ملخص
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها لبنان، يبدو أن القطاع السياحي يعاني بشكل خاص تداعيات الأزمات المتتالية. الأوضاع الجيوسياسية والتهويلات الإعلامية زادت تعقيد الوضع، مما أثر سلباً في حركة السياحة ونسب التشغيل في المؤسسات السياحية لهذا العام.
يعتبر القطاع السياحي في لبنان أحد الأعمدة الأساس للاقتصاد الوطني، إذ يسهم بشكل كبير في توفير فرص العمل وتحريك العجلة الاقتصادية. لبنان بفضل موقعه الجغرافي على البحر الأبيض المتوسط وتنوع مناظره الطبيعية وتراثه الثقافي العريق، كان دائماً وجهة مفضلة للسياح من جميع أنحاء العالم. المدن الساحلية مثل بيروت وجبيل وصيدا تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار خصوصاً خلال فصل الصيف، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويخلق فرص عمل في مجالات الضيافة والفندقة والترفيه.
غير أن واقع القطاع السياحي في لبنان تبدل وبات يعاني تحديات كبيرة، خصوصاً بعد الاحتجاجات التي عمت البلاد نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة في أواخر عام 2019، التي تفاقمت منذ تفشي جائحة كورونا وصولاً إلى تطور المعارك جنوباً بين إسرائيل و"حزب الله"، والقائمة منذ نحو 10 أشهر وهي آخذة في التوسع. هذه التحديات أدت إلى تراجع كبير في أعداد السياح وانخفاض في الإيرادات، مما أثر سلباً في عدد من المؤسسات والشركات العاملة في هذا المجال، فالفنادق والمطاعم والمقاهي التي كانت تعج بالحياة والنشاط أصبحت تواجه صعوبات كبيرة في الحفاظ على استمراريتها.
نعي القطاع
ونعى رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر، في بيان أمس الأول الجمعة، موسم صيف 2024، معتبراً أن "لا فرص للموسم الحالي، وإذا توافرت فهي بعيدة جداً حيث لا نلحظ أي تطور إيجابي وسط كل التهديدات التي توجه للبلد من الجهات كافة والتي تؤكد أن الحرب لا تزال طويلة".
وقال الأشقر إن "الحرب هي أول عدو للسياحة كون السياحة تتطلب الأمن والاستقرار والأمان". وأكد أن "الموسم السياحي كان قاطرة أساسية للاقتصاد اللبناني خلال عام 2023 والقطاع الأهم لناحية إدخال العملة النادرة إلى لبنان"، لكن "القطاع تلقى ضربة قوية جراء تصاعد التوترات واحتمال نشوب حرب شاملة".
وأوضح الأشقر أنه على رغم كل الجهود التي بذلت بإقامة الحفلات والمهرجانات في مختلف المناطق، أظهرت الأرقام المسجلة في آخر يوليو (تموز) الماضي "تراجعاً في قطاع المطاعم بنسبة 40 في المئة وفي قطاع الفنادق بنحو 60 في المئة"، معتبراً أن "هذا التراجع قد يكون كارثياً على القطاع لا سيما على صعيد المؤسسات واليد العاملة التي يوظفها، وأيضاً على صعيد الاقتصاد الوطني". كما كشف الأشقر أنه "بعد حادثة مجدل شمس ألغيت 90 في المئة من الحجوزات التي كانت موجودة، علماً أن معظمها كانت لأفراد لبنانيين".
وتوقع رئيس اتحاد النقابات السياحية أن "يشهد القطاع الفندقي بعد موسم الصيف إقفالات كثيرة وصرف عمال".
ما قبل الأزمة وما بعدها
في هذا السياق تبرز المهرجانات الفنية والثقافية المقامة في مختلف الأقضية اللبنانية كمثال على كيفية تأثر القطاع السياحي بالأوضاع الراهنة، وكيفية محاولتها الصمود والتكيف مع التحديات الجديدة، ومن بينها "مهرجانات بيبلوس الدولية".
يشير رئيس لجنة "مهرجانات بيبلوس الدولية" المحامي رافاييل صفير إلى أنه "قبل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان في أواخر 2019، كانت مهرجانات بيبلوس تقيم احتفالاتها الصيفية الكبيرة على المسرح الكبير، إضافة إلى معارض فنية وثقافية. كما كانت هناك احتفالات على المسارح الصغيرة لتقديم الفنانين الناشئين مجاناً للجمهور بأجور غير كبيرة"، لافتاً إلى أن "الفعاليات كانت مستمرة طوال العام، فعلى سبيل المثال في ديسمبر (كانون الأول) 2017 كان هناك حفلة للنجم العالمي توم جونز. ولكن بعد الأزمة وجائحة كورونا تغيرت الأمور بشكل كبير من الناحية المالية والمادية بسبب أزمة المصارف، مما جعل تحويل الأموال بالعملة الأجنبية لجلب الفنانين الأجانب أمراً صعباً. إضافة إلى ذلك ظهرت مشكلات في التأمين والضمان للحفلات، إذ كانت توفر ثلاثة أنواع من التأمين: للورشة، وللمسؤولية المدنية ولضمان حضور الفنان. وهذا العام لم يكن هناك ضمانة لقدوم الفنان بسبب الأخطار المرتبطة بالحرب، وتكاليف التأمين أصبحت باهظة، إذ تتجاوز 250 ألف دولار أميركي".
ويضيف صفير أن "الفنانين العالميين كانوا يأتون إلى لبنان لأن المهرجان كان دولياً، ولكن اليوم لا يوجد وكلاء يمكن التواصل معهم لأن الشرق الأوسط ليس على أجندتهم لهذا العام على حد قولهم، مما دفع المهرجان إلى استضافة حضور عربي مميز هذا العام".
صمود على رغم التحديات
وعن كيفية بقاء "بيبلوس" أو جبيل صامدة، يؤكد صفير أن "المهرجان يتعاون مع نحو 600 إلى 700 شخص ومؤسسة من الأمن والحراس وشركات السفر والفنادق وبيع التذاكر والتحضير، مما يوفر فرص عمل خصوصاً للشباب خلال موسم المهرجان الذي يستمر شهرين"، مشيراً إلى أنه "بعد نهاية الاحتفالات تنشط المطاعم والمقاهي خلال فترة المهرجانات، على رغم أن مساهمتهم ليست بقدر ما كانت عليه سابقاً، إلا أن المبدأ لا يزال موجوداً. اليوم يحضر المهرجان نحو 3 آلاف شخص في أول شهرين من موسم الصيف، بينما كان العدد يصل إلى 10 آلاف في الماضي". واختتم صفير بتوضيح أن "عدد الزوار زاد في العام الماضي، إذ وصل إلى 18 ألفاً مقارنة بـ12 ألفاً في العام الذي سبقه، مما يشير إلى تحسن بطيء ولكنه مستمر" باستثناء الصيف الحالي.
تحديات القطاع السياحي
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها لبنان، يبدو أن القطاع السياحي يعاني بشكل خاص تداعيات الأزمات المتتالية. الأوضاع الجيوسياسية والتهويلات الإعلامية زادت تعقيد الوضع، مما أثر سلباً في حركة السياحة ونسب التشغيل في المؤسسات السياحية لهذا العام.
في هذا الإطار يؤكد رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر أن الأوضاع الجيوسياسية والاضطرابات الأمنية أثرت بشكل كبير في القطاع السياحي في لبنان، مشيراً إلى أن "نسبة التشغيل في أفضل حالاتها قد تصل في بعض المؤسسات في بيروت إلى 40 في المئة، بينما لا تتعدى 10 إلى 15 في المئة خارج بيروت"، معتبراً أن "الوضع سيئ للغاية، إذ تراجعت مداخيل القطاع بنسبة 50 إلى 60 في المئة. فعلى سبيل المثال إذا كانت المداخيل في السنة الماضية 100 ألف دولار، فإنها هذا العام تتراوح بين 40 و50 ألف دولار".
ويضيف الأشقر أن "المطاعم أيضاً تأثرت بشكل كبير، خصوصاً مع افتتاح 70 إلى 80 مطعماً جديداً في الوسط التجاري على حساب المطاعم الأخرى في مناطق العاصمة. أما المطاعم الموجودة في مناطق جبل لبنان والبقاع، فتعمل ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، وهو ما يعادل 40 في المئة من الأيام".
وعن أهمية السياحة الداخلية كبديل لتحسين الأوضاع يلفت الأشقر إلى أن "معظم الزوار إلى لبنان هم اللبنانيون المغتربون، الذين يقيمون في بيوتهم ويقومون ببعض السياحة الداخلية، هؤلاء الزوار يدركون حالة الحرب ويأتون على عكس الأجانب الذين يترددون بسبب الوضع الأمني".
أما التحديات الرئيسة التي تواجه القطاع السياحي اليوم فأبرزها بحسب الأشقر "تكاليف الكهرباء والمياه، التي تشكل 20 إلى 30 في المئة من المصاريف"، مضيفاً أن "عدم وجود نسبة تشغيل عالية يزيد هذه التكاليف، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة". كما يشير الأشقر إلى مشكلة مراكز الضيافة غير الشرعية على غرار تلك المدرجة على المنصات الإلكترونية كـ"أير بي أن بي" (Airbnb)، ويؤكد أن القيمين على القطاع السياحي يعملون مع الدولة والأمن العام لإيجاد ضوابط قانونية لمنع الاحتكار والمضاربة في السوق. وعن التحديات المالية كالتقلبات في العملة يؤكد الأشقر أنه "لا توجد مشكلة في تقلبات العملة، إذ إن التسعير بالدولار الأميركي مسموح، ولكن التضخم العالمي أثر في ارتفاع أسعار المواد الأولية التي تصل إلى لبنان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حلول ومبادرات
وعن المبادرات التي تعمل النقابة على اعتمادها من أجل جذب السياح، يقول الأشقر "نعمل على تدريب أكثر من 100 مؤسسة بالتعاون مع جهات أجنبية لتعليمهم كيفية التسويق لمؤسساتهم. ومع ذلك فإن غياب السياح من دول الخليج العربي، الذين يعتبرون العمود الفقري للسياحة في لبنان، أثر بشكل كبير في القطاع". كما يشير إلى أن "القطاع السياحي يحاول تنظيم رحلات رياضية ومشي في الأحراج، إضافة إلى تنظيم جولات لرؤية الآثار والصناعات الحرفية، ومع ذلك فإن عدد السياح هذا العام منخفض".
التدفقات المالية وتأثيرها
في ظل الأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان منذ عام 2019، يلعب الوافدون سواء كانوا لبنانيين مغتربين أم سياحاً دوراً حيوياً في تحريك العجلة الاقتصادية من خلال الأموال التي يجلبونها معهم، هذه التدفقات المالية تعد واحدة من العوامل القليلة التي تسهم في دعم الاقتصاد اللبناني المتعثر.
ويوضح الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور بلال علامة أن "الوافدين، سواء كانوا لبنانيين أم سياحاً، يسهمون في تحريك العجلة الاقتصادية من خلال الأموال التي يجلبونها معهم من الخارج"، مشيراً إلى أن "هذه الأموال عندما تضخ في الدورة الاقتصادية اللبنانية فإنها تسهم بالتأكيد في تحفيز وزيادة حجم الاقتصاد، وعلى رغم ذلك لا تؤدي هذه التدفقات إلى نمو حقيقي نظراً إلى تدهور الأوضاع منذ عام 2019 حتى الآن".
وعن كيفية انتعاش الميزان التجاري من خلال التدفقات المالية، يشير علامة إلى أنه "كلما زادت التدفقات المالية من الخارج تحسن الوضع من خلال الميزان التجاري"، موضحاً أن "لبنان يستورد 80 في المئة من حاجاته من الخارج، وبالتالي فإن ميزان المدفوعات دائماً ما يكون سلبياً، عندما تأتي التدفقات والتحويلات المالية تخفف تلقائياً من الفارق السلبي لميزان المدفوعات، وإذا ارتفعت هذه التدفقات بشكل كبير فقد تؤدي إلى توازن في ميزان المدفوعات، مما يشير إلى أن لبنان يستطيع الاستفادة من هذه الأموال لتحفيز النمو الإيجابي وإطلاق عجلة تكبير الاقتصاد".
البيانات المالية غير متاحة
وعن البيانات المالية التي تظهر حجم المداخيل في مقابل النفقات والمبالغ المستثمرة في الاقتصاد الوطني، يكشف علامة عن أن "وزارة المالية امتنعت منذ مطلع العام الحالي عن إصدارها والسبب الرئيس هو أن الأرقام الحقيقية تختلف بشكل كبير عن الأرقام التي درست وأقرت في الموازنة"، مشيراً إلى أن "الكشف عن هذه الأرقام قد يؤدي إلى أزمة مالية جديدة، خصوصاً بعد إعلان حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري عدم إقراض الدولة اللبنانية أو تمويل مصاريفها مهما كانت الظروف".
وإذ يؤكد علامة أن "دخول الأموال واستخدامها في القطاعات السياحية والفندقية والترفيهية والمطاعم يسهم بشكل كبير في تنشيط هذه القطاعات التي تعاني الركود والتضخم والانكماش"، غير أنه يوضح أن "استفادة خزانة الدولة ترتبط بالجهات المسجلة بشكل رسمي في هذه القطاعات، الذين يدفعون الضرائب المستحقة عليهم"، لافتاً إلى أنه "للأسف في لبنان نصف المؤسسات تعمل خارج التسجيل الرسمي، مما يؤدي إلى تهربها من دفع الضرائب والمتوجبات للخزانة. إذا استطاعت الدولة إحصاء كل المؤسسات العاملة وإلزامها بالتسجيل ودفع المتوجب عليها، لكانت إيرادات الدولة ارتفعت بشكل كبير".
ويختم علامة بأن "كل هذه الحركة الاقتصادية ظرفية وآنية وغير مخططة، بالتالي لا يمكن للدولة أن تبني عليها سياسات ثابتة ومستدامة، إذ ترتبط هذه التحركات أيضاً بالاستقرار والهدوء على مستوى الوطن اللبناني ككل".