ملخص
لا يوجد إجماع حقيقي حول مكانة رواية نيقوس كازانتزاكيس "الحرية أو الموت" التي صدرت عام 1953 في نتاج الروائي اليوناني، لكن هذا لا يمنع أبداً من الإشارة إلى أنها في مطلق الأحوال، تحتل لديه مكانة متقدمة ولو من ناحية كونه أوصل فيها تجربته الشكلية إلى ذروة ما، ولو هذه المرة على حساب جرأة المضمون
نعرف طبعاً أن الكاتب اليوناني الروائي الكبير نيقوس كازانتزاكيس يبقى وعلى رغم تعدد كتاب مناطق البلقان، الاسم الأكبر بين هؤلاء الكتاب وربما الاسم الذي بكر أكثر من زملائه وأبناء منطقته المبدعين في غزو مكتبات العالم، بل حتى في جعل بعض أدبه جزءاً من تاريخ السينما العالمية، وفي الأقل مرة من خلال الفيلم الكبير الذي حققه مواطنه مايكل كاكويانيس، عن روايته "زوربا"، إذ كان ثمة من حول الفيلم إجماعاً عالمياً كبيراً، واعتبر زوربا نفسه أعظم دور لعبه الممثل الهوليوودي المكسيكي الأصل، أنطوني كوين في مسيرته السينمائية الحافلة، ثم مرة ثانية من خلال الفيلم الذي حققه الكبير مارتن سكورسيزي عن روايته "الإغواء الأخير للسيد المسيح"، فجوبه الفيلم هذه المرة بصخب احتجاجات دينية عنيفة. والفيلمان مأخوذان طبعاً من روايتي كازانتزاكيس اللتين منذ ذينك "الحدثين السينمائيين" حققتا نجاحاً عالمياً كبيراً، نجاح إعجاب لأولهما ونجاح "فضيحة" لثانيهما. إن ذلك لم يؤثر وفي المرتين على مكانة كازانتزاكيس الكبرى في تاريخ الرواية الأوروبية بشكل عام. غير أن الذي حدث في الوقت نفسه هو أن تينك الروايتين احتلتا معاً مكانة طاغية في مسار الكاتب الكبير الأدبي بحيث غطيتا على أعمال أدبية أخرى له، ينظر إليها النقاد والمؤرخون الأكثر تطلباً بكونها أفضل ما كتب على الإطلاق. وتلكم حال رواية كازانتزاكيس المعتبرة الأخيرة من ناحية صدورها بين أعمال هذا الكاتب الكبرى: "الحرية أو الموت" التي صدرت في عام 1953، فترجمت بسرعة إلى لغات عالمية كثيرة منها اللغة العربية في مصر.
ذروة التشكيل
طبعاً لا يمكن القول هنا إن ثمة إجماعاً حقيقياً حول مكانة هذه الرواية في نتاج كازانتزاكيس، لكن هذا لا يمنع أبداً من الإشارة إلى أنها في مطلق الأحوال، تحتل لديه مكانة متقدمة ولو من ناحية كونه أوصل فيها تجربته الشكلية إلى ذروة ما، ولو هذه المرة على حساب جرأة المضمون، حتى وإن كان معظم قرائها، وهم على أية حال من قراء أدب كازانتزاكيس المعتادين الذين يوافقونه من دون تردد على مواقفه السياسية التي كانت تصنفه في خط يساري متشدد حتى الوقت الذي اصطدم فيه بالجمود الستاليني فبات عنيداً في مواقفه متصلباً في عدائه للستالينية. ولا شك في أن هذا الكاتب الكبير عبر في الرواية التي نتناولها هنا عن تصلب في المواقف الوطنية تواكب لديه مع تمسك بتجريبية فنية كان من اللافت أن تطفو على السطح عام ظهور الرواية وهو عام رحيل ستالين نفسه وبدء المرحلة التي سيسميها زميله الروسي المعادي ذات زمن للستالينية إيليا إهرنبرغ، "مرحلة ذوبان الجليد". ومن هنا ستعتبر الرواية نوعاً من الانطلاق في ذلك الذوبان الذي كان في خلفية تقرير الدورة الـ20 للحزب الشيوعي السوفياتي - تقرير خروتشيف - الذي فتح أبواب التحرر أمام الإبداعات الاشتراكية ولو لفترة بسيطة من الزمن نسفها انطلاق الحرب الباردة. غير أن هذا موضوع آخر بالطبع.
كتابة بلا أمل
لقد شرع كازانتزاكيس على أية حال في كتابة "الحرية أو الموت" في عام 1950، وهو لا يأمل كثيراً أول الأمر في أن تأتي متناسبة تماماً مع ما كان يريد لها أن تكون. ففي النهاية يمكن القول إنها في أعماقها رواية أقرب لأن تكون نوعاً من السيرة الذاتية همها استعادة ذكرى والده على خلفية نضالات وطنية يونانية ضد المحتلين العثمانيين عند بدايات القرن الـ20. وهو بعد لم يكن مرحباً به كثيراً إن لم يصب النضال الوطني في بؤرة طبقية من النوع الذي يرحب به المنظر الروسي للأدب الاشتراكي المسيس، جدانوف الذي كان المعبر بكل وضوح عن رغبات ستالين. فبالنسبة إلى هذين كل موقف وطني لا يوصل إلى آفاق طبقية اشتراكية سيعتبر رجعياً ويخدم "الأعداء الطبقيين". ومن هنا كان الكاتب يعرف وهو يشرع في كتابة روايته بعد انتظار وصبر طويلين أنه يجازف بأن يعتبر بالنسبة إلى الرفاق رجعياً. لكنه كتبها وهو لا يدري ما يمكن أن يكونه مآلها، ومن هنا سيعتبر نفسه محظوظاً، إذ تطابق تاريخ إنجازها مع موت ستالين وسيكون محظوظاً كذلك إذ رحل عن عالمنا والعالم الاشتراكي لا يزال يتنفس بعض هواء الحرية الخروشيفية. فهو رحل في عام 1957، ومن هنا تمتعت تلك الرواية بما في ذلك تجريبيتها الشكلية ونزعتها الوطنية المحلية بقدر من الاحترام في اليونان وفي العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكاية عائلية
تدور الرواية من حول البطل الوطني ميخائيل، وهو إلى حد كبير يكاد يكون صورة من والد كازانتزاكي نفسه، وكان نقيباً في القوات المسلحة المحلية في كريت. ولئن كان الكاتب وفي كتاب ذكرياته "تقرير إلى الغريكو" تحدث عن الرجل الحقيقي الكامن وراء هذه الشخصية مسهباً في وصف شخصيته ونضالاته وحتى تصرفاته التي كانت تنشر الرعب حتى في أوساط عائلته. فإنه في الرواية يجعله قائداً لثورتين كريتيتين اندلعتا ضد الأتراك في عامي 1880 و1989. غير أن ميخائيل ليس مجرد بطل وطني، بل هو جعل من نفسه خلال الأحداث جميعها نوعاً من عقبة كأداء تقف في وجه كل من يتصدى لتحرر الناس في تلك المنطقة من العالم وليس فقط من ربقة المحتل التركي، بل كذلك وخصوصاً في وجه تحررهم من مخاوفهم الخاصة بقدر ما إن المحتل العثماني هو العدو الأول فإنه لا يزيد شراسة عن الخوف الذي يماثله في عدائه للبشر. وهكذا حين تندلع الثورة سيكون ميخائيل أول المشاركين فيها جاراً وراءه الخائفين والمترددين. لكنه سيكون من ناحية أخرى آخر الذين سيموتون على يد العدو، لا خوفاً كما يحدث لكثر من الآخرين، سيموت من جراء رفضه لأية مساومة ولأي إذعان سواء نصح به من رفاقه أو أمر به من العدو.
الموت والحرية
ومن هنا أمام اختلال بين في توازن القوى، كان لا بد لميخائيل الرافض لأية تسوية مع العدو مفضلاً الموت على الإذعان، أن ينتهي به الأمر إلى الموت في الملاذ الأخير الذي لجأ إليه مع حفنة من رفاقه الأكثر إخلاصاً له. مات وسلاحه في يده وهو محاط بجمهرة من الثائرين الآخرين من عمال ورجال دين وفنانين ومزارعين ولصوص وكل أنواع البشر بكل أنواع المهن وضروب الإرادة وقد جمعتهم معاً إرادة واحدة تقوم على اتباع ميخائيل في عدم الإذعان وعدم قبول مبدأ الاستسلام بأية حال من الأحوال، ففي الموت كما كان قال ذات لحظة، حرية تفوق ألف مرة ما قد يعدهم به العدو وما يوصلهم إليه الإستسلام. والحال أن ما يمكن استخلاصه هنا، الذي كان يمكن للجدانوفية أن تلوم كازانتزاكيس عليه إنما كان دفاعه الأخلاقي عن قيم النبل القديمة التي ورثها ميخائيل عن جده العجوز سيفاكاس، وخلاصتها أن كرامة الإنسان تعلو على أي شيء آخر، والموت أشرف من الحياة من دون كرامة. من دون أن يغيب عن بالنا أن الكاتب يستعيد هنا ما كان عبر عنها باكراً منذ روايته الأولى "الزهد" (1927) من أن الزهد بصغائر العيش هو القيمة الأسمى في هذا العيش بالنظر إلى أن ثمة فضيلة واحدة أسمى منه هي أن النضال في سبيل الحرية هو الشيء الوحيد الذي يسمو على الحرية في هذا الكون".
ونبقوس كازانتزاكيس (1883 – 1857) ولد في جزيرة كريت وعاش حياته ومارس النضال السياسي والكتابة والسجالات الفكرية وكتب عدداً جيداً من روايات كبرى ليطلب في نهاية الأمر أن تحفر على شاهدة قبره العبارات التالية: "أنا لست آمل شيئاً، أنا لا أخاف شيئاً، أنا إنسان حر". ولقد درس كاتبنا هذا الفلسفة في باريس ودرس على هنري برغسون، لكنه اهتم أكثر ما اهتم بفلسفة نيتشه التي تعمق فيها، بل جعل من الشخصية المحورية في روايته الأشهر "زوربا" شخصية نيتشوية. علماً أن أطروحة تخرجه كانت عن نيتشه وفلسفته.