Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حكاية جندي" لرامو الأصل السويسري لأوبرا سترافنسكي الأقوى

كاتب متفرد يتأرجح بين اللاجدوى السويسرية ومزارع العنب الفرنسية والصخب الباريسي

مشهد من تقديم لأوبرا "حكاية جندي" لسترافنسكي (موقع الأوبرا)

ملخص

منذ صدور رواية "حكاية جندي" للكاتب السويسري باللغة الفرنسية شارل فردينان رامو لم يخف أنه جمع في استلهامها بين "فاوست" غوته وحكاية شعبية روسية

يعرف الكاتب السويسري باللغة الفرنسية شارل فردينان رامو (وتكتب راموز) بكونه واحداً من أكثر الكتاب عزلة في حياته وغموضاً في مكونات مكانته الأدبية حتى وإن كانت سلسلة كتب "أرض البشر" الأنثروبولوجية الأشهر في عالم النشر الفرنسي تفخر بأن كتاباً له صدر ضمن مجموعتها وهو "الفكر يرتقي الأنهر" هو دائماً واحد من أكثر كتبها مبيعاً. وهو أمر تأكد من جديد قبل أشهر قليلة حين أعادت السلسلة لمناسبة رحيل مؤسسها الأسطوري جان مالوري نشر طبعات جديدة من أنجح إصداراتها ليكون كتاب رامو في مقدمها. ومع هذا سيكون من العسير اعتبار كتاب رامو هذا والذي أصدرته في عام 1979 أشهر أعماله. فالحقيقة أن هذه المكانة يحتلها كتاب آخر له كان قد صدر في عام 1918، أي عند نهايات الحرب العالمية الأولى. وكان عنوان الكتاب "حكاية جندي" وكتبه رامو وهو في الـ40 من عمره. والكتاب حكاية تكاد تكون خرافية وتبدو للوهلة الأولى وكأنها تنتمي إلى أدب الفتيان. غير أن الموسيقي الروسي إيغور سترافنسكي نظر إليها نظرة مختلفة. ومختلفة إلى درجة أنه جعل منها مساهمة نادرة له في إطلاق صرخة الفن ضد الحرب، بل ضد كل الحروب على الإطلاق.

إعادة اعتبار كاتب

ولا شك أن اختيار سترافنسكي لنص حكاية رامو هذه أسهم حتى في إحداث قَلبَةٍ لا بأس بها في مكانة كتاب النصوص التي تتحول إلى أوبرات. ففي أوبرات تؤخذ عادة عن نصوص أدبية معروفة يحدث لاسم كاتب النص أن يقفز إلى الواجهة وفقط حين يكون اسماً معروفاً كما يحدث مثلاً بالنسبة إلى غوته حين يموسق الفرنسي شارل عونو أوبراه فاوست اقتباساً منه، ولكن حين لا يكون الكاتب الأصلي في مكانة تقرب من مكانة غوته بالكاد يذكر أحد اسمه. ومن هنا فإن اسم رامو كان يذكر بصورة واضحة حين كان الحديث يجري عن "حكاية جندي" لسترافنسكي بالنظر إلى أن مكانة رامو كان معترفاً بها في الزمن الذي موسق فيه الموسيقي الروسي تلك الحكاية التي لعل أهم ما يقال فيها إنها أتت في زمنها على صورة حكاية فاوستية قصد الكاتب من خلالها أن يصور كيف أن الحرب تقود المرء إلى أن يبيع روحه، وهو أمر يبدو لنا في نص رامو أكثر خطورة من بيع الجسد أو الأخلاق أو أي شيء آخر. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن أشرنا إلى أن هذا البعد في نص رامو كان هو ما جعل كبيرين من كبار الأدب الفرنسي يعجبان معاً بـ"حكاية جندي" حتى قبل إقدام سترافنسكي على اقتباسها أوبرالياً، على تناقض مواقفهما الأخلاقية والإبداعية: لوي فردينان سيلين وبول كلوديل.

الجندي والشيطان

فما "حكاية جندي" هذه؟ هي حكاية عن جندي التقى لدى عودته من الحرب بالشيطان الذي يقترح عليه صفقة تقوم على بيع الجندي، وهو موسيقي في الوقت نفسه، كمانه للشيطان مقابل أن يعطيه هذا الأخير كتاباً سحرياً يجعله قادراً على التنبؤ بما سيحدث في المستقبل. ويقبل الجندي بالصفقة على رغم أنه كان يعد الكمان روحه التي لا يمكن استبدالها بأي شيء. يقبل معتبراً نفسه رابحاً، بخاصة أن الشيطان يدعوه كتتويج لاتفاقهما إلى أن يمضي عنده ثلاثة أيام يحتفلان خلالها باتفاقهما. غير أن الأيام الثلاثة سرعان ما تمتد ثلاث سنوات. والأحداث التي ستتتابع خلال تلك السنوات، وستطالعنا عبر تعليقات من يسميه الكتاب، القارئ، ستكون صاخبة بالنسبة إلى حياة الجندي الذي سرعان ما يفقد ما كان قد حصل عليه من نقود فيما لا يتوقف عن البحث في لا جدوى الأشياء المادية في هذا الوجود، لكنه إذ يستعيد كمانه يكتشف أنه لم يعد في حاجة إليه ما دام في تخليه عنه للشيطان أول الأمر إنما تخلى عن روحه تماماً كما حال فاوست. ومن هنا لا يعود الجندي مبالياً بشيء تحت وقع أفكاره الجديدة، وها هو يخسر كل ما تبقى له في لعب القمار فلا يكون منه إلا أن يحاول التقاط أنفاسه من خلال محاولته، بفضل التعليمات الشيطانية، أن يشفي أميرة حسناء مريضة مما ألم بها، وقد استعاد آماله لأن شفاء المريضة يعني اقترانه بها، لكن الشيطان "ينصحه" بألا يفعل لأن ذلك سيعود عليه بالخراب الذي أنقذه منه مراراً وتكراراً. لكن الجندي لا يعبأ بنصيحة الشيطان، بل يترك المملكة ليعود إلى قريته الصغيرة، لكن الشيطان يقبض عليه هنا لتنتهي الحكاية بهزيمة الجندي بصورة متلاحقة!

من فاوست إلى روسيا

منذ صدور الرواية لم يخف رامو أنه جمع في استلهامها بين "فاوست" غوته وحكاية شعبية روسية. ومن المؤكد أن هذا البعد الأخير كان هو ما أثار اهتمام سترافنسكي الذي كان حينها يشتغل على نوع من المزج بين الفولكلور الروسي والحداثة الأوروبية. لقد آثر رامو إذ فاتحه الموسيقي الروسي بالأمر أن يكتب النص الأوبرالي لقصته بنفسه خوفاً من أن يتصرف سترافنسكي بالنص كما يشاء، لكنه توافق تماماً مع هذا الأخير على أن يشتغل هذا على الموسيقى في نوع من التوليف بين عديد من التيارات والأزمنة الموسيقي، ومن هنا ما يلاحظ من أن الهيكل الموسيقي للعمل ينطلق من كورال يقدم مقطوعات معدلة من باخ ممتزجة بموسيقى "الراغتايم" الأميركية التي كانت على علاقة حاسمة بموسيقى الجاز كما ظهرت في شيكاغو وفي نيو أورلينز مروراً باستخدام مستلهم من الموسيقى الفولكلورية الروسية، في الوقت نفسه. ولا شك أن هذا التوليف الموسيقي الذي كان مغرياً بصورة قاطعة لرامو، أضفى على العمل كله نوعاً من كوزموبوليتية كان رامو يتوخاها من خلال البعد الأخلاقي الذي أراد أصلاً إضفاءه على حكايته كمرافعة ضد الاقتلاع الذي تتسبب فيه الحرب للنفوس، وبخاصة نفوس المشاركين فيها، ولكن أيضاً ضد الفساد التي تتسبب فيه المادة متضافرة مع الحداثة التكنولوجية، كما ضد التشوش الروحي الذي يشوه طبيعة العلاقات الإنسانية. ففي نهاية الأمر ليس جندي رامو هنا سوى فلاح بسيط كل ما يريده هو العودة إلى ريفه الوديع، بعد أن جعل البؤس منه مجرد مرتزق رمت به الأقدار ليخوض واحدة من تلك الحروب السويسرية الصغيرة التي لم يتوقف رامو أبداً عن التنديد بها وبلا جدواها في كتب أخرى له مثل "حرب سوندربوند الكبرى" و"حرب على الورق" أو حتى "الحرب في البلاد المرتفعة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خوف على أوروبا

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مسألة اللغة تحتل موقعاً أساساً في أدب شارل فردينان رامو (1874–1947) السويسري المنتمي إلى وطن (سويسرا) يغتني من ناحية ويعاني في ناحية أخرى كونه ثلاثي اللغة، حيث نعرف أن هذا البلد يتألف من ثلاثة أقوام ينطق كل منهم بلغة تبدو خاصة حتى في انتماء أولاها إلى الفرنسية، والثانية إلى الألمانية والثالثة إلى الإيطالية. ومن هنا نجد اشتغالاً لديه في نص "حكاية جندي" على المسألة اللغوية، إذ يقول في معرض تفسيره لهذه "المسألة": "أقول دائماً أن كل واحد منا لديه لغتان واحدة هي ’الأصلح‘، لكننا نادراً ما نستعملها، وربما لأنها ليست لغتنا الأصلية فحسب، والثانية التي نستعملها بصورة متواصلة على رغم معرفتنا بأنها مليئة بالأغلاط... نستعملها لمجرد أنها لغتنا الأم". والحقيقة أن ما يترتب على هذا القول يكاد يطغى على "حكاية جندي". وبقي أن نذكر هنا أن رامو الذي ولد في لوزان حصل دروساً كلاسيكية جعلته يتجه باكراً صوب الأدب الفرنسي ما قاده باكراً إلى متابعة دراساته في باريس، إذ لم يلبث أن بدأ يرتبط بصداقات جيدة في أوساط أدبية فرنسية احتضنته، لكنه هو سرعان ما وجد نفسه يفضل الدنو من مناطق زراعية في الأرياف الفرنسية، ولا سيما في مناطق زراعة العنب. وهناك اكتشف ما سيصفه بـ"عظمة العوالم الراسخة المتجذرة والمتجانسة حتى في تنوعها" مما كان ذا تأثير كبير في حياته وأدبه معطياً إياه خصوصية قد تكون مستعارة، لكنه عرف تماماً كيف يجعل منها خصوصية صلبة. وهو حين رحل عن عالمنا قرب بحيرة ليمان اعتبر في سويسرا أيقونة وطنية مع أن إطلالاته على العالم الخارجي وتنبيهاته من الأخطار المحدقة بأوروبا العجوز كانت تشكل الجزء الأبرز من فكره.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة