متوسطية ينظمها متحف بيكاسو الفرنسي تحت عنوان "بيكاسو والبحر المتوسط" بدءا من العام 2017 وشملت دولا عدة حول المتوسط ومحطتها الاخيرة بيروت. لكنّ موضوعة او "تيمة" المعرض اختارها متحف سرسق على ما يبدو، ليوفر غطاء لضآلة حجم المعرض وقلة معروضاته. فهذه الموضوعة ليست أساسية في مسار بيكاسو بحسب معظم النقاد والمؤرخين، ولم يخصها بمرحلة أو فترة كما فعل عندما سمى مراحله الإبداعية مثل المرحلة الزرقاء والزهرية والافريقية والتكعيبية وسواها. لكنّ لوحاته ورسومه ومنحوتاته التي دارت حول العائلة تخللت بعضا من مراحله تلك، وهي ليست كثيرة، وتطل فيها العائلة اطلالة فنية أو جمالية وليس في المفهوم الأخلاقي أو التعليمي. ومن يطلع على سيرة بيكاسو يعرف كم كان شخصاً لا عائلياً ومجنوناً في علاقاته العاطفية. لكن هذه الاعمال القليلة التي رسمها بدت غاية في الجمال وقد جعلها فسحة للعب اللوني والشكلي، وحملها الكثير من الجو الطفولي والبراءة، حتى وإن اخضع بعضها لتقنياته التكعيبية القائمة على التفكيك بحثا عن الجوهر. وقد أطلق بيكاسو على لوحاته ورسومه عناوين شديدة الطرافة مثل "القراءة والألعاب" و"أم تلعب"...
لكنّ المعرض يظل، على رغم تواضعه وضآلة معوضاته، فرصة للجمهور اللبناني ليشاهد عن كثب أعمالا حقيقية وفريدة لرائد الفن العالمي الحديث.