Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غازي العلي كتب كوميديا سورية وطنية ورحل

"مرسيدس سوداء لا تخطئها العين" رواية السخرية المريرة

لوحة للرسام السوري إسماعيل نصرة (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"مرسيدس سوداء لا تخطئها العين: كوميديا وطنية" رواية للكاتب السوري غازي العلي صدرت سنة رحيله عام 2022 وفيها يتناول بأسلوب ساخر أحوال المجتمع وما فوقه وما تحته.

في الـ17 من يونيو (حزيران) عام 2012، أي بعد سنة وثلاثة أشهر من الحرب السورية (ولمن شاء: الانتفاضة/ الثورة/ الحراك/ الحرب/ المؤامرة الكونية...) استقال ثلاثة من أعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب (السوري) هم: الشاعر إبراهيم الجرادي (1951 – 2018) والأكاديمي قاسم مقداد والروائي غازي العلي (1958 – 2022). وجاء في كتاب استقالة الثلاثة: "لم نعد قادرين على الاستمرار في لعب دور شهود زور في منظمة مشلولة وعاجزة ومفسدة". وبعد أشهر استقال غازي العلي من عمله سنوات مشرفاً على الملحق الثقافي لصحيفة "الثورة" الدمشقية، وتفرغ للكتابة. وفي عام 2014 صدرت له رواية "ليلة الإمبراطور"، لكن الكاتب ذيلها بتاريخ كتابتها: "2010 – 2011". ولأننا كنا صديقين حميمين، وواحدنا يعرف مشاريع الآخر الكتابية، فقد كنت أعرف أن هذا التأريخ من قبيل التقية، ففي الرواية يهدر الهتاف الساخر "الشعب يريد إسقاط العماد ابن عم سعاد"، على وزن "الشعب يريد إسقاط النظام". وهذا الضابط ذو الرتبة الرفيعة (العماد) الذي عاث في البلاد واحد من شخصيات الرواية التي تجعله مهزأة.

سنة رحيل غازي العلي فازت روايته "مرسيدس سوداء لا تخطئها العين: كوميديا وطنية" بجائزة كتارا فئة الروايات غير المنشورة 2020. ولا تعين الرواية فضاءها عملاً باستراتيجية اللاتعيين، وإن كانت المؤشرات إلى سوريا بعد 2011 وفيرة وشفافة، كي لا أقول، صريحة، وتخاطب أيضاً بلدان ما كان يعرف بالربيع العربي. فالرواية تسمي القرية التي تبدأ منها، عين تورين، لكنها لا تعين المدينة ولا العاصمة اللتين ستقع فيهما أحداث روائية كبيرة.

في مدرسة الحكمة في عين تورين يطلب المعلم سعد البطين من أربعة تلاميذ أن يتحدث كل منهم في مادة التعبير عن أغرب حلم رآه في لياليه الأخيرة. وقد جاء في حلم أحدهم أنه غدا موظفاً في البلدية، وقبل رشوة صغيرة كهدية، فافتضح أمره، وسيق إلى المحكمة الاقتصادية – وهذه خصيصة سورية – وحكم عليه بالإعدام شنقاً، إذ اتهمه القاضي بالفساد "وأنني سبب سوء الاقتصاد والعوز الذي يعانيه العباد". وليس يخفى أن الحلم أكبر من التلميذ، ومثله هتاف تلميذ آخر "عاش المتهم ولتسقط المحكمة الاقتصادية".

يفجر حلم التلميذ ربيع الشاطر أحداث الرواية، إذ حلم أنه وسط جموع غفيرة، وهو على كتفي أحدهم يهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام" والجموع تردد الهتاف.

أثار حلم التلميذ قلق المعلم، وهو المثال في الانضباط، والرفيق الحزبي – أي حزب؟ وفي أي دولة؟ - مشهود له بالالتزام الدقيق بالواجبات الوطنية كالمسيرات – وهذه أيضاً خصيصة سورية ثانية، كمنصب أمين الفرقة الحزبية. والمعلم سعد البطين موضع ثقة القيادة الحزبية، ويوصف بالرفيق المتفاني في سبيل رفعة الحزب والوطن.

المعلم والتلميذ

قرر المعلم التكتم على حلم التلميذ، لكن القرار زاده قلقاً في البيت، وأخذ يضع السيناريوهات لغده، كأن يضيف إلى حلم التلميذ أن النظام تصدى لمن يهتفون، وقتل منهم خلقاً كثيراً. وفي سيناريو آخر: سيتهمه مدير المدرسة بالإهمال وعدم الإحساس بالمسؤولية. وفي الغداة أبلغ المدير خميس المفتي بالواقعة، فقرعه وأسرع إلى المدينة حيث ياسين بعزق مدير التربية وأمين شعبتها الحزبية، وهذا المنصب الحزبي خصيصة سورية ثالثة، فأصيب بعزق بجلطة جديدة، ونقل إلى مستشفى متخصص في أزمات قلوب المسؤولين بخاصة. وأخذ يضع الافتراضات على غرار سيناريوهات المعلم سعد البطين: سينقل هو الواقعة إلى الوزير، وسيهمس أحدهم في أذن الوزير أن هذا الكائن الرخو مثل بزاقة ياسين بعزق من أصول إقطاعية على رأسمالية على إمبريالية. وسيهمس آخر للوزير أن بعزق مرتبط بمؤامرة للإساءة للوزير أمام السيد الرئيس. وقد يجعله الهمس جاسوساً زرعته الاستخبارات المركزية الأميركية. وفيما يرى النائم رأى بعزق أنه قد قبض عليه بتهمة تزوير شهادته الجامعية.

قدم بعزق إلى صديقه رئيس فرع الأمن في المدينة تقريراً بحلم التلميذ، وقصد العاصمة بسيارته المرسيدس السوداء ليقابل الوزير. وعملاً بوصية زوجته حمل ساعة يد نسائية من الذهب الخالص هدية إلى زوجة الوزير. وفي هذه السانحة الروائية للفساد، يخبر السارد أن زوجة بعزق مثل معظم زوجات المسؤولين وضعت تسعيرة خاصة للرشى، وذلك بتحويل الهدايا العينية – كالساعة الذهبية – إلى أرقام، إلى تسعيرة مادية، حتى وقعت فضيحة في مديرية التربية، حين تسربت أسئلة مادة الرياضيات قبل اختبار الشهادة الثانوية. وقد قاد الصحافي أسعد عدس الحملة ضد زوجة المدير، لكنه بعد زيارتها خرج مقتنعاً ببراءتها! وفي سانحة سابقة عندما قصد مدير المدرسة خميس المفتي المدينة ليخبر مدير التربية، سأله مسافر في الحافلة عن آخر أخبار حملة مكافحة الفساد التي أعلنت الحكومة عنها، فأجاب خميس: "اطمئنوا. مصادري الخاصة نقلت لي أن القيادة بدأت تضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه سرقة قوت الشعب".

أما الوزير حميد عربش فكان قد ابتسم لبعزق ذات لقاء، فقال إنه يعد محاضرة قيمة سيكون عنوانها "الابتسامة الذهبية ومفاعيلها الوطنية"، يرصد فيها تأثير ابتسامة الوزير على دورة الإنتاج الوطني. وحين نقل بعزق إلى الوزير واقعة حلم ربيع الشاطر، طلب لقاءً عاجلاً بالرئيس بعد أن طرد بعزق. ثم أسرع إلى وزير الداخلية في مزرعته مستنجداً، فنفض الرجل يده. وبدأت الاتصالات تتوالى على عربش من مكتب اللواء رئيس الفرع 555، وصنوه في الفرع 777، وصنوه في الفرع 999، والسؤال واحد من الجميع عن موضوع اللقاء المطلوب مع الرئيس، لكن الوزير عربش كرر الاعتذار عن أي جواب. وشكل طلبه لقاء الرئيس ضربة قاصمة لرؤساء الفروع الأمنية، فعقدوا اجتماعاً عاجلاً لن يسفر عن أمر، بينما رأى الوزير فيما يرى النائم أن الرئيس كلف جمعية أرباب الشعائر الوطنية باختراع جهاز جديد لاختبار "الحمل الوطني"، يكشف من المسؤولين حمله الوطني صادق أو كاذب. وقد وضعت الجمعية معايير تفضيلية ودقيقة لأشهر الحمل عند كل مسؤول. وحددت عقوبة الحمل الكاذب للفئة الضالة من المسؤولين بستة أشهر يقضيها في معسكر وطني للدروس الخاصة في حب الوطن والإخلاص لسيادته، ثم يأتي اختبار جديد، فمن يظل حمله كاذباً يحال إلى الجهات المتخصصة لينال العقاب المناسب. وقد تمنى الوزير حميد عربش من شدة قهره، أن يصح حلمه بالجهاز العجيب ليصيح: "أرجوكم هذا دمي، افحصوه، فأنا حامل في شهري التاسع، وعلى وشك الولادة".

مرسيدس سوداء

نقلت سيارة مرسيدس سوداء الوزير إلى لقاء الرئيس. وكان الوزير قد سبق له أن أسر إلى بعض الوزراء وبعض مساعديه بأنه بصدد وضع كتاب ضخم للأقوال المأثورة للسيد الرئيس. وأثنى الرئيس على المبادرة، ورآها مشروعاً وطنياً مهماً.

في القصر الرئاسي أخذت أمعاء الوزير تتقلص. وعندما قرر أن يقصد المرحاض جاءه مدير المكتب يدعوه إلى الدخول. وفي لحظة دخوله أحس بارتخاء في أطرافه، وبسخونة تنزلق من وسطه، فصاح: "لقد انتهيت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالنسبة إلى المعلم سعد البطين ذي القامة الممصوصة، والذي كان يبدو "متماهياً مع أناقته المفرطة" أوقعه خوفه في الهلوسة، وحلم بعبدالرحمن الكواكبي يقول إنه لا يزال مطلوباً على الحواجز الأمنية والنقاط الحدودية، وهو ينتقل منذ زمن من بلد إلى آخر بأسماء مستعارة وجوازات سفر مزورة. وكان شقيق زوجة المعلم البطين، وهو طالب في كلية الهندسة، قد اختفى منذ اعتقاله قبل سبع سنوات. ويتكئ السارد على ذلك ليستعرض أفانين التعذيب معتمداً على كتاب "التعذيب عبر العصور" تأليف بيرنهاردت هروود وترجمة ممدوح عدوان، وكنت قد نشرت هذه الترجمة في دار الحوار في اللاذقية سنة 1984.

في خاتمة الرواية التي جاءت تحت عنوان "ربيع الشاطر يتكور مثل غمامة" أن الرئيس طلب صاحب الحلم. وقيل إن حرم سيادته دأبت على دعوة الأطفال المتفوقين إلى القصر لقضاء أيام مع أطفالها. وقد حققت اللجنة الأمنية في القصر مع التلميذ الذي هتف بحياة الرئيس، فقررت اللجنة أن قيادة التلميذ ربيع الشاطر لتظاهرة إسقاط النظام مجرد سوء فهم من المعلم سعد البطين ومدير المدرسة خميس ومدير التربية بعزق والوزير عربش، لذلك برأت لجنة التحقيق التلميذ. وفي ملحق تقرير اللجنة أن الوزير صار في مستشفى الأمراض العصبية والنفسية، ومدير التربية مات، ومدير المدرسة أصابه شلل نصفي.

يلف الغموض مصير التلميذ ربيع الذي اختفى، فقيل إن الرئيس أرسله في بعثة إلى الخارج. وقيل إن حرم الرئيس طلبت من والدي ربيع أن يعيش مع أسرتها. وقيل إن امرأة حلمت "أن ربيع الشاطر تكور مثل غيمة وهو في الطريق إلى القصر، وأن ريحاً عاتية حملته إلى بلاد الواق واق، وأن أهل تلك البلاد البعيدة أحبوه حباً جماً ما بعده حب، وتوجوه ملكاً عليهم".

أقام غازي العلي روايته على السخرية السياسية التي يصح فيها القول "شر البلية ما يضحك". وأساليب هذه السخرية توزعت ما بين المبالغات، والنقائص، والمفارقات. وإذا كان منها ما يذكر أحياناً بمسرح الشوك الذي أسسه عمر حجو واشتهر بفضله مع دريد لحام، وكذلك بما كانت توصف به من "التنفيس" مسرحية سعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" التي أخرجها علاء الدين كوكش، فما يسجل لهذه الكوميديا الوطنية "مرسيدس سوداء لا تخطئها العين" هو ما حققت من السخرية الروائية التي تشكو الندرة والاستعلاء عليها من الكتاب والقراء معاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة