Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دفاع سقراط" لكزينوفون يتطابق مع دفاع أفلاطون عن معلمه

النخبوي الأثيني يلعن ديمقراطية وطنه الأم ويحلم بإمبراطورية سقراطية في الشرق البعيد

موت سقراط كما تخيله رسام فرنسي (غيتي)

ملخص

ليس لكزينوفون بالتأكيد مكانة أفلاطون في تاريخ الفلسفة، بل إن معظم مؤرخي هذا الفن لا يعدونه واحداً من أقطابه، بالنظر إلى أن كل جهوده الفلسفية انصبت على عدد من الكتب والمحاورات التي خلفها مهتماً فيها بالدفاع عن سقراط، الذي كان معلمه هو الآخر

ليس بعيداً من الصواب ولكن ضمن حدود طبعاً ما طرح ذات يوم من تساؤل حول ما الذي كان يمكن أن يكون عليه مصير ومكانة سقراط في التاريخ لو أن أفلاطون، الذي كان يعد تلميذه الأول والوريث الشرعي الذي اخترع الفلسفة الإغريقية استناداً إلى أفكار سقراط، لو أنه لم يمض جزءاً كبيراً من حياته الفكرية وهو يكتب وينشر عديداً من المحاورات التي لم تكتف أبداً على أية حال باستعادة الفصول الأساسية من حياة وفكر صاحب "اعرف نفسك بنفسك". والحقيقة أن هذا السؤال كان من شأنه أن يكون مشروعاً لولا أن ثمة آخرين معاصرين لسقراط ولأفلاطون في وقت واحد اهتموا بدورهم بتحويل سيرة سقراط وشخصيته نفسها بالتالي من ذات إلى موضوع. وهنا لا بد من التوقف عند هذه الحقيقة لتوضيح أمر يبقى دائماً في حاجة إلى توضيح، وفحواه أنه لئن كان أفلاطون أبرز وأعمق من خلد سقراط بين عديد من المفكرين والفلاسفة بحيث إن ثمة من المؤرخين من يقول إن سقراط ما كان ليوجد لولا وجوده في تلك المحاورات الرائعة التي كتبها أفلاطون جاعلاً من معلمه الكبير، بطلها، فإن ثمة من المعاصرين للاثنين معا من شاركه في ذلك التخليد، مما يؤكد أن سقراط لم يكن في نهاية الأمر "موضوعاً" ابتكرته مخيلة صاحب الحوارات الأشهر لتمرير أفكاره.

هل استحق سقراط مصيره؟

وحتى لا نغرق موضوعنا هنا في التفاصيل، لا مفر من أن نذكر واحداً من أولئك المعاصرين لمؤسسي الفلسفة كان فيلسوفاً مثلهما. وكان صنواً لثانيهما، أفلاطون، في تخليد ذكرى المعلم الذي كان أولهما بالتأكيد. ونتحدث هنا بالطبع عن كزينوفون (427 ق م - 355 ق م) الذي لا بد من التوقف عنده بشيء من الإسهاب هنا بعدما سبق أن توقفنا مراراً عند أفلاطون ولكن أيضاً عند أريستوفان الذي شغل الجانب الآخر من الصورة بوقوفه، على الضد من أفلاطون وكزينوفان، ضد سقراط معتبراً إياه، ولا سيما في مسرحيته "السحب" سوفسطائياً متطفلاً استحق ما أنزلته به أثينا من عقاب قاتل. فمن هو كزينوفون؟

ليس لكزينوفون بالتأكيد مكانة أفلاطون في تاريخ الفلسفة، بل إن معظم مؤرخي هذا الفن لا يعدونه واحداً من أقطابه، بالنظر إلى أن كل جهوده الفلسفية انصبت على عدد من الكتب والمحاورات التي خلفها مهتماً فيها بالدفاع عن سقراط، الذي كان معلمه هو الآخر. المؤرخون يعدون كزينوفون واحداً منهم، وهو الذي اشتهرت له كتب عديدة حدثنا فيها عن تاريخ اليونان لا عن تواريخ فلاسفتها. ومع ذلك لا ينكر أحد أن ثمة نفحات فلسفية قوية وعميقة في تعامل كزينوفون مع التاريخ، ويرجع ذلك إلى أن هذا الأرستقراطي الأثيني كان يعد نفسه منذ سن الثامنة عشرة تلميذاً لسقراط يتبعه من مكان إلى آخر. ولعل ما يلفت النظر في النصوص التي سيكتبها كزينوفون لاحقاً وتتحدث عن معلمه، ولا سيما منها نصه الأشهر "دفاع سقراط" - وسنعود بعد سطور إلى التشابه الجلي هنا بين عنوان نص كزينوفان وعنوان نص أفلاطون حول الموضوع نفسه - ما يلفت النظر هو أن القارئ يستخلص منها أن المؤرخ الشاب يعد المعلم مفكراً أخلاقياً لا فيلسوفاً. ولعله في ذلك كان يريد أن يبعد عن سقراط اعتباره فيلسوفاً بالنظر إلى سوء مكانة الفلاسفة في أوساط الأرستقراطية الأثينية التي كان كزينوفون من أبنائها بل من أبناء النخبة فيها، وهي التي كانت تعد الفلاسفة مجرد مرتزقة طفيليين يبيعون أفكاراً ضالة لمن يشتري ويعملون ضد الديمقراطية الأثينية. ولقد كان كزينوفون ضدها هو الآخر مفضلاً تقشف إسبارطة وانتظاميتها الصلبة وطغيانها.

بين كزينوفون والمعلمين

والذي لا مراء فيه في هذا المجال هو أن هذه المواقف تتطابق في النهاية مع أفكار سقراط ولكن أيضاً مع أفكار أفلاطون، حتى وإن كان كزينوفون سيعرف بكونه الأوضح تعبيراً في هذا المجال، وهو الذي لنخبويته كان ينظر إلى ديمقراطية أثينا باعتبارها تعبيراً عن حقد طبقي لـ"لحفنة من النجارين والإسكافيين والرعاع". ومع ذلك لا بد من ملاحظة غياب ذكر أفلاطون لكزينوفون في أي من حواراته السقراطية وغياب أفلاطون في المقابل عن حوارات كزينوفون، التي تلفت حقاً أيضاً في تطابق عناوينها مع عناوين حوارات أفلاطون السقراطية. ولعل ما يفسر هذا هو أن العناوين لم توضع إلا في أزمنة لاحقة. بحيث يبقى ما يمكن ملاحظته من أمر غريب حقاً، غرابة تطابق المواضيع والظروف بعيداً من تنوع أغنى في الشخصيات الحاضرة في كل محاورة من تلك المحاورات والتي من أشهرها - في مجال الحديث عن حضور سقراط المركزي فيها محاورة "المأدبة" و"الجمهورية" و"جيروبيديا" و"حول حكم الأثينيين" وغير ذلك من نصوص.

من التشابه إلى التطابق

لقد اشتغل كثر من مؤرخي الفلسفة وباحثيها على المقارنة بينها وبين محاورات أفلاطون السقراطية فأدهشهم ما أدهشهم من تشابهات تصل أحياناً إلى حدود التطابق، لكنهم توقفوا هنا منتقلين في اهتمامهم إلى عديد من نصوص أخرى للمفكر نفسه - كزينوفان - وجدوا فيها ابتعاداً كبيراً عن كل ما يمت إلى أفلاطون، وحتى إلى سقراط بصلة. وكانت في غالبيتها نصوصاً تاريخية بل حتى اقتصادية كان لا بد لهم في نهاية المطاف من الاعتماد عليها للعودة إلى كزينوفون بوصفه مفكراً من نوع خاص لا بوصفه فيلسوفاً وقد اكتفى بعضهم بما كتبه في ميدان الفلسفة كتحية لمعلمه الشهيد. والحقيقة أن كزينوفون اعتبر انطلاقاً من هذه النقطة واحداً من المفكرين العلميين، وهو الذي أحل التاريخ والاقتصاد والشغل عليهما في المكان الأول من اهتماماته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة مليئة بالمغامرات والخيانات

من هنا قد يكون من المفيد أن نعود إلى حياة كزينوفون التي كانت حياة مغامرات قبل أن تكرس لكتابة التاريخ التي ارتبط بها حتى نهايته. وكما أشرنا كان كزينوفون ومنذ انتهاء تتلمذه المبكر على سقراط مقاتلاً ينتمي إلى طائفة الفرسان الذين خدم في صفوفهم عند بداياته كمحارب في حرب الثلاثين. ولكنه إذ بدأ يشعر باحتقار شديد للديمقراطية الأثينية، لم يعد قادراً على إخفاء إعجابه بإسبارطة. وهنا وربما بسبب هذا الإعجاب الذي كان يعد فعل خيانة عظمى في مسقط رأسه نراه يتوجه للعيش في فارس حيث كانت دولة ارتحششتا تجند كثراً من المرتزقة اليونانيين لتخوض بهم حروبها التوسعية. وهو شارك حينذاك في حملة العشرة آلاف وكتب عن تجربته هناك في واحد من أشهر كتبه "آناباز". وهو حين أخفق المرتزقة من مواطنيه في تمكين الفرس من الانتصار عاد إلى اليونان ليحارب أولاً في صفوف الإسبارطيين ومن ثم ليخلد إلى الريف حيث عمل في الزراعة كإقطاعي ذي تجارب، منصرفاً إلى كتابة أهم نصوصه ومنها طبعاً "دفاع سقراط" ولكن بخاصة تلك الذكريات المعنونة "الذين لا ينسون" قبل أن يشرع إثر الصلح بين أثينا وإسبارطة بالعودة إلى وطنه الأصلي حيث عاش حتى نهاية حياته منصرفاً إلى الكتابة مركزاً اهتمامه بصورة خاصة على سفره الأكبر حول تاريخ "الهيلينيين"، وذلك تزامناً مع إنجازه كتابيه الكبيرين في العلم الاقتصادي "الاقتصاد" و"المداخيل"... غير أنه يبدو أن الحنين إلى الشرق عاد إليه خلال المرحلة الأخيرة من حياته ولا سيما من خلال اشتغاله على تاريخ لحكم الفارسي "قورش" وهو الكتاب الذي من خلال حديث المؤلف عن تاريخ الحياة التي عاشها هو في ذلك الشرق البعيد كواحد من قادة المرتزقة لم يفته أن يعبر ولو بصورة مواربة عن ذلك الحلم الذي لم يفارق مخيلته والذي يقول لنا في كتابه "جيروبيديا" إنه كان في الأصل، ما دفعه إلى التوجه في شبابه إلى تلك المنطقة البعيدة من العالم: حلم أن يتمكن من أن يقيم هناك إمبراطورية توحد الشرق والغرب والفضيلة والفلسفة والفكر العلمي والممارسة العملية في بوتقة واحدة، في إمبراطورية يكون هو مؤسسها وحاكمها ومشرعها وبانيها، بينما يعد سقراط ملهمها من خلال أفكاره وبذلك لا تضيع تضحيته في مهب رياح الزمن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة