ملخص
يصف الشاعر والروائي السعودي عبدالله ثابت العزلة التي يختارها الفنان والمبدع بأنها "تشبه السجادة التي يفرشها مؤمن صادق في غرفة نومه للصلاة بعيداً من كل البشر، فهو يناجي الله وهو يقف في منتصفها، وهذه السجادة، يرجع إليها هذا الكائن القلق والمتعب ليجد أمانه وطمأنينته في منتصفها، لذا فإن عزلة الفنان هي سجادة صلاته".
حين يقول الأديب أو الفيلسوف أو المفكر أو أي فرد عادي إنه في عزلة فهذا يعني أنه يريد حجب العالم الخارجي عنه أو حجب نفسه عن العالم الخارجي ليعود إلى داخل مكان يعتزل فيه، أو ليعود إلى داخل نفسه وأفكاره ورؤاه.
هناك أنواع من العزلة لا تقتضي بالضرورة الاعتزال عن الناس، فقد يعتزل المرء داخل نفسه من دون أن يغادر الحياة الاجتماعية.
يقال إن موسيقيي الجاز ومغنيي الراب الذين يرتجلون موسيقاهم وكلمات أغانيهم يصيرون في عزلة داخل أدمغتهم ولو كان هناك جمهور يشاهدهم ويستمع إليهم، هذا المثال يدل أن ازدهار أنواع من الإبداع يكون من خلال ما يمكن تسميته العزلة العقلية.
من وجهة نظر علمية وطبية يتبين أن أنواعاً من الإبداع تظهر فينا عندما نكون قادرين على استخدام أجزاء من أدمغتنا توصف بأنها أقل ارتباطاً بالواقع وأكثر تحرراً من القيود الاجتماعية، وهي أجزاء لا نستخدمها عادة حين نكون في الأطر الاجتماعية التي تفرض قيوداً أو أنواعاً من الكبت لدوافعنا الغريزية، وقد أكد طب الدماغ علمياً ما كان قد وصل إليه سيغموند فرويد نظرياً، أي إن عيشنا داخل المجتمع والجماعة يفرض علينا كبت كثير من مشاعرنا كي نتمكن من الدخول والاندماج ونبدو أصحاء في نظر الآخرين. ولهذا فإن العزلة الشخصية تمنح المعتزل مساحة من التفكير والتعبير والنبش في الخواطر وطرح الأسئلة الشائكة ومحاولة الإجابة عنها، بطريقة لا يمكنه فعلها في الخارج، وهذا يعني بيولوجياً تشغيل مناطق في الدماغ نتعمد تعطيلها خلال محاولة الاندماج الاجتماعي.
يمكننا القول إن كل مبدع في أي مجال كان فنياً أو علمياً أو هندسياً، شعر بصدمة تنويرية مفاجئة خلال فترات التفكير المديدة حين يكون وحده من دون أي تدخل خارجي في أفكاره.
العزلة والإبداع واللا وعي
قبل 60 عاماً افترض المحللون النفسيون أن إحدى السمات المميزة للإبداع هي "القدرة على استخدام اللا وعي مع الحفاظ على ضوابط الأنا الواعية". في سبعينيات القرن الـ20 توصل علماء النفس إلى الاعتقاد بأن المبدعين يتميزون بسمات خاصة مثل الانطواء والاعتماد على الذات في الوقت عينه، وضعفاء في سمات أخرى مثل الارتباك أثناء التواصل الاجتماعي، وكذلك تيقنهم تجاه أخلاقياتهم العالية.
في تحقيق لمجلة "بسيكولوجي توداي" كتبته مجموعة من علماء النفس الدوليين، فإن الجزء الأكثر أهمية من "النظام" الإبداعي الفردي هو التخلي عن الوعي للسماح للأجزاء الأعمق من عقلنا بالعمل على هواها.
بعض الطرق التي يمكن استخدامها لحجب العالم والانزلاق إلى الشعور العميق بالتعرج العقلي، يمكن تحقيقها بتدريب الذهن بواسطة التأمل، وكان أحد أهم المدافعين عن الفوائد الإبداعية للتأمل هو المخرج ديفيد لينش، الذي مارس التأمل التجاوزي لسنوات. وبرأي لينش لا يهدف تدريب الذهن بواسطة التأمل الوصول إلى مزيد من الإبداع، لأن التفكير الإبداعي يأتي بصفته أثراً جانبياً لتهدئة العقل الداخلي من أفكاره وعواطفه، أثناء التأمل وبعده.
هذا رأي المخرج المعروف عالمياً بحسب تجربته، لكن علم النفس يرى أن التأمل التجاوزي هو واحد فقط من صور التأمل التي يمكن ممارستها. وفي كل الأحوال وجد الباحثون أن الشعور بالرفض الاجتماعي المؤدي إلى وجوب العزلة عن الناس، يحفز المرء على التفكير الإبداعي بصورة أكبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول عالم النفس الإنجليزي يميهالي سيكسينتميهالي "يبدو أن الشخص الذي يستقر بصورة مريحة في حضن المجتمع لديه حوافز أقل لتغيير أوضاعه وأفكاره الخاصة أو العامة". والشخص الذي يواجه إحساساً شخصياً بالرفض أو الاختلاف يكون في وضع يسمح له بخلق تجارب جديدة ومبتكرة لأنه يقضي مزيداً من الوقت في العمل على أفكاره واكتشاف كيف يمكن استخدامها.
وقد وجد عالم النفس والفيلسوف بارون خلال دراسته للإبداع أن المبدعين أكثر استبطاناً لأفكارهم ولنفسياتهم، ليس بمعنى امتلاكهم مستوى متزايداً من الوعي الذاتي فقط، بل يتمكنون من معرفة الأجزاء المظلمة وغير المريحة من نفسياتهم. وبرأيه الذي أكده الباحثون في ما بعد عبر أبحاث أجريت على عينة من الكتاب المبدعين تبين أن العقل الإبداعي قادر على تشكيل التجربة الشخصية عبر توليف الخيال مع الواقع، ولهذا يعتقد معظم المبدعين أن إبداعهم ناتج عن الإلهام، وأن الإلهام يأتي من الداخل وليس من الخارج. وهذه الفكرة التي لا يمكن تأكيدها عملياً حول الإلهام تبدو مشتركة وعامة وأكيدة لدى جميع المبدعين الذين يعلنون من دون تردد أن إلهامهم يأتي من داخلهم وليس من المحيط الخارجي الذي يعيشون فيه.
يصف الشاعر والروائي السعودي عبدالله ثابت العزلة التي يختارها الفنان والمبدع بأنها "تشبه السجادة التي يفرشها مؤمن صادق في غرفة نومه للصلاة بعيداً من كل البشر، فهو يناجي الله وهو يقف في منتصفها. وهذه السجادة، يرجع إليها هذا الكائن القلق والمتعب ليجد أمانه وطمأنينته في منتصفها، لذا فإن عزلة الفنان هي سجادة صلاته".
علوم النفس تلاحق المبدعين بين الوحدة والعزلة
وعلى رغم أن المبدعين لا يشعرون بالملل في عزلتهم، فقد برزت ميول انطوائية واكتئابية لدى كثير من العلماء والفنانين المعتزلين، وعلى رغم أنه بات شبه مؤكد بأن في العزلة تظهر الأفكار العظيمة فإن هذا الاستنتاج لم يؤكد علمياً. وفي هذا الإطار وجد بحث أجراه فريق من العلماء من جامعة أريزونا الأميركية، ونشر في مجلة أبحاث الإبداع (creativity research journal)، عام 2023، أن الأشخاص المبدعين لا يشعرون بالملل أثناء العزلة مثل الناس العاديين، بل يصبحون أكثر اندماجاً في إحياء أفكارهم الخاملة، كما يصبحون أكثر اهتماماً بتحولاتها الديناميكية المحتملة. وهذا ما دعا إلى التفريق بين الوحدة والعزلة الاختيارية، فالوحدة تورث الاكتئاب والمشاعر العدائية تجاه الآخرين، وتكرس مزيداً من الشعور بالوحدة مثل الغرق في الرمال المتحركة، وتؤخر الوحدة قدرة الشخص الوحيد على الاندماج الاجتماعي ولو لم يكن يقصد ذلك.
في معظم الأبحاث التي أجريت على الحيوانات أو على الأطفال الذين عاشوا في بيئة نائية أو بعيداً من أصدقاء أو خارج المدرسة تبين أنهم يخسرون القدرة على الاندماج الاجتماعي، أما الذين يختارون العزلة بملء إرادتهم فقد تمكنوا من اكتشاف قدرات مختلفة لديهم أكثرها مبتكرة وإبداعية، مع انتباههم إلى أنهم سيخرجون من عزلتهم نحو الاجتماع العام في اللحظة التي يقررون ذلك، أو حين يشعرون أن عزلتهم باتت تثير الضيق والضجر فيهم.
الأشخاص العاديون حين يوضعون في وضع الوحدة أثناء انتظار وصول الحافلة أو الاستحمام أو أثناء الجلوس على الكنبة من دون أي عمل، فإنهم يحاولون القيام بأي فعل يسليهم أو يبعد عنهم هذا الشعور بالوحدة مثل الانشغال بالهاتف المحمول، بينما يفضل المبدعون أن يتركوا بمفردهم مع أفكارهم التي تسيل بصورة عفوية وغير منضبطة والتي تثير اهتمامهم في توالدها من بعضها البعض. فالمبدعون عموماً يعجبون بقدرتهم على إنتاج أفكار وتخيلات ورؤى أثناء جلوسهم وحدهم من دون القيام بأي عمل.
في تجربة عملية أجريت على 80 مشاركاً طلب منهم الجلوس في غرفة بمفردهم مدة 10 دقائق من دون أية أدوات تشتت انتباههم. وطلب منهم التعبير عن أفكارهم بصوت عال لما شعروا به خلال هذه المدة القصيرة بمفردهم. وتبين أن المشاركين العاديين مالوا إلى القفز بين الأفكار وبدا تعبيرهم عما فكروا فيه غير مترابط وفوضوياً، وعبروا عن شعورهم بالملل من مجرد الجلوس من دون أية أداة تسليهم، بينما أظهر الأفراد المبدعون تفكيراً أكثر ترابطاً، وقالوا إنهم لم يشعروا بالملل، وكان بإمكانهم وصف تدفق الأفكار الذي انتابهم خلال التجربة.
وفي بحث استقصائي حول الملل خلال الإقفال العام الذي فرض أثناء جائحة "كوفيد-19" طاول أكثر من 2600 شخص تبين أن الأشخاص الذين يعتبرون أو يصنفون أنفسهم مبدعين، لم يشعروا بالملل الذي عبر عنه الأفراد العاديون، عندما لا يكون هناك ما يشغل تفكيرهم.
الشعراء والعزلة المقصودة بوصفها لعنة
كتب حاتم الصكر في بحثه حول العزلة في الشعر ولدى الشعراء بأن "الميل الغريزي إلى العزلة متأصل في النفس البشرية. وتحضر هذه الظاهرة حين نتأملها من جوانبها الثقافية في مجال الفكر والإبداع، فلم يكتف الشاعر المتشائم أبو العلاء المعري بما فرضه عليه عماه من عزلة بصرية حاول أن يبررها بالانكفاء عن مخالطة الناس، فأضاف عزلة بدنية على عزلته البصرية أو اللونية أو المشاهداتية، ولهذا سمي "رهين المحبسين"، أي بيته وعماه. وهذان المحبسان حولا حياته إلى جحيم من السوداوية والتشاؤم، فكانت حياته نفسه حبساً ثالثاً له، ووصف محابسه هذه في هذين البيتين الشعريين الممعنين في الاختصار والدلالة في الوقت عينه:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
ومثل عادته أراد طه حسين المصاب بفقدان النظر مثل المعري أن يضيف حبساً رابعاً على محابس المعري الثلاثة، فوصف عزلة المعري بأنها عزلة فلسفية، ومحبسه الرابع هو فكرة المعري عن الحياة والناس، وهو الذي رفض الزواج والإنجاب كي لا يتعرض أبناؤه للمآسي التي واجهته، وهو الذي يعتبر ولادته كلها جناية أبيه عليه. وبرأي الأديب المعلم طه حسين فإن نظرة المعري التشاؤمية تجاه الناس والحياة سببها عزلته المديدة والمقصودة.
وفي بحث الأديب حاتم الصكر بعنوان "سجون اليأس الثلاثة في حياة الشعراء وقصائدهم" يكتشف أن كتاب "سيرة آرثر رامبو" يكشف عن بوادر عزلة هذا الشاعر المتمرد قبل بلوغه الـ20 من العمر، وقد عبر عن عزلته وتركه مجتمعه الفرنسي إلى الشرق الأفريقي وعدن، فتوقف في أوج شاعريته، ونفوذ أثره في معاصريه الذين شهدوا اندماجه ضمن ما عرف بالشعراء الملعونين، لتمردهم على الشعرية الموروثة.
في رسالة الشاعر الملعون رامبو إلى صديقه الشاعر بول دومني المعروفة برسالة "الرائي"، يكتب واصفاً عزلته، بأن "على المرء أن يكون رائياً. عليه أن يجعل من نفسه رائياً. فالشاعر يجعل من نفسه رائياً عبر اختلال مدروس طويل هائل لكل الحواس، لكل صور الحب والألم والجنون. يبحث بنفسه، يستنفد كل السموم في نفسه ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر. ومصير الرائي حين يلتقي رؤياه، هو عذاب لا يوصف يحتاج فيه إلى كل الإيمان، إلى كل القوة الخارقة، إذ يصبح بين الجميع، المريض الأكبر، المجرم الأكبر، الملعون الأكبر، والعليم الأسمى، لأنه يدرك المجهول… وعندها، وقد جن، ينتهي إلى ما يعمي بصيرته عن رؤاه، يكون قد رآها. فليمت في وثبته بالأشياء الخارقة التي لا اسم لها".
شكسبير كتب الملك لير وعدداً من روائعه الأخرى أثناء عزلته المقصودة عن المجتمع. وأن "كل تجربة عزلة فريدة من نوعها، ويعبر الفنانون عن إبداعهم خلال هذه الأوقات بطرقهم الخاصة". وعزل الرسام ألفريد واليس نفسه في منزله لفترات طويلة تحضيراً لمعرضه المقبل. وهناك فنانون مثل جورجيا أوكيفي وفريدا كاهلو قضوا فترات طويلة بمفردهم في استوديوهاتهم، فقد أمضى أوكيفي أربعة أعوام في مرسمه.
توثيق العزلة بوصفها عملاً فنياً
وثق فنانون العزلة وحولوها إلى موضوع لأعمالهم كما فعل المصور الفوتوغرافي والفنان مارك رويدل في تصويره خطوط السكك الحديد المهجورة، أو الصحاري الخالية من أي أثر للحياة البشرية. ويرى هذا الفنان أنه يمكن للانطواء أن يكون أداة فعالة لتوكيد "فنيتنا" أي لنؤكد لأنفسنا أننا فنانون ننتج أعمالاً إبداعية.
توثيق العزلة بات نوعاً فنياً بحد ذاته خلال ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 الماضي، على سبيل المثال عزل فنان الأداء التايواني Tehching Hsieh نفسه وعاش في صمت ولم يتواصل مع العالم الخارجي، ولتوثيق عزلته صور بين عامي 1980-1981 وجهه في عزلته في كل ساعة، ونتجت من هذا العمل مجموعة كبيرة من الصور التي وثقت تغير معالم وقسمات هذا الفنان طوال مدة عام من العزلة.
تقول الفنانة آنا فارلي المتخصصة في مجال التنوع العصبي، أن العزلة هي فرصة لجميع الفنانين للخروج من صناعات الفنون السائدة ومحاولة إنتاج الجديد المختلف وغير المتوقع. وبرأيها إن تعريف العزلة "هي عندما أستطيع اتخاذ قرار بإبعاد نفسي جسدياً وعقلياً عن كل ما قد يتداخل فيها من الخارج".
فنون العزلة المفروضة فرضاً
خلال الحقبة السوفياتية اضطر الفنانون الذين يعيشون في موسكو إلى الركون في شققهم والبقاء فيها لمدة طويلة ابتعاداً عن الرقابة الشيوعية التي كانت تحدد نوع الفنون التي تتناسب مع المتبع والفكر الشيوعي رفضاً لكل أنواع التعبير التجريدية والسوريالية التي كانت تعتبر من آثار المجتمع الرأسمالي وتأثيره. وتمكن هؤلاء الفنانون السوفيات المنعزلون في شققهم من خلق نوع خاص من الفن سميAPTART الذي تعرفه موسوعة ويكيبيديا بأنه المعارض الفنية التي كانت تقام في شقق الفنانين في الاتحاد السوفياتي، ونتج من الحركة الفنية التي دارت في شقق الفنانين حركة بوهيمية شبه سرية مخفية عن النظام الشمولي.
في ستينيات القرن الـ20 بحث عالم النفس والباحث الرائد فرانك إكس بارون حول مجموعة من المبدعين بهدف اكتشاف المشترك في ما بينهم الذي ينتج إبداعهم الفني، وهؤلاء هم مجموعة من الأدباء وعلى رأسهم ترومان كابوت وويليام كارلوس ويليامز وفرانك أوكونور. أضاف مجموعة من كبار المهندسين المعماريين والعلماء ورجال الأعمال وعلماء الرياضيات. ووجد بارون واستنتج من بحثه أن المفكرين الأكثر إبداعاً أظهروا جميعاً سمات مشتركة وهي الغرق في الحياة الداخلية، وتكريس الغموض والتعقيد، وتحمل عال وغير عادي للاضطراب والفوضى، والقدرة على استخراج النظام من الفوضى. وكتب بارون مستنتجاً، إن الإبداع والعبقرية يمكن وصفهما بأنهما سمات في الفنانين، "بدائية ومتحضرة، مدمرة وبناءة، مجنونة وعقلانية".
