Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما تبقى من الطاهر وطار؟

كانت الجزائر الأدبية في السبعينيات تزخر بكتاب كبار جميعهم يكتبون باللغة الفرنسية ولم يكن له من منافس بالعربية سوى عبدالحميد بن هدوقة

 الكاتب الجزائري الراحل الطاهر وطار   (التواصل الاجتماعي)

ملخص

اهتدى الطاهر وطار إلى تأسيس جمعية الجاحظية التي أرادها فضاء أدبياً وثقافياً للعقل والتنوير والدفاع عن الاختلاف، وحاول فيها أن يجمع بين الكتاب الجزائريين بالعربية وبالفرنسية.

هناك كتاب لا يمحو الزمن أسماءهم ولا تنساهم السلالات الأدبية المتعاقبة على اختلاف تياراتها الفلسفية والجمالية، أسماء تظل في ذاكرة التاريخ الأدبي ترافق القراء جيلاً بعد جيل بنصوص تتجدد وتتعتق.

 وهناك كتاب آخرون يختفون من الساحة الأدبية بمجرد رحيلهم عن هذا العالم، وهناك آخرون قد يخلدون لرأي أو موقف سجلوه في لحظات حاسمة من حياتهم حيال أمر سياسي أو ثقافي أو اجتماعي معين.

بعد مضي 14 عاماً على وفاة الروائي الطاهر وطار (1936-2010) نتساءل ماذا بقي يا ترى من إرث هذا الكاتب الذي شغل الساحة الأدبية والثقافية في الجزائر مدة نصف قرن من الزمن تقريباً؟  

ينتمي الكاتب الطاهر وطار إلى الجيل المؤسس للرواية الجزائرية باللغة العربية، وهو أول اسم روائي جزائري يصل المشرق ويحتفل به نقدياً وإعلامياً لمدة ربع قرن تقريباً.

كانت دار ابن رشد للنشر اللبنانية في الستينيات والسبعينيات التي سوقت اسم الطاهر وطار داراً ذات سمعة كبيرة، وتميزت بتوجهاتها السياسية والأيديولوجية اليسارية وهو ما وضع اسم الطاهر وطار مباشرة في خانة كتاب اليسار العربي.

تلقف الإعلام الأدبي اللبناني والفلسطيني اليساري الذي كان في أوج عطائه اسم الطاهر وطار ورفعه عالياً، وروج لنصوصه بقوة أيديولوجية.

ويعود الفضل الأول والكبير في تقديم الطاهر وطار إلى القارئ العربي وبكثير من الحماس والإشادة والإيجابية إلى الناقد الفلسطيني الكبير الدكتور فيصل دراج، الذي كان يتمتع بسلطة معنوية قوية في الساحة النقدية الأدبية والإعلامية العربية منتصف السبعينيات.

وقتها كان عائداً من جامعة السوربون بباريس مشبعاً بنظريات أدبية وفلسفات نقدية تعد جديدة على الحقل النقدي العربي، والمستثمرة أساساً في تفكيرات لوسيان غولدمان وجورج لوكاتش وبيير زوما وآخرين، وبهذا كان فيصل دراج السباق إلى إدخال أدوات ومناهج جديدة في تحليل الخطاب السردي الروائي العربي وكان السباق أيضاً في الترويج الكبير لاسم الطاهر وطار في عدد من المنابر الإعلامية وفي حلقات المثقفين والجامعيين والصحافيين العرب في لبنان وسوريا.

أما في الجزائر فمنذ بداية السبعينيات برز اسم الطاهر وطار مرتبطاً باليسار وانطلق ذلك بصورة أساس مع صدور روايته "اللاز" عام 1974، التي تناول فيها موضوعاً حساساً وواقعياً وهو الصراع التاريخي والخلافات السياسية بين الحزب الشيوعي الجزائري من جهة، وجبهة التحرير من جهة أخرى إبان الثورة التحريرية الكبرى التي انطلقت في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، والتصفيات التي عرفها بعض مناضلي الحزب الشيوعي جراء هذه الصراعات، إنه صراع الإخوة الأعداء.

ظهرت رواية "اللاز" والجزائر آنذاك في قمة توجهاتها الاشتراكية وكانت الثورة الزراعية بما جاءت به من قرارات تأميم أراضي الملاكين الكبار ومحاربة الإقطاع هي مركز السياسة الجزائرية، وكان اليسار الجزائري ممثلاً في حزب الطليعة الاشتراكية (الحزب الشيوعي الجزائري سابقاً) يقود هذا التوجه اليساري وإن بصورة سرية من خلال حركات التطوع لمصلحة الثورة الزراعية ومن خلال الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية. وفي هذا الجو الحماسي استفادت الرواية كثيراً من الإعلام إذ كان اليسار يسيطر على جميع الصحف والمجلات بالفرنسية وبالعربية.

وعلى المستوى الأيديولوجي والسياسي كانت المرحلة الجزائرية برمتها في صالح ترقية اسم الطاهر وطار، فالجامعة هي الأخرى كانت ورشة مفتوحة للحركات اليسارية من طلبة متطوعين لمصلحة الثورة الزراعية وأساتذة ذوي توجهات تنويرية ومن هذا المنطلق احتضن اسم الطاهر وطار بصورة حماسية كبيرة، وتعددت الأطروحات الجامعية بالعربية وبالفرنسية عن رواية اللاز وغيرها.

 لم يجد الطاهر وطار منافساً له، فالساحة خالية من أي اسم يكتب بالعربية باستثناء الروائي عبدالحميد بن هدوقة الذي كان يصنف خارج كتاب اليسار وبذلك ظلم أيديولوجياً ظلماً كبيراً وهو الكاتب المتميز، فالجزائر الأدبية في السبعينيات كانت تزخر بكتاب كبار جميعهم يكتبون باللغة الفرنسية سواء من الجيل الخمسيني أو جيل الاستقلال من أمثال محمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري وآسيا جبار ورشيد بوجدرة ورشيد ميموني ويوسف سبتي والطاهر جاووت وغيرهم.

بوفاة الرئيس هواري بومدين وتراجع الجزائر عن الاختيار الاشتراكي والتحول إلى التوجه الليبرالي وجد الطاهر وطار نفسه في شبه ضياع سياسي وأيديولوجي، وعبر عن هذه الحيرة أو الضياع في الإهداء الذي صدرت به روايته "العشق والموت في الزمن الحراش – الجزء الثاني من اللاز".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمام هذه الحيرة الأيديولوجية والضياع السياسي وأمام انزياح الإعلام الذي هو إعلام السلطة نحو رؤية سياسية ليبرالية وإسلامية جديدة، بدأ الطاهر وطار يبحث عن تموقع سياسي وأيديولوجي يعيد له سلطته ومكانته الإعلامية التي كان بتمتع بها، في ظل أعوام سيطرة اليسار في الجزائر.

اهتدى في البداية إلى تأسيس جمعية الجاحظية التي أرادها فضاء أدبياً وثقافياً للعقل والتنوير والدفاع عن الاختلاف، وحاول فيها أن يجمع بين الكتاب الجزائريين بالعربية وبالفرنسية، وبهذه الرؤية انخرط في الجمعية كتاب من أمثال الطاهر جاووت ويوسف سبتي وبختي بن عودة الذين اغتيلوا من قبل الإرهاب الإسلاموي، وعلى إيقاع هذا التوجه المنفتح والمدافع عن التعدد نظمت الجاحظية الملتقى الدولي حول الكاتب محمد ديب.

لكن تصريح الطاهر وطار الخطر تعقيباً على اغتيال الروائي الطاهر جاووت خلال يونيو (حزيران) 1993، والذي قال فيه "إن موته خسارة لأسرته ولفرنسا" سيكون بداية الغزل السياسي بينه والإسلاميين.

 يبدو أن الطاهر وطار الذي استلذ مجده الأيديولوجي الكبير في زمن سيطرة اليسار الذي ولى نهائياً بدأ يبحث له عن مجد أيديولوجي جديد آخر، فكان تيار الإسلام السياسي بحضوره الطاغي على كل المستويات مغرياً للكاتب فانخرط في الدفاع عنه وتبني أطروحاته السياسية المناهضة للدولة، لكن قوى الإسلام السياسي لم تكن تهتم بالأدب كما هو شأن اليسار بالتالي لم يقدم الشيء كثيراً لاسم الطاهر وطار روائياً.

ربما الشيء الوحيد الذي جناه من هذا التقارب السياسي هو حمايته من عميلة الاغتيال التي حصدت كثيراً من الكتاب والفنانين والإعلاميين الديمقراطيين، ولم ينتج للكاتب في هذه الفترة وبهذه الرؤية سوى نصوص عادية لم تثر ما أثارته نصوصه في فترة اليسار.

حين يخلق الكاتب بين نصوصه والأيديولوجيا مسافة من الحرية الفكرية فإنها تعمر طويلاً، وكلما ارتبطت الكتابة جمالياً بالقيم الإنسانية الكبرى كالخير والشر والموت والخلود والمساواة والعدالة والتعايش والاختلاف والحب، قاومت جميع صور الموت المقبل من الأيديولوجيا العارية. إن الكتابة في جوهرها تخاطب الإنسان في كينونته لا في انتمائه السياسي أو قناعاته الأيديولوجية.

وكلما جعل الكاتب نصوصه مركبة سهلة للأيديولوجيا العارية فإنه يحكم عليها بالموت السريع، فالأيديولوجيا تجعل الأدب موسمياً، ينتهي بنهاية مجد هذه الأيديولوجيا.

لقد ماتت جمعية الجاحظية،واختفت الروايات التي كتبت في مديح تيار الإسلام السياسي ومثلها اختفت أيضاً النصوص التي كتبت في الإشادة أيديولوجياً بالاشتراكية، ولم يبق من الطاهر وطار سوى تلك النصوص التي كتبت بصدق إنساني بعيداً من وهج الأيديولوجيا وبرؤية متحررة من الخطاب السياسي العاري، كرواية "الحوات والقصر" و"عرس بغل".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء