Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الإبداع الفني والأدبي في منتصف الطريق بين الوعي واللاوعي

العالم الإنجليزي مايك جاي يرصد الأثر الذي تحدثه المواد المخدرة في النفس

لوحة للرسامة بلاندين فونتان (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

صدرت الترجمة العربية للكتاب المرجعي الجديد "الرواد النفسيون، المواد المخدرة وتشكيل العقل الحديث"، للعالم النفساني الإنجليزي مايك جاي. وفيه يؤرخ الباحث المراحل التي اجتازها رواد علم النفس وعلماء التحليل النفسي في فهمهم الأثر الذي تحدثه المواد المخدرة في النفس، لا سيما في وعيه العالم، وفي التعبير عنه تعبيراً أدبياً أو فنياً.

تطرح بعض الكتب، بل بعض المراجع العلمية الكبرى، إشكاليات على القراء من أجل أن يناقشوها ويخلصوا إلى يقينيات ممكنة. وقد تطرح بعض المراجع أفكاراً، يختلط فيها العلمي بالانطباعي، والتجريبي بالوضعي، والعلمي بالأدبي والفني. في الكتاب المرجعي الأخير عن دار الرافدين، للعالم النفساني الإنجليزي مايك جاي، وعنوانه "الرواد النفسيون، المواد المخدرة وتشكيل العقل الحديث"، وبترجمة بندر الحربي، وبصفحاته الـ472، يؤرخ صاحبه للمراحل التي اجتازها رواد علم النفس وعلماء التحليل النفسي في فهمهم الأثر الذي تحدثه المواد المخدرة في النفس، لا سيما في وعيه العالم، وفي التعبير عنه تعبيراً أدبياً أو فنياً. أما الإشكالية المضمرة أو التساؤلات التي تنطوي عليه - والتي لم يذكرها المؤلف - "هل يمكن للمواد المخدرة أن تفيد الإنسان في زمننا، وهل تفوق فوائدها مضارها أم العكس؟ وهل استثمار قدرات الإنسان العقلية الواعية منوطة بها وحدها؟

 تأريخ أسبق

قبل التفصيل في مراحل تعاطي ما بات يسمى بعلم النفس وعلوم الكيمياء والطب البشري الحديث، الذي حدد المؤلف إطاره الزمني من منتصف القرن الـ19 إلى القرن الـ21، مع دور المواد المخدرة في تشكيل العقل الحديث، على حد زعمه، ألم يكن ثمة استخدام لهذه المواد على مدى التاريخ القديم ولدى الشعوب والحضارات المختلفة؟ للإجابة نقول إن للمواد المخدرة حضوراً في التاريخ القديم، بحسب ما وصلنا من تدوين، إلى ما قبل الميلاد بـ500 عام أقله، حين نبه الفيلسوف اليوناني دياغوراس من أخطار الأفيون، قائلاً: إنه خير للمرء أن يموت من أن تصرعه محاسن الأفيون، لما تسببه من الإدمان القاتل.

 

ولنا في السجلات الأدبية والفلسفية، لا سيما ما بلغنا عن الفيلسوف ديوسكوريد، ما يشير إلى وجود ما يقارب 1000 مخدر كان مستخدماً في حينه، منها الأُطرُب والفطر السام والنبيذ والقنب والأفيون، وغيرها.  ولو عدنا إلى كتاب "الشفاء" للفيلسوف ابن سينا في القرن التاسع الميلادي، لوجدنا فيه وصفاً دقيقاً للنباتات ذات المفعول التخديري، على سبيل المثال نبتة داتورا وجوزماتيل والقنب، وغيرها. يذكر أيضاً أن كل الحضارات القديمة والشعوب بغض النظر عن درجة تقدمها أو تمدنها كان لديها أدواتها المخدرة، سواء لاستعمالها الطبي أو الترفيهي أو غيرهما.

المرحلة الأولى

بالعودة إلى الكتاب، يورد المؤلف والمؤرخ مايك جاي، في مستهل الفصل الأول منه ما مفاده أن علماء النفس والباحثين في الأعراض المرضية بالغرب، أولهم سيغموند فرويد، اتجهوا إلى تجريب المواد المخدرة على أنفسهم، من أجل أن يقيسوا مدى فاعليتها، ما دام أن قسم أبقراط الطبي يمنعهم من تجريب المواد الطبية على مرضاهم. انطلق فرويد، وقبله كثير من الأطباء وعلماء النفس، من واقعة أن الغالبية العظمى من الناس باتوا ضحايا لما دعي بالوهن العصبي، وهو مرض القرن الـ19، ناجم عن تسارع المخترعات الحديثة (القطار، السفن البخارية، الثورة الصناعية، إلخ)، بحيث ينتاب هؤلاء الشعور بالعجز عن اللحاق بإيقاع الحياة التي تفرضها الحداثة. وكان لا بد لفرويد في مستهل عمله العلاجي أن يقترح دواءً للوهن العصبي ذي الأعراض الآتية: "القلق والدوار وعسر الهضم والتوتر العصبي والتعب المزمن واضطرابات النوم والضعف الجنسي" (ص:38)، فكان الدواء الكوكايين، الذي كانت توفره شركة "ميرك" الصيدلانية الألمانية، نتيجة اختبار شخصي قام به فرويد لمفاعيل الكوكايين، وقد دونها تباعاً، لدى تناوله كل جرعة منه. ويذكر الكتاب في هذا الشأن أن فرويد كان قد سلك، في اختباراته الذاتية، على نهج كثير من العلماء الألمان والإنجليز والفرنسيين، أمثال ديفي وبيدوز ويوهان فيلهلم ريتر وبوركيني الداعي إلى إرفاق دراسة المواد المخدرة بالبيانات، لتكون أكثر موضوعية وبعداً من الذاتية، ودي كوينسي وجاك جوزيف مورو وغيرهم. غير أن فرويد ما لبث أن تنكر لكتابه حول الكوكايين بعد صدور الشرعة الدولية لمكافحة الأفيون في لاهاي عام 1912، التي تجرم استيراد المواد المخدرة، لا سيما الأفيون، وتمنع تعاطيها والاتجار بها، وتحصر استخدامها في المجال الطبي دون غيره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما وراء الحجاب

في الجزء الثاني من الكتاب يعرض المؤلف لتجارب عدد من الأدباء والفنانين الغربيين، لا سيما الألمان منهم، لدى تناولهم جرعات من المخدرات، سواء أكانت مواد طبيعية أو مصنوعة أو كيماوية، من أجل خلق حالة من النشوة الحسية، فعلى سبيل المثال صار أوكسيد انتروز، الذي اخترعه العالم الألماني فريدريش شونباين أوائل القرن الـ19، غاز الضحك جزءاً رئيساً من الترفيه الشعبي، بعد أن أُخضع للعديد من التجارب، وأتيح للعامة استخدامه، والتداول بطبيعة مفاعيله.

أما الأميركيون، علماء نفس وفلاسفة وأطباء وكيماويون، فكان لديهم تجاربهم المخصوصة التي خاضوها وأفضت بهم إلى اكتشاف أنواع من المخدرات، وتصنيع أخرى، إذ يذكر المؤلف أن كثيراً من هؤلاء العلماء والأطباء أمثال تشارلز جاكسون وويليام جرين مورتون توصلوا إلى إعداد غاز آخر دعوه بالإيثر الإيثلي، اعتمدوه لإطفاء الألم عند المرضى الخاضعين للعمليات الجراحية. ولكن شيوع استخدامه بين طلاب الكليات الطبية، في حينه، واستحسان تداوله بين سيدات المجتمع، لمتعته وإثارته جواً من التفلت الذهني والمرح غير المحسوب، حمل كثيراً من الكتاب، أمثال هانس كريستيان أندرسن على حصر استخدامه بالمجال الطبي دون غيره، وذلك لخشيتهم من وقوع مستخدميه في الإدمان، واستدامة شعورهم بانفصال قدراتهم الذهنية الواعية وغير الواعية، بل دماغهم وما ينطوي عليه، عن جسدهم أو حواسهم الأخرى. وفي السياق عينه تنبه عالم النفس والفيلسوف ويليام جايمس ومن خلال مراقبته عمل المخدر في تشتيت الوعي لدى مستخدمه، إلى وجود ما يمكن تسميته بتيار للوعي، متماسك ومترابط، أشبه ما يكون بالنهر أو الجدول الجاري، وأنه يمكن لتيار الوعي هذا، أو تيار الفكر، أن يغتني بالتجربة الصوفية، فتزداد أبعاده في ما يتجاوز الحس المباشر والمحدود.

 

وبناءً عليه يتضح أن استخدام المخدرات على أنواعها لدى فئة النخبة من المثقفين والمفكرين وعلماء النفس والفلاسفة الغربيين إنما كان لغرض استكمال أبحاثهم وكشوفاتهم التي بلغت إحدى ذراها مع اكتشاف اللاوعي عند فرويد أواخر القرن الـ19 وأوائل الـ20. ولكن هذا الاعتبار لا يصح في فئات العامة والخاصة من الطبقات الميسورة في الغرب، وحتى الفئات المهمشة غرباً وشرقاً، ممن تهافتوا على المخدرات، الطبيعية منها والمصنعة، لا ليجربوها أو يقيسوا مفاعيلها في نفوسهم، وإنما ليزدادوا بها متعاً حسية، وليرفهوا عن أنفسهم حيال ضغط الحياة المعاصرة القهار. ولئن كان المؤلف مايك جاي لم يلتفت إلى ظاهرة إدمان الأفيون والقنب في العالم الشرقي، لا سيما في الصين (حيث بلغ المدمنون 15 مليوناً) والهند ومصر، وتصاعدت نسب الوفيات بسببها، مما استدعى إعداد الشرعة الدولية لمكافحة الأفيون في لاهاي عام (1912)، فإن جل اهتمامه كان منصباً على تجارب الغربيين للمخدرات على أنواعها، كما أشرنا، وعلى مدوناتهم العلمية والأدبية والفنية التي صدرت عن هذه التجارب.

حكاياتالأدباء

في الأجزاء التالية من الكتاب عرض مستفيض لتجارب متعاطي المواد المخدرة في الغرب، لا سيما الأدباء منهم، الذين بهرتهم حكايات "ألف ليلة وليلة" وما فيها من مشاهد لمدمني "البنج"، وهي كلمة عامة يراد بها الإشارة إلى المواد المخدرة، كالأفيون أو الحشيش أو غيرهما. وبغض النظر عما إذا كان تجريب الأدباء والفنانين الغربيين بداعي الاختبار العلمي على الأصحاء، بزعم المؤلف نقلاً عن جاك جوزيف مورو، فإن هؤلاء انصرفوا بكليتهم إلى استخدام المخدر لغايتين متعادلتين، عنيت بهما، المتع الحسية، واستثمار طاقة اللاوعي للإبداع. وهذا ما سوف يكون عليه الروائي تيوفيل غوتييه والشاعر شارل بودلير وباسكال بيفرلي وآرثر سيمونز وبول فيرلين ومود غون، وغيرهم كثير.

وأياً يكن الأمر فإن المؤلف لا يسعه في ختام كتابه إلا استخلاص عبرة مفادها أن" الجرعة تصنع السم" على قولة الطبيب اليوناني ديسقوريدس، لـ2000 سنة خلت، وأن المواد المخدرة وإن ملكت القدرة على شفاء نسبي فإنها تملك القدرة على الإضرار بالنفس، على حد قول فرويد.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب