Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثلاثية "سيمفونية" من الفرنسي موريس جار تزين القرن الـ20

عندما يجحد الوطن إبداع أبنائه يقفز هؤلاء إلى العالمية حيث يعثرون على مكانهم الضائع

موريس جار (1924 - 2009) (غيتي)

ملخص

بعد سنوات من رحيل موريس جار، ها هي ذي موسيقاه السيمفونية تستعيد مكانتها حتى لدى فرنسيين كانوا في البداية قد ناصبوه العداء وها هم أولاء اليوم يقتنون ومنذ سنوات في بيوتهم أو يحفظون في مخزوناتهم الإلكترونية معظم الموسيقى التي وضعها موريس جار ولا سيما لأفلامه الأجنبية الكبيرة وبخاصة منها أفلام ديفيد لين التي يعدها كثر من المؤرخين والنقاد الفرنسيين اليوم "سيمفونيات القرن الـ20".

عندما رحل الموسيقي الفرنسي موريس جار عن عالمنا قبل أكثر قليلاً من عقد ونصف العقد من السنين (ربيع عام 2009، عن عمر يناهز الـ84) بدت الآراء في وطنه بصورة خاصة منقسمة من حوله وحول موسيقاه بصورة مؤسية. وربما كان في وسعنا يومها أن نعلق على ذلك الانقسام بالمقولة الخالدة "لا مكانة لنبي في وطنه" بخاصة أن جار كان ومنذ اختار الانتقال نهائياً إلى لوس أنجليس في كاليفورنيا الأميركية قبل 60 عاماً من يومنا هذا بالتمام والكمال، قد بدا وكأنه يدير ظهره لفرنسا في وقت كانت فيه نجاحاته العالمية تفتح له آفاقاً غير متوقعة.

وكان عنوان تلك الآفاق واضحاً: ثلاثية أفلام ديفيد لين الضخمة المؤلفة من: "لورانس العرب" (1962) و"دكتور جيفاغو" (1965) ولاحقاً في عام 1984، "طريق الهند". ونعرف طبعاً كثيراً عن النجاحات الهائلة على كل الصعد الجماهيرية والنقدية وكعلامات في تاريخ السينما التي كانتها تلك الأفلام. غير أن ما طمس يومها كان القيمة الكبرى للموسيقى التصويرية التي وضعها جار لتلك الأفلام، حتى وإن بدت منذ البداية وكأنها على كل شفة ولسان ولكن ما عدا في فرنسا، إذ تم تجاهل تلك النجاحات تماماً ومن دون أن يكون لذلك التجاهل مبررات فنية.

كلاسيكية عائدة

المهم أننا لا بد من أن نلاحظ أن تلك الموسيقى قد عرفت خلال السنوات التي تلت رحيل جار كيف تستعيد مكانتها وليس فقط كموسيقى تصويرية سينمائية، بل كجزء أساس من ذلك التوصيف الذي بدأ النقاد والمؤرخون يعرفون به أعمالاً موسيقية كبيرة وضعت أصلاً للسينما بكونها موسيقى القرن الـ20 الكلاسيكية، وذلك في نوع من الإجابة عن أسئلة كانت تطرح مع نهايات القرن الماضي عما إذا كان ذلك القرن قد أنتج سيمفونيات تماثل ما أنتجه القرنان السابقان عليه في هذا المجال الأوركسترالي تحديداً.

وفي الإجابات وبعد أن هدأت فورة تجاهل جار لمصلحة نحو نصف دزينة من مبدعين موسيقيين كرسوا مواهبهم ونشاطاتهم للموسيقى السينمائية - ومن بينهم بخاصة الإيطاليان الكبيران، إينيو موريكوني الذي اشتهر بالموسيقى الرائعة التي كتبها خاصة لأفلام سيرجيو ليوني، ونينو روتا الذي أسبغ على سينما فلليني نكهة موسيقية رائعة بالتأكيد - بعد أن هدأت تلك الفورة راحت موسيقى جار تعود إلى الواجهة لكن ليس فقط بفضل الموسيقى التي وضعها لأفلام ديفيد لين التي ذكرناها أول هذا الكلام، بل لعدد كبير من أعمال موسيقية لم يتوقف عن وضعها منذ ذلك الحين ومن بينها أعمال طبعت أفلاماً للوكينو فيسكونتي ("الملعونون" - 1969) وإيليا كازان ("آخر العمالقة" - 1976) وألفريد هتشكوك ("الكماشة" - 1969)... وغيرها.

جحود على الطريقة الفرنسية

والحقيقة أنه لم يكن من شأن موريس جار أن يلقى جحوداً من بني قومه لولا ما لاحظه كثر منهم من أنه في كل هذه الأفلام إنما تعامل مع "أجانب" هو الذي شكل عمله فيها علامات طبعت النصف الأخير من سنوات حياته لكن على حساب مساهماته في السينما الفرنسية الخالصة التي بدا أنه ابتعد عنها تحديداً منذ تحقق للموسيقي ذلك الاختراق الأول للفضاء العالمي متمثلاً منذ عام 1966 بالفيلم المتعدد الجنسيات الذي حققه الفرنسي رينيه كليمان عن غزو الألمان لفرنسا عند بدايات الحرب العالمية الثانية بعنوان "هل تحترق باريس؟". فلقد بدا الأمر حينها وكأن موريس جار قد استخدم ذلك الفيلم بالتحديد للوصول بموسيقاه إلى عالمية لم تكن تؤهله لها أفلامه الفرنسية الخالصة التي صنعت بداياته في عالم الموسيقى السينمائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المؤكد أن الذروة الإبداعية التي وصل إليها جار في مرحلته الفرنسية تمثلت بخاصة في سينما جورج فرانجو الذي على رغم كلاسيكيته ومكانته المتقدمة في سينما بلاده، لم يتمكن من فتح أبواب العالمية لا أمام أفلامه ولا أمام الموسيقى التي وضعها موريس جار لتلك الأفلام (ومنها بخاصة "فندق الأنفاليد" و"جوديكس" و"الرأس خابطاً الحائط" و"العيون دون وجوه"). صحيح أن هذه الأفلام حققت نجاحات كبيرة، لكن صحيح أيضاً أن موسيقى جار فيها لم تستفد من ذلك النجاح. هي لئن حققت بعض سمعة عالمية ستسهم في نقل جار من عمله المحلي إلى تلك العالمية التي لا شك أنه دائماً ما كان يتطلع إليها، فإنها حققتها بفضل فيلمين صحيح أنهما كانا محليين لكن من إخراج سينمائيين كانت لكل منهما سمعته العالمية الكبيرة كما عرفا بالمكانة التي يسبغانها على الموسيقى في تلك الأفلام: آلان رينيه في "كل ذاكرة العالم" (1956) ثم جاك ديمي في فيلمه الذي مهد لوصول "مظلات شيربورغ" إلى العالم بعد حين، "اللامبالي الجميل" (1957).

زمن الدهشة المصطنعة

كل هذا لنقول هنا إن انطباق مقولة "لا مكانة لنبي في وطنه" لها مبرراتها بالتأكيد. وهي مبررات تكاد تكون محض شوفينية منغلقة على بعدها الفرنسي. ولما كان جار متنبهاً لذلك كله رأيناه يواصل دربه الذي بات يعتمد فيه على مكانة عالمية في عالم الموسيقى السينمائية، لا تأخذ في حسبانها أية أبعاد "وطنية". ومن هنا حين كان في حوارات تجرى معه يسأل عن حصة التراث الفرنسي في خلفيته الإبداعية يحاول ألا يجيب معتبراً في أحسن الأحوال أن التأثيرات التي صنعته إنما وصلته من التراث الإيطالي الأوبرالي - غالباً افتتاحيات أوبرات فردي - أو من ماهلر أو من بيتهوفن، وحين كان هناك من يلفت نظره إلى بعض حضور لديبوسي أو سان سانس أو غيرهما من موسيقيي الانطباعية أو الرومانطيقية الفرنسية في القرن الـ20 كان يستنكف عن الإجابة في وقت يرسم فيه على وجهه علامات دهشة لا تبدو على الإطلاق مفتعلة.

 

وفي الحقيقة أنه كان غالباً ما يعلن انتماءه إلى موسيقى أوروبية كوزموبوليتية صنعت من مجموع تراث القارة مميزاً نفسه - ولكن دائماً بصورة لا يبدو أنه كان مقنعاً لمحاوريه - عن زميليه الإيطاليين الكبيرين موريكوني وروتا، مبدياً إعجابه الشديد بـ"الطريقة التي ربط بها كل منهما إبداعاته، المنتمية إلى الغرب الأميركي بالنسبة إلى الأول وإلى نزعة فلليني الإنسانية بالنسبة إلى الثاني، ربطها بجذور إيطالية لا شك فيها"، بل لقد وصل به هذا المنطق ذات مرة إلى اعتبار نفسه في موسيقاه العالمية صنواً لزميليه الكبيرين في النهل من التراث الموسيقي الإيطالي العريق. وطبعاً يمكننا أن نتصور الأثر الذي تركته هذه المواقف لدى الفرنسيين، لكن على أية حال لسنوات قليلة كان لا بد لها من أن تنتهي.

فاليوم، وبعد سنوات من رحيل جار ها هي ذي موسيقاه السيمفونية تستعيد مكانتها حتى لدى فرنسيين كانوا في البداية قد ناصبوه العداء وها هم أولاء اليوم يقتنون ومنذ سنوات في بيوتهم أو يحفظون في مخزوناتهم الإلكترونية معظم الموسيقى التي وضعها موريس جار ولا سيما لأفلامه الأجنبية الكبيرة وبخاصة منها أفلام ديفيد لين، التي يعدها كثر من المؤرخين والنقاد الفرنسيين اليوم "سيمفونيات القرن الـ20" ناظرين إليها نظرتهم لافتتاحيات الأوبرات الإيطالية الكبيرة التي ظهرت طوال القرن الـ19 ووصفت يوماً بأنها تكاد تكون سيمفونيات نهايات الـ19 الكبرى.

رهانات رابحة

بقي أن نذكر أن موريس جار الذي ولد في عام 1924 وكان في الـ28 حين بدأ يكتب الموسيقى التصويرية لأفلام سينمائية بادئاً بأفلام جورج فرانجو الذي كان أول من أدخله العالم السينمائي الفسيح حين عهد إليه بوضع الموسيقى التصويرية لفيلمه المتوسط الطول "فندق الأنفاليد". وهو حين بدأت نقلته الكبيرة إلى السينما العالمية من خلال الأفلام الثلاثة التي اختاره ديفيد لين ليضع موسيقاها بعد أن لفت نظره في بعض أفلام شاهدها له، لم يكن ليخطر في باله أبداً أن كلاً من تلك الأفلام سيعطيه جائزة أوسكار لأفضل موسيقى أصلية. ومن هنا كان تردد أول الأمر إذ قدر أن عمله على تلك الأفلام خلال سنوات طويلة سيجبره منذ البداية على ترك منصبه كمدير فني لمهرجان آفينيون المسرحي تحت رعاية المسرحي الكبير جان فيلار مؤسس المهرجان، لكنه عرف كيف يكسب رهانه، تماماً كما سيعرف مناصروه لاحقاً وهم من الذين أعطوه الحق في موقفه المبتعد عن بلاده، كيف يكسبون رهانهم بدورهم من حول عودة الفنان إلى وضعه المستحق في مكانته ولو بعد رحيله بسنوات.

المزيد من ثقافة