ملخص
في الذكرى الـ300 لولادة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط صدرت وتصدر كتب جديدة عن فلسفته ومساره وريادته وتلقي أضواء جديدة على أفكاره المعاصرة.
ما زالت إصدارات الكتب الجديدة التي تتناول فكر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) في راهنيته وأهميته بالنسبة للتحديات والإشكاليات التي تواجه الإنسانية اليوم تتوالى بمناسبة مرور 300 سنة على ولادته، إن في ألمانيا أو فرنسا أو في غيرهما من البلدان، كأن معين هذه الفلسفة النقدية التي قلبت مقاييس الفكر التقليدي في تناولها لمسألة حدود العقل المعرفية والفعل الأخلاقي لم ينضب بعد.
فقبل ثلاثمئة عام، وتحديداً عام 1724، ولد إيمانويل كانط في مدينة كونيغسبرغ البروسية الشرقية (اليوم كالينينغراد، روسيا)، وهو من الفلاسفة القلائل الذين لا تزال الحداثة تعود باستمرار إلى كتاباتهم، بعد أن فرض نفسه، ليس على مستوى الفكر الفلسفي الذي جعل العالم يتمحور حول الذات العارفة وحسب، بل كمرجع لا غنى عنه للديمقراطية الاجتماعية من خلال نظرته "للسلام الدائم" و"الكونية". يقول ميكايل فوسيل، أستاذ الفلسفة في جامعة بورغوني "إن كانط هو أهم وأكبر فلاسفة عصر الأنوار. أسهم في انتصار العقل على النقل، وفي غلبة الفلسفة المستنيرة على ظلمات الخرافات. ولا تزال أفكاره كالبحث عن السلام الدائم بين الأمم وبلورة مبادئ أخلاقية كونية تخضع لها كل شعوب الأرض والدفاع عن العقل والنقد بمعنى التفكير والتحليل راهنة".
ولعل كانط الذي اعتقد أنه تغلب على مأزق الميتافيزيقا التقليدية في ادعاءاتها الوصول المباشر إلى الحقائق العليا (العالم، الروح، والله) والذي أقرَّ أن كل الكائنات والأشياء الموجودة في العالم لا يمكن للإنسان المقيد بالزمان والمكان إدراك حقيقتها، بعد أن ربط معرفة العالم بالشروط الشكلية للتجربة الإنسانية أو ما يسميه البنية القبلية أو الترانسندنتالية مُعرِضاً عن جعلها تتمحور حول العالم، مخضِعاً العالم لناموس الذات المعرفي، ترك للأخلاق أو العقل العملي مهمة ترجمة حدسيات العقل المحض.
هذا التغيير الشامل لقواعد الفكر والفعل دفع بأهم مفكري الحداثة وما بعد الحداثة إلى تخصيص كانط بتأويلات متعددة تناولت جانباً مهماً من فكره. كانت هذه حال مارتن هايدغر، الذي أعاد مارك دو لوني الذي شارك في ترجمة وتقديم أعمال كانط في مجموعة "لابلياد"، ترجمة كتابه الموسوم "كانط ومشكلة الميتافيزيقا" إلى اللغة الفرنسية بمناسبة المئوية الثالثة لولادة الفيلسوف (منشورات غاليمار، 2023)، وتيودور أدورنو، الذي ترجمت ميشيل كوهين-حليمي محاضرة ألقاها عام 1959 بعنوان "كانط، نقد العقل المحض" وقد صدرت أخيراً في باريس عن دار كلينكسك (2024)، وغيرهما من الفلاسفة كهابرماس ويوناس ودولوز وليوتار ودريدا وفوكو الذي اعترف بشكل مفاجئ في الدروس الأخيرة التي ألقاها في كوليج دو فرانس أنه "أخطأ وعلينا العودة دوماً إلى كانط"، إلخ.
مديح ونقد
ولئن لم يسلم كانط مثل كل شيوخ الفكر وعظمائه، من المدائح والانتقادات التي طاولته في حياته أو بعد مماته على يد المثاليين الألمان أمثال فيشته وهيغل وشيلينغ، والذين تجاوزوا الحدود التي رسمها، فإنه، وبعد مرور ثلاثة قرون على ولادته، ما زالت هذه الانتقادات والدراسات مستمرة، لكنها أصبحت تتناول اليوم فكره السياسي والأنثروبولوجي والجغرافي المتعلق باليهود والأفارقة أو الهنود الحمر، الذين وضعهم كانط في أسفل سلم "الأعراق"، ما جعله بالنسبة لكثيرين في تناقض مع روح العصر.
هذا هو بالضبط موضوع دراسة أستاذة الفلسفة في جامعة كاليفورنيا كاترين مالابو في الكتاب الجماعي المعنون "كانط (غير) الراهن" الصادر حديثاً عن المنشورات الجامعية الفرنسية بإشراف أحد أهم المتخصصين بالفلسفة الكانطية والأستاذ في جامعة ليل أنطوان غرانجان (2024). يعدّ هذا الكتاب أحد أهم الكتب التي نُشرت في فرنسا بمناسبة المئوية الثالثة لولادة الفيلسوف. تقول مالابو إنها في ربيع 2020، بينما كانت تدرّس مقرّراً يتناول فكر كانط، واجهت، بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد على يد عنصر شرطة أبيض في مينيابوليس في ولاية مينيسوتا، فيضاً من الأسئلة طرحها طلابها انطلاقاً من الدراسات الأفرو-أميركية عن الأخلاق والعرق الأبيض والكولونيالية والاستعباد وارتباطها بالعقلانية الكانطية، متسائلين عن "عنصرية متأصلة في النظرية النقدية الكانطية".
جاء الجواب على هذه الأسئلة في الدراسة التي وقعها في ألمانيا ماركوس فيلاشيك الناظر إلى كانط كأحد أوائل المفكرين في العولمة والكوسموبوليتية. يقول فيلاشيك إن ما خطّه قلم كانط في كتابه الشهير "الجغرافيا الفيزيائية" بحق الأعراق غير الأوروبية من أحكام مسبقة، اعتمد بشكل غير نقدي على تقارير الرحّالة الأوروبيين الذين رافقوا الحملات الاستعمارية. لكن فيلاشيك، والذي لا يتردد في انتقاد هذه الأحكام العنصرية، يعترف أن الرؤى التي عبر عنها الفيلسوف في مؤلفه حول الإنسانية، تجعل منه من أوائل المفكرين في العولمة والمواطنة العالمية، إذ يؤكد كانط في بعض نصوصه أن كروية الأرض تجعل من الصعب على جماعة من الناس أن تستقل بنفسها عن الآخرين. فالبشر مضطرون، بحكم ضيق الأرض وندرة مواردها إلى التعاون في ما بينهم. هذه الفكرة هي نفسها التي سيدافع عنها في كتابه "مشروع نحو السلام الدائم"، والذي يضع فيه حجر أساس قانون المواطنة العالمية، والذي يعتبره فيلاشيك أحد أهم الإنجازات النظرية للفلسفة الكانطية.
وجاء الجواب أيضاً على هذه الأسئلة في دراسة أنطوان غرانجان المتعلقة بترجمة وتقديم نصوص كانطية تناولت موضوع الالتزام الأخلاقي في إطار تفكر كانط بالشر والكذب، والتي أكد فيها على حق الإنسان في الكذب بدافع الإنسانية، وقد صدرت أيضاً عن المنشورات الجامعية الفرنسية (2024)، وفي الدراسة التي ضمها غرانجان إلى الكتاب الجماعي "كانط (غير) الراهن". في هاتين الدراستين يوضح أنطوان غرانجان إن الكذب إن كان بالمطلق لا-أخلاقياً، فإنه في بعض الأحيان يصبح عند كانط أخلاقياً، كأن نكذب على قاتل يلاحق بريئاً مختبئاً في منزلنا يسألنا إن كنا قد رأيناه، مضيفاً إن الكذب ههنا لا يتعارض مع المبدأ الكانطي "اعمل دائماً بحيث تكون القاعدة التي تتبعها قانوناً عاماً". أما بالنسبة للعنصرية المنسوبة لكانط، فلا يزال أنطوان غرانجان لا يراها مستنكرة في الجامعات الفرنسية. ومع ذلك، فإنه يعترف أن "الاهتمام بها وبتحليل النصوص الكانطية التي تتناولها ووضعها في سياقها الفكري والتاريخي أصبح أكثر من ضروري"، مشدداً على أن كانط، الذي كان لفترة متابعاً لأخبار الثورة الفرنسية ومهتماً بها، والذي تأثر بأفكارها وبأفكار روسو (1712-1778) المتعلقة بالمساواة والحرية والأخوة وبالعقد الاجتماعي، والذي جعل من الضمير الأخلاقي منبع الحقائق الميتافيزيقية وقاعدة السلوك الإنساني، يُنظر إليه في فرنسا على أنه مفكر أثّر في بعض الثوار الذين تفاعلوا مع أفكاره، من أمثال إيمانويل جوزيف سييس (1748-1836)، وميرابو ومجموعة "الأيديولوجيين"... وقد قام لاحقاً مثقفو الجمهورية الثالثة بالنهل من فلسفته في رفضهم للنزعة القومية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضم كتاب "كانط (غير) الراهن" إلى جانب دراسات غرانجان ومالابو مقالات وقّعها كل من ميكايل فوسيل حول مستقبل "النقد" بوصفه مهمة لا نهاية لها، ونقاشاً لمفهوم "الذات الكانطية" لبياتريس لونغوينيس.
ولا تزال نصوص كانط تحتل مكانة مهمة في المقررات الدراسية الثانوية والجامعية الفرنسية والألمانية، مما يؤكد أن مؤلفاته قادرة على الإجابة عن بعض أسئلتنا، سواء تعلقت بالديمقراطية والسلام، أو بالأخلاق والقانون، أو بحدود المعرفة الإنسانية، أو بالدين والتربية. يكفي أن نحصي الكتب والمقالات التي تصدر كل سنة في العالم والتي تدور حول الفلسفة الكانطية لنعرف أهمية فكر هذا الفيلسوف.
أشير في هذا السياق إلى صدور كتابين جديدين في فرنسا تناولا فكر كانط، وهما كتاب كريستوف بوريو المعنون "كانط البيئي" وكتاب جيرار روليه "الأنوار السياسية" الصادرين أيضاً عن المنشورات الجامعية الفرنسية (2024). هذا في فرنسا. أما في ألمانيا، فقد وقّع كل من ماركوس فيلاشيك كتابه الموسوم "كانط، ثورة الفكر" (س. ش. بيك، 2024)، وأوتفريد هوفه كتابه "الكوسموبوليتي من كونيغسبرغ، إيمانويل كانط اليوم، الشخص والأعمال" (ماريكس فيرلاغ، 2023). وإن دلت هذه الإصدارات الجديدة على شيء، فعلى حيوية الدراسات الكانطية في ألمانيا وفرنسا، وعلى عظمة فكر كانط، وعلى أهمية محاورة نصوصه التي ما زالت تذخر بأفكار تساعد إنسان اليوم على الارتقاء بمجتمعاته وأخلاقه وإنسانيته تحت "السماء المرصعة بالنجوم".