Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بمصاحبة الموت... رحلة شحنات الغذاء الأصعب إلى غزة

تواجه القصف والرشى وهجمات المستوطنين وتجار يشكون نهب البضائع والبيروقراطية والربح الهزيل

تعاني عمليات توصيل المواد الغذائية لسكان غزة، وعددهم 2.3 مليون نسمة معظمهم نازحون، التعقيدات البيروقراطية والعنف (أ ف ب)

يصف التاجر الغزي محمد عملية توصيل المواد الغذائية للقطاع بأنها جحيم، ويقول "أتعرض للموت مع كل شحنة"، موضحاً أنه يتعين عليه دفع أكثر من 14 ألف دولار مقابل كل شاحنة من المواد الغذائية يجلبها إلى القطاع المحاصر لدفع كلف النقل الباهظة ورشا للوسطاء وللحماية من اللصوص، مما يزيد على مبلغ كان يراوح ما بين 1500 و4000 دولار قبل اندلاع الحرب في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

وأردف محمد أن "الأمر لا يستحق العناء، لكنني بحاجة إلى الطعام، وجيراني وغزة كلها بحاجة إلى الطعام"، وذكر أنه اضطر إلى زيادة الأسعار على بعض المواد الغذائية الطازجة مثل منتجات الألبان والفواكه والدجاج إلى 10 أمثال قيمتها لمجرد أن تعادل الإيرادات المصاريف، على رغم علمه أن هذا يجعلها بعيدة من متناول كثير من سكان غزة الجياع.

وتحدث هو و17 شخصاً آخرين أجرت "رويترز" مقابلات معهم، ومعظمهم تجار وموظفو إغاثة في غزة مطلعون على وضع الإمدادات، عن حال من الفوضى كثيراً ما تجعل استيراد المواد الغذائية أمراً خطراً أو مكلفاً للغاية بالنسبة إلى التجار حتى مع تحذير وكالات الإغاثة من تزايد خطر المجاعة.

وطلب كثير منهم عدم نشر أسمائهم بالكامل حتى يتسنى لهم الحديث بحرية، وقال تجار مثل محمد إنهم يخشون من انتقام العصابات في القطاع، أو من قيام الجيش الإسرائيلي بإدراجهم على القائمة السوداء بسبب التحدث علناً.

الجزء الأصعب من الرحلة

وفقاً للأشخاص الذين تمت مقابلتهم، تشكل كلف النقل بالشاحنات الجزء الأكبر من الأموال التي تنفق على استيراد المواد الغذائية.

وقالوا إن السائقين في إسرائيل رفعوا الأجرة بما يصل إلى ثلاثة أمثال بسبب هجوم المحتجين الإسرائيليين على الشاحنات المتجهة إلى غزة، مضيفين أن السائقين يضطرون في كثير من الأحيان إلى الانتظار بالشحنات لأيام عدة، إما قرب نقاط انطلاقها في الضفة الغربية أو معبر "كرم أبو سالم" الحدودي بين إسرائيل وجنوب غزة لتخضع لتفتيش الجنود الإسرائيليين قبل أن تنال الموافقة على دخول القطاع، مما يزيد من ارتفاع الكلف.

وذكرت المصادر لـ"رويترز" أنه بمجرد وصول البضائع في النهاية إلى غزة يبدأ الجزء الأصعب من الرحلة.

 

 

وأوضح حمودة، وهو تاجر آخر يستورد الخضراوات المحفوظة والدواجن ومنتجات الألبان من الضفة الغربية، أنه إما يدفع أموالاً للعصابات في القطاع أو يستأجر مسلحين للوقوف فوق الشحنات ومنع اللصوص، مضيفاً أن "الأشخاص الذين أستعين بهم من الأصدقاء أو الأقارب، وأحتاج من ثلاثة إلى خمسة تقريباً لكل شاحنة".

في الوقت نفسه، قال ثمانية تجار إن بضائع القطاع الخاص لم تصل إلى شمال غزة، حيث تفيد وكالات الإغاثة بأن الجوع بلغ مبلغه لأن الجيش الإسرائيلي أغلق تلك المنطقة أمام الشحنات التجارية.

وأكد اثنان من موظفي الإغاثة أن الغذاء الوحيد المتاح في شمال غزة يأتي عن طريق المساعدات وأنه لا توجد سلع تجارية للبيع. ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على عدم توافر مواد غذائية للبيع في الشمال حيث تقع مدينة غزة وضواحيها.

ويقول الجيش الإسرائيلي الذي يشرف على تنسيق المساعدات في غزة إنه يسمح بدخول مواد غذائية من إسرائيل ومصر تكفي جميع السكان، وأقر بأن وكالات الإغاثة تواجه "صعوبات" في نقل المواد الغذائية بمجرد دخولها عبر نقاط العبور التي تشمل معبر "كرم أبو سالم"، لكنه لم يحدد ما هي هذه الصعوبات.

وصرّح متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إلى "رويترز" بأن توزيع المساعدات في غزة "مهمة معقدة لأنها منطقة حرب محتدمة"، مردفاً أن "إسرائيل ملتزمة السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة من أجل السكان المدنيين. وسوف تسهل ذلك مع التزام الاعتبارات العملياتية على الأرض".

وذكر الجيش الإسرائيلي من دون الخوض في تفاصيل أن حركة "حماس" تستغل "البنية التحتية الإنسانية لتلبية حاجاتها العسكرية"، فيما نفت الأخيرة استغلال المساعدات، مؤكدة أنها لا تتدخل في عملية توصيل المواد الغذائية، وأوضحت أن التجار يستعينون بحراس مسلحين لحماية شحناتهم لكنهم ليسوا على صلة بها.

وقال مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة إن هدف الحركة الأساسي هو تخفيف معاناة سكان غزة.

انهيار شبه كامل للقانون

تعاني عمليات توصيل المواد الغذائية لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ومعظمهم نازحون، التعقيدات البيروقراطية والعنف منذ اندلاع الحرب بعد هجوم "حماس" على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، ورد إسرائيل بقصف القطاع واجتياحه مما أدى إلى تدميره.

وهناك نوعان رئيسان من المواد الغذائية التي تدخل القطاع، المساعدات الدولية وهي إمدادات تقدمها أو توزعها في الأساس الأمم المتحدة من مواد غير قابلة للتلف سريعاً مثل الرز والدقيق (الطحين) والمعلبات التي شكلت الجزء الأكبر من الواردات خلال الحرب، أو الشحنات التجارية التي تضم منتجات طازجة لازمة لتجنب سوء التغذية.

وسمح الجيش الإسرائيلي باستئناف شحنات المواد الغذائية التجارية من إسرائيل والضفة الغربية في مايو (أيار) الماضي بعدما شن هجوماً على مدينة رفح، وهي بوابة دخول رئيسة من مصر، مما أدى إلى انخفاض كبير في تدفق مساعدات الأمم المتحدة على القطاع المدمر.

و"رويترز" التي بثت تقارير عن استئناف الشحنات التجارية، هي أيضاً أول وسيلة إخبارية تقدم تفاصيل عن الكلف والفوضى التي واجهها تجار غزة وأعاقت جهودهم لاستيراد المواد الغذائية الطازجة وبيعها في أسواق القطاع ومتاجره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال تجار وعمال إغاثة إن الاعتداءات على الشاحنات المحملة بالغذاء تصاعدت منذ شنت إسرائيل هجومها على رفح في السابع من مايو الماضي، مما أسفر عن نزوح 1.5 مليون شخص كانوا يحتمون بالمدينة بعدما فروا من القتال في أماكن أخرى.

وذكر ستة من عمال الإغاثة المشاركين في تسليم المواد الغذائية أن إمدادات الأمم المتحدة التي لا تزال تدخل غزة عبر "كرم أبو سالم" أو المعابر الشمالية، أكثر عرضة للعصابات الإجرامية لأن الوكالات التابعة للمنظمة الدولية لا تستطيع دفع كلف الحماية المسلحة على عكس الشركات الخاصة، وقدر أحدهم أن نحو 70 في المئة من شاحنات المواد الغذائية تعرضت للهجوم.

وقال المدير العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني لـ"رويترز"، "نواجه انهياراً شبه كامل للقانون والنظام، إذ يتعرض سائقو الشاحنات للتهديد أو الاعتداء بصورة منتظمة. نُهب عدد كبير جداً من الشاحنات".

وذكر التجار الثمانية أن الصعوبات التي تواجهها وكالات الإغاثة تعني أن الشحنات التجارية بدأت تشكل نسبة أكبر من المواد الغذائية التي تدخل غزة على رغم أن التدفق لا يزال غير منتظم، مضيفين أن إمدادات القطاع الخاص تشكل ما بين 20 إلى 100 شاحنة يومياً تحمل كل منها ما يصل إلى 20 طناً من الغذاء منذ بدء هجوم رفح.

وتظهر بيانات عسكرية إسرائيلية أن 150 شاحنة مساعدات وشاحنة تجارية محملة بمواد غذائية في المتوسط دخلت القطاع يومياً خلال هذه الفترة، علماً أن هذا العدد أقل بكثير من 600 شاحنة تقول الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إنها مطلوبة يومياً لدرء خطر المجاعة.

وذكر عمال الإغاثة الستة أن المواد الغذائية التي يجلبها التجار للقطاع باهظة الثمن ولا يمكن أن تكون بديلاً عن المساعدات الدولية التي تحملت كلفها بالفعل الدول والمنظمات المانحة.

وقال ماجد القيشاوي من المجلس النرويجي للاجئين في غزة، "زادت كلفة بعض المواد بما لا يقل عن 15 ضعفاً، مضيفاً أن "السلع الأساسية اختفت من السوق بسبب الانخفاض الحاد في المساعدات وتراجع وصول الشاحنات التجارية".

هجمات المحتجين الإسرائيليين

وصف تجار توصيل المواد الغذائية من الموردين في إسرائيل والضفة الغربية إلى قطاع غزة بأنها رحلة طويلة محفوفة بالأخطار على رغم أن المسافة لا تتعدى 160 كيلومتراً على الأكثر، فضلاً عن أن العقبات تبدأ بالظهور تباعاً قبل حتى وصول البضائع إلى القطاع الذي تمزقه الحرب.

ومنع محتجون إسرائيليون كثيراً من الشحنات المتجهة إلى غزة التي ينقلها سائقون إسرائيليون أو فلسطينيون لديهم تصريح للعمل في إسرائيل، أو هاجموها في مايو الماضي في موجة من العنف دفعت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على جماعة متورطة لها صلات بالمستوطنين الإسرائيليين، وبرر المحتجون أفعالهم بأنهم كانوا يحاولون منع وصول الإمدادات إلى حركة "حماس".

وقال تاجر آخر يدعى سمير إن السائقين الإسرائيليين خصوصاً رفعوا الأجرة بسبب الاعتداءات بمقدار ثلاثة أمثال في كثير من الأحيان، مردفاً أنهم يطلبون ثلاثة آلاف دولار مقابل رحلة تبلغ قيمتها ألف دولار.

وتابع أن الشاحنات غالباً ما تنتظر في طوابير طويلة قبل دخولها إلى القطاع، مما يكلف المستوردين بين 200 إلى 300 دولار يومياً عن كل شاحنة.

 

 

وبحسب 18 مصدراً مختلفاً من بينهم مسؤولون فلسطينيون وغربيون، فإن السبب في تأخير إدخال الإمدادات إلى القطاع يعود لزحام شديد عند المعابر الحدودية.

ولم يتسنَّ لـ"رويترز" التحقق بصورة مستقلة من الازدحام على حدود غزة، نظراً إلى أن إسرائيل تمنع في الغالب الصحافيين من دخول القطاع والوصول إلى المعابر الحدودية التابعة لها.

وقال تجار وموظفو إغاثة إن الجيش الإسرائيلي علق لمدة أسبوعين في بداية يونيو (حزيران) الماضي إدخال جميع السلع التجارية كي يتسنى له الانتهاء من الإفراج عن المساعدات المتراكمة.

وشارك أحد التجار رسالة نصية تلقاها من أحد منسقي الجيش الإسرائيلي المسؤول عن إدخال الإمدادات في التاسع من يونيو يخبره فيها أن إدخال الشحنات التجارية "معلق حتى إشعار آخر"، لكن "رويترز" لم يتسنَّ لها التحقق من صحة الرسالة.

وأوضحت المصادر أن الحركة التجارية عادت إلى العمل مجدداً بحلول عطلة عيد الأضحى في الـ15 من يونيو.

الرشا ومشكلات الأمن

قال التجار إنه بمجرد السماح بإدخال شحنات الأغذية إلى قطاع غزة يتم تحميلها على شاحنات أخرى يقودها سائقون محليون لتوزيع البضائع على البائعين في القطاع.

وأضافوا أن الطرق في مدينتي رفح وخان يونس اللتين تقعان في جنوب القطاع، كانت تعتبر آمنة نسبياً قبل اجتياح القوات الإسرائيلية لرفح، لكن باتت في الوقت الراهن معروفة بتعرضها لهجمات.

وروى ثلاثة عمال إغاثة أن عمليات نهب الشاحنات أصبحت تحدث بصورة يومية، فيما قدّر التاجر حمودة أن عدد الشاحنات التي تُنهب الآن يزيد بنحو ستة أمثال مقارنة بالفترة قبل اجتياح رفح.

 

 

وذكر حمودة أنه يتم استهداف الشاحنات التي تحمل سلعاً نادراً ما تدخل القطاع مثل اللحوم والفاكهة الطازجة، وكذلك تشن عصابات هجمات على كثير من الشاحنات الأخرى لتهريب بضائع داخل شحنات الأغذية، بخاصة التبغ.

وشارك أحد التجار في غزة صورة لسجائر مهربة داخل بطيخة مجوفة، لكن لم يتسنَّ لـ"رويترز" التحقق من صحتها.

ووفقاً لتجار قالوا إنه ليست لديهم أية نقطة اتصال أو تنسيق مع السلطات العسكرية الإسرائيلية أثناء وجود شاحناتهم في غزة، فإن العمليات الإسرائيلية المستمرة تمثل أيضاً إحدى العقبات.

وشرحوا أنه في حال جرى إغلاق طريق ما بسبب القتال أو القصف، فلن تكون لديهم طريقة لاكتشاف بديل آمن، كما لا يمكن إيصال هذه المعلومات إلى سائقي الشحنات التابعة لهم لأنهم في الغالب يكونون في منطقة خارج تغطية الهواتف المحمولة.

وكشف ثلاثة تجار عن أنهم بدأوا الشهر الماضي بدفع مبالغ كبيرة إلى رجال أعمال فلسطينيين لديهم نفوذ وتنسيق منتظم مع الجيش الإسرائيلي بهدف ضمان دخول بضائعهم وتأمين شاحناتهم حتى تصل إلى وجهتها النهائية.

وأفاد التجار الذين أحجموا عن ذكر هوية رجال الأعمال، بأن هذه الخدمة وحدها يمكن أن تكلف ما يصل إلى 14 ألف دولار لإيصال البضائع إلى وجهتها بأمان.

وذكر أحد التجار ويدعى أبو محمد أنه يحسب بدقة الآن مكسبه، مشيراً إلى أنه بعد رفع الأسعار لتعويض كلف النقل، يكسب بضع مئات من الدولارات فقط أو يغطي كلفاً من دون أي ربح إضافي، وأكد أنه يخاطر بخسارة كل أمواله في حال نهب الشحنة.

المزيد من متابعات