ملخص
يرى مراقبون أن السودان عانى نزاعات داخلية طويلة بدءاً من الحرب الأهلية في 1955 وصولاً إلى حرب 2023 التي أثرت في الاستقرار والتنمية.
تشهد منابر ومنتديات السودانيين بخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات واسعة حول قضايا التظلم والفساد التي تسببت في ما آلت إليه بلادهم من ترد وتأخر في كل نواحي الحياة، وصولاً إلى الحرب الدائرة حالياً بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023. ومن تلك القضايا مسألة الامتيازات التاريخية التي ظلت تحصل عليها جماعات وأفراد بصفة خاصة من دون بقية مكونات المجتمع، وبعيداً من أي مبررات أو معايير موضوعية.
نقاشات تطرح سؤالاً حول حقيقة هذه الامتيازات وفي ما تتمثل وكيف يمكن معالجتها حتى يعيش السودان في استقرار ومساواة بين جميع سكانه وولاياته من دون تمييز؟
مظالم جديدة
يقول الناطق الرسمي باسم تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) بكري الجاك، إن "الامتيازات التاريخية حجة تمسكت بها عديد من المجتمعات المهمشة في البلاد، وبسببها انتشر حمل السلاح وأسست جبهات وحركات احتجاجية عدة ضد الاختلالات في الهوية مثل مؤتمر البجا وجبهة نهضة دارفور واتحاد عام جبال النوبة، وهو أمر لا يتناقض مع تحقيق العدالة في ظل نظام سياسي قام على الإقصاء والتهميش وعدم العدالة في توزيع الموارد".
وقال الجاك "الامتيازات التاريخية مصطلح فضفاض ليس بالضرورة أن تكون له دلالة بمفهوم سياسات محددة، فهل يصادر من صعد إلى السلطة كما فعل البعض مع أراضي الناس الزراعية وأعاد توزيعها على آخرين، أم الذهاب باتجاه خلق المنظومة العدلية التي تمكن من معالجة هذه المظالم التاريخية على مدى بعيد من دون أن تخلق مظالم جديدة". وتابع "في تقديري أنه عندما يطالب الناس بإعادة توزيع الموارد في ظل الدولة التي تعبر عنهم ككيان سياسي اجتماعي، فإنه ليس بالضرورة أن يأتي ذلك بموجب ظلم على حساب مجموعات أخرى".
ومضى الناطق الرسمي باسم تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية في حديثه "لكن عموماً إن الصوت العالي الآن وسط السودانيين مع الدولة القائمة على المواطنة المتساوية والعدل في الحصول على الموارد والاحترام المتبادل والحق في الحياة والحقوق المدنية، ومن ثم في ظل هذا المنهج لن يكون هناك إشكال".
تهميش تاريخي
بدوره، أوضح المحلل السياسي عروة الصادق "في الحقيقة نجد أن هناك جذوراً تاريخية عميقة ترتبط بالادعاءات المتعلقة بالامتيازات التاريخية مثل التهميش التاريخي والنزاعات الداخلية، والتمكين والفساد السياسي، وتوزيع الموارد والفرص والسلطة والثورة، فضلاً عن غياب الحوكمة الرشيدة الشفافة ومكافحة الفساد، فتأخرت أقاليم عدة بسبب غياب التنمية الحضرية والمتوازنة، وعانى مواطنوها غياب التمثيل الحقيقي في مرافق ومؤسسات ومستويات السلطة في البلاد، لكن انطلاق الادعاء الحالي بأن الأمر ابتدأ بسلطة 1956 هو ادعاء أجوف". وأضاف "يعود التهميش في السودان إلى فترة الاستعمار، حين تم تجاهل عديد من المناطق والقوميات في توزيع الموارد والفرص، فضلاً عن إغلاق مناطق أطلق عليها (المناطق المقفولة) وهي عبارة عن مناطق نائية وقروية ليس بها أي صورة من صور الحياة، إذ انعدمت المساواة بين قاطنيها وسكان الأقاليم الأخرى، بل حتى البنى التحتية التي أسسها المستعمر تمركزت في مراكز إدارية معينة وتعمدت تجاوز مناطق يدين سكانها بالولاء للتيار الاستقلالي كتحويل مسار السكك الحديد ليستثني منطقة النيل الأبيض وقراها ومدنها التي كانت تمثل مراكز تجارية وحضرية واقتصادية وتنموية".
وأردف الصادق "في تقديري أن ما شهده السودان من نزاعات داخلية طويلة، بدءاً من الحرب الأهلية في 1955 وتجددها في 1973 ثم في 1983، مروراً بحرب 1993 التي تسببت في اندلاع معارك دارفور في 2003 وحرب جنوب كردفان والنيل الأزرق وانفصال جنوب السودان في 2011، إضافة إلى حرب الـ15 من أبريل 2023 أثر في الاستقرار والتنمية، وزاد من حدة التهميش والفقر ومكن جماعات إثنية وجهوية وعرقية من القرار السياسي". وأضاف "هذه النزاعات عصفت أيضاً بتماسك مجتمعات أخرى تفشى فيها الفقر والحرمان وخطاب الكراهية والانغماس في الصراع الداخلي مناطقياً وجهوياً وإثنياً، ليجد سكان هذه المناطق أنفسهم معزولين من القرار السياسي، لذا الواجب إنهاء حلقات هذه الحروب العنيفة والمخيفة، وهي أولوية قصوى للنهوض بالبلاد". وواصل حديثه "يلي ذلك العمل على إنهاء معاناة السودان من مشكلات الفساد السياسي التي امتدت لعقود في القطاعات الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة، وأثر ذلك في توزيع الموارد والفرص بصورة غير عادلة، وما لم تحسم هذه القضية ستنتهي الحرب وتعود الجماعات الفاسدة ذاتها لتولي زمام الأمور في البلاد والتحكم سياسياً واقتصادياً في قرارها، ونكون بذلك أعدنا تكرار تجارب السلام والثورات السابقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال المحلل السياسي عروة الصادق "أستطيع القول جازماً إنه ما لم تحسم قضية الحوار والمصالحة بين مختلف القوى المتحاربة والكيانات السياسية والمدنية والقيادات الأهلية والقوميات المنتشرة في السودان سنعيد تكرار الحرب في غضون عقد أو أقل". وزاد "كما أن تغييب القطاعات الحية من عملية السلام والإصلاح السياسي والاقتصادي تعد أكبر عراقيل استدامة السلام، ويمكن أن تلعب المرأة والشباب والمهنيون والفئويون ورجالات الإدارة الأهلية دوراً مهماً في تحقيق المصالحة والسلام. وينبغي تحسين طرق التمثيل الحقيقي وليس التضليلي أو الترميزي وتوزيع الموارد والفرص بين مختلف الشرائح والمناطق والقوميات وتشجيع الاستثمار في المناطق الهشة والمهمشة والنائية لتطوير البنى التحتية فيها وإنهاء خطابات المظلومية والمطلبية".
وختم المحلل السياسي "كل هذا ينبغي أن تديره مؤسسات قومية التوجه وذات استقلالية في القرار والسيادة الوطنية، على أن تعتمد مبدأ الشفافية والمساءلة في الحكومة المحلية والمؤسسات الولائية، وأن يشارك الجميع على قدم المساواة وبتمثيل يتواءم ويتناسب مع الثقل السكاني واحتياج الإقليم المعني، لكن إذا لم يتم تجاوز هذه التحديات الكبيرة بالصدق والتجرد والنزاهة والتعاون والجهود المشتركة، فلن يكون للسودان مستقبل ولن يحقق التقدم نحو الاستقرار والمساواة، فأي توجه غير ذلك سيكون مجرد تسكين للألم بصورة موقتة لتعود الأمور وتنفجر بعد سنوات أو عقود".
إدارة التنوع
من جانبه، أفاد المتخصص في العلوم السياسية بالجامعات السودانية عبده مختار، بأن "الامتيازات التاريخية في السودان ارتبطت بعدم حسن إدارة التنوع الذي تميزت به بلادنا، فضلاً عن التمييز على أساس عنصري وجهوي وإثني مثل الإقصاء والتهميش واحتكار السلطة والثروة على أساس أيديولوجي وجهوي، مما أدى إلى احتقان وغبن اجتماعي تسبب في ما نعانيه من صراعات وحروب، لكن بصورة عامة فإن جذور المشكلة السودانية وتشخيصها معروف تماماً، لكن النخب السياسية لا تسمع لصوت الحق على رغم الجهد الذي بذله الباحثون والمتخصصون بالتنوير بأزمة البلاد وحلولها، فأزمتنا ترتبط بسوء إدارة لكل من الموارد والتنوع وهو ما أوصلنا إلى هذا الوضع المتأزم".
وتابع مختار "كذلك من أكبر العلل في الأزمة السودانية أن النخبة العسكرية ليست محايدة ولا تمتلك رؤية حكيمة ولم تكن على مسافة واحدة من كل المكونات، فضلاً عن أنها تفقد الشرعية، إذ إن معظم سنوات الحكم في البلاد كانت تحت الحكم العسكري لذلك لم يكن هناك اهتمام بكتابة دستور على رغم أنه أحد المرتكزات الأساسية لاستقرار الدولة".
ورأى أن "الأحزاب على قلة سنواتها لم تكمل أي دورة من دوراتها في الحكم، وهي تعاني عللاً بخاصة في جانب المؤسسية والهيكلية وليس لها برامج سياسية واقتصادية وغير مهتمة بالدستور على رغم شرعيتها، لكن من المؤسف أنها لم تهتم بالأولويات الوطنية، إذ أضعفتها الصراعات الداخلية والبينية فهي غير قادرة على تأسيس نظام سياسي مستقر مما أنتج الانقلابات العسكرية العديدة وفترات الحكم الشمولي الطويلة، لذلك نجد أن كل فترات ما بعد الاستقلال اتسمت بالصراعات وعدم الاستقرار والحروب والأزمات علاوة على الفساد الذي أضاع كثيراً من الموارد".
ولفت المتخصص في العلوم السياسية إلى أن فترة حكم الحركة الإسلامية التي امتدت 30 عاماً (1989-2019) تعد أكثر الفترات التي مارست الظلم والفساد الاجتماعي باعتمادها سياسات التمكين والإقصاء وذلك بإبعاد الكفاءات الحقيقية من المناصب المهمة وتخصيصها لأشخاص بأعينهم بموجب الانتماء والعاطفة، مما تسبب في تعميق الأزمة وإضعاف مؤسسات الخدمة المدنية والعسكرية، وظهر ذلك في الحرب الدائرة حالياً بين الجيش و"الدعم السريع"، مشيراً إلى أن الحل الجذري لمسألة الامتيازات يكون بتوزيع الثروة بعدالة بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية والولاءات القبلية أو التكوينات الإثنية المختلفة.