ملخص
فجأة توقفت حركة التعليق على مقترحات الإعلامي تامر أمين عن الثانوية العامة وشد الغاضبين وجذب المؤيدين و"ميمز" الساخرين وما زالت متوقفة، فقد أعلنت وزارة التربية والتعليم عن النهج الجديد لنظام الثانوية العامة.
مرة أخرى يحرز الإعلامي المصري تامر أمين هدفاً "نظيفاً" في مرمى الإثارة الشعبية والإهاجة الافتراضية والحرارة الإعلامية. فلم تترك كلماته بيتاً إلا دهمته وأثيراً إلا وهيمنت عليه ومنصة إعلامية رصينة أو نصف رصينة إلا وكانت الأكثر قراءة ومشاهدة ومتابعة وتعليقاً.
سجل أمين الحديث يحوي حفنة من الإثارة الإعلامية التي انتقلت من أثير الإعلام الكلاسيكي المحدود إلى فضاءات الـ"سوشيال ميديا" ليصبح ترنداً وهاشتاغاً والأكثر مشاهدة غير مرة. مرة على وقع ما قاله من أن "الصعايدة ينجبون الأطفال ليشتغلوا خدامين"، ومرة لهجومه الشرس على الراقصات والرقص الشرقي"، ومرة لانتقاده لاعبي كرة القدم الذين يتقاضون ملايين بلا نتيجة أو أداء، ومرات ضد الفنانين والفنانات.
إلغاء ما لا يلزم
تامر أمين طالب بإلغاء عدد من المواد الدراسية في مرحلة الدراسة الثانوية وهي المواد "التي لا لزوم لها" و"لا مجال لاستفادة الطلاب منها"، وهذه المواد – بحسب ما حددها أمين- هي التاريخ والجغرافيا والفلسفة، قائلاً "إيه لازمة (ما لزوم) واستفادة الطلاب من دراسة هذه المواد؟" هكذا تساءل مستنكراً ومطالباً باقتصار تدريس هذه المواد "التي لا لزوم لها" على مرحلتي التعليم الابتدائية والإعدادية.
خطة أمين للمواد الدراسية جاءت كاملة متكاملة، إذ يجرى إلغاء التاريخ والجغرافيا والفلسفة ويتم تدريس مواد أخرى يستفيد منها الطلاب في سوق العمل المصري كثيراً، مثل التسويق وعلوم الاتصال والتنمية البشرية.
مقترح أمين حاز قدراً رهيباً من النعوت بين لوذعي وألمعي ورهيب ومهيب وغير مسبوق وأرعن وأهوج وأحمق وسخيف وطائش وأخرق، وكذلك عجيب وغريب ومريب ودخيل، واتفق الفرقاء على أن المقترح بالفعل "غير مسبوق" وإن ظل تعريف ذلك يختلف من فريق إلى آخر بحسب الرؤية والنظرة والقدرة أو عدمها على هضم ما قال.
عمليات الهضم – لا سيما في حالات العسر - تحتاج أحياناً إلى تدخلات خارجية سواء بالدواء أو معالجة الداء. داء الاحتقار أو النظرة الدونية لكل ما يتعلق بالدراسات الأدبية والإنسانية والاجتماعية في مقابل تبجيل وتعظيم كل ما يتصل بالدراسات العلمية وبخاصة الطب والهندسة. هو داء مزمن قديم قدم فصل التخصصات بين أدبي وعلمي.
قائمة الفصل والتقييم والتوصيف بناء على التخصص تعد الأدبي للفتيات، والفاشلين والفاشلات من غير القادرين على العمل الدؤوب والتحصيل العميق والراغبين في الحصول على ورقة يسمونها شهادة هي أقرب ما تكون إلى شهادة محو الأمية، لكنها تضمن حصول صاحبها على لقب "خريج جامعي" حتى وإن كان "لا لزوم له" و"لا لزوم لما درس".
أما العلمي خصوصاً الطب بأنواعه والهندسة بتخصصاتها فيعدها المجتمع الباب الملكي للعبور صوب لقبي "دكتور" و"باشمهندس"، والضمان الأكيد لصعود سلم الترقي الاجتماعي والمادي وتوديع الفقر والتدني الطبقي، والتفاخر بأنه صار في العائلة "دكتور" وأصبح لديها "باشمهندس".
علم الصوتيات والقيمة
تامر أمين في حملته النارية على الجغرافيا والفلسفة والتاريخ قال مناشداً وزير التربية والتعليم والتعليم الفني محمد عبداللطيف الذي سبق أمين في إثارة الجدل وتأجيج الشارع والأثير بسبب درجاته العلمية وسيرته الذاتية قبل أسابيع قليلة، أضاف مؤكداً فكرته "كفاية (كفى) تاريخ وفلسفة، خلوا (دعوا) الطالب يعرف مستقبله".
الحملة الشعواء التي شنها أمين فتحت شهية بعض المتابعين للتنقيب عن أسباب دراسة التاريخ في دول الكوكب، واتضح أن الدول التي تحتل مكانة الصدارة في أنظمة التعليم ونوعية الخريجين وكفاءة المهارات والمعارف معاً تدرس التاريخ في المدارس لأن التاريخ ليس الماضي، بل هو ما يساعد البشر على فهم كيف أدى الماضي إلى جعل الأمور على ما هي عليه اليوم، حين يتعلم الناس عن أمس وأول من أمس فإنهم لا يتعلمون عن أنفسهم وكيف وصلت البشرية إلى ما وصلت عليه اليوم من خير أو شر، أو سلام أو حرب، أو خليط من كل ما سبق، ولكن ذلك يساعد على إثراء العقول وصقلها بالقدرة على تجنب أخطاء الماضي وخلق مسارات أفضل في المستقبل داخل المجتمعات وبين الدول وبعضها بعضاً.
الكاتب والإعلامي محمد الدسوقي رشدي كتب على صفحته مدهوشاً ومستنكراً "يتكلم (تامر أمين) عن عدم أهمية دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة في أكثر وقت العالم مشتعل فيه بسبب التاريخ والجغرافيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكاتبة والأديبة وأستاذة اللغة الإنجليزية عزة هيكل سردت المواد المقررة على قسم اللغة الإنجليزية والتي تشتمل على اللغة العربية والحضارة وعلم الصوتيات ومهارات التواصل والأدب والمحادثة والرواية والمسرح والشعر وغيرها، ثم كتبت "كلية الآداب اسمها Faculty of Arts أي كلية الفنون والآداب. هذه كليات اللغات التي تخرج فيها الأستاذ تامر أمين (كلية الألسن)، ولي الشرف والفخر أن أكون خريجة كلية الآداب قسم لغة إنجليزية وأستاذة تامر أمين في كلية الألسن".
الطريف أن أمين قرأ الانفجار بينما يتفوه بأفكاره. قال ضمن ما قال "أنا خريج كلية ألسن قسم لغة إنجليزية، وكنت أدرس مادة تدعى الصوتيات لتعلم كيفية نطق الحروف بطريقة صحيحة، والحقيقة أنني لم أستفد شيئاً منها منذ يوم تخرجي حتى اليوم. وكل ما خرجت به هو أنني أتحدث الإنجليزية جيداً ومخارج ألفاظي جيدة. وهذا يمكن أن يحدث لو ذهبت إلى المعهد البريطاني (لتعليم اللغة الإنجليزية) وأخذت كورسات (دورات) لمدة شهرين أو ثلاثة".
واستطرد أمين في شرح نظريته عن دارسة اللغات قائلاً "اللغات حالياً يا جماعة تدرس على النت. تأخذ كورس شهرين على النت وخلاص. الإنجليزية في شهرين والإيطالية في ثلاثة أشهر واليابانية والصينية في ستة أشهر".
أمين وجيوش المدرسين
أما مادة التاريخ في ضوء الرؤية الثاقبة نفسها التي قدمها أمين في برنامجه على شاشة قناة "النهار" فتنتهي في الصف الثالث الإعدادي، مؤكداً "الطالب محتاج يعرف تاريخه حتى الصف الثالث الإعدادي. هذا يكفي جداً. يدرس الحضارة المصرية القديمة والهكسوس وأحمس وصلاح الدين الأيوبي، كل هذا في مرحلة التأسيس والطالب صغير، أما في المرحلة الثانوية فيتم تجهيزه لسوق العمل".
وكأن أمين يقرأ ردود فعل بعض الغاضبين إذ يقول "ستقول يا نهار أسود! أنت لا تريده (الطالب) أن يدرس تاريخ. بلاش والنبي (دعكم من) هذه الشعارات. خلونا في اللي بيأكل عيش، واللي يجيب تقدم".
بالطبع لا تعد هذه الرؤية تدريس الجغرافيا أو التاريخ وبالطبع الفلسفة "أكل عيش"، لذلك قال "لو الطالب درس فلسفة وأكمل دراسته في كلية آداب قسم فلسفة، فهذا على عيني ورأسي، لكن هل لدينا وظيفة اسمها فيلسوف؟ آخره يكون مدرس فلسفة".
جيوش جرارة من مدرسي الفلسفة وبالطبع التاريخ والجغرافيا إضافة إلى بقية المواد الأخرى سواء المهددة بالإلغاء أو الباقية بحكم "التفوق الاجتماعي" و"الفوقية المفروضة" للمواد العلمية على حساب الأدبية، أصيبوا بصدمة أفقدت بعضهم القدرة على الرد الآني. وظائفهم المهددة في المدارس ودروسهم الخصوصية التي وضعت بعضهم في مصاف الأثرياء جداً ونصف الأثرياء، وحلم الباقين ليلتحقوا بهم صارت في الهواء. معظمهم التزم الصمت على أمل أن تكون المسألة زوبعة في برنامج أو "ترند" على الأثير أو هبة لتحريك مياه الشعب الراكدة أو لصرفها بعيداً من التفكير في لقمة العيش وسعر الدولار وهجمة أسعار البنزين والسجائر والدواجن والبطاطا، وتذهب إلى حالها حين يحين موعد الـ"ترند" أو التغييب أو الإلهاء المقبل.
كراهية العلوم الإنسانية
لكن ما قاله أمين كان أخطر من ذلك. المتخصص في مجال العلوم السياسية ومستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية عمرو الشوبكي كتب على صفحته متعجباً من دون أن يذكر أمين بصورة مباشرة "لا يمكن أن تجد في أميركا وأوروبا أو في الصين أو روسيا أو جنوب أفريقيا أو البرازيل أو تركيا أو إيران أو المغرب من يقول لك إن الجغرافيا والتاريخ والفلسفة غير مهمة وغير مفيدة. كل هذه الدول مختلفة في نظمها السياسية، وفيها المتقدم والساعي إلى التقدم لكنها أجمعت على أن العلم بفروعه المختلفة شرط لأي تقدم، وأن تجهيل الناس وكراهية العلم يضران بالنظم القائمة قبل المجتمع. العلوم الإنسانية ليست في خناقة مع العلوم الطبيعية. هما مساران متكاملان ولا توجد أمة متقدمة أو راغبة في التقدم صناعياً وتكنولوجياً وطبياً كرهت العلوم الإنسانية وهمشتها، والعكس صحيح".
اللافت أن آلاف وربما ملايين التعليقات من أشخاص عاديين تواترت على شتى منصات الـ"سوشيال ميديا" تعلن اعتراضها وامتعاضها مما قاله أمين. حازت تغريدة كتبتها مواطنة مصرية على آلاف الـ"لايك" و"الشير" من دون سابق معرفة. "تخيل مصر من دون طه حسين والعقاد وسليم حسن ولويس عوض ونجيب محفوظ وجمال حمدان وإحسان عبدالقدوس وحسن فتحي، الذي كان مهندساً لكنه دارس للتاريخ والاجتماع، وصلاح جاهين وفؤاد حداد ويوسف إدريس".
وكتبت أخرى "ما قاله تامر أمين عن عدم أهمية دراسة التاريخ والجغرافيا واللغات يناسب جداً المرحلة التي يتم فيها هدم الأماكن الأثرية وقطع الأشجار، المرحلة التي يحتل فيها تافهو الـ(تيك توك) والـ(فود بلوغرز) وفنانو الفضائح الصدارة".
وكتب المتخصص في دراسات السكان والهجرة أيمن زهري "العلوم الاجتماعية هي الـ(سوفت وير) والعلوم التطبيقية هي الـ(هارد وير). لا يمكن للدنيا أن تمشي بواحدة من دون الأخرى".
وقال الكاتب الصحافي شريف عبدالباقي إن "الجغرافيا هي التي صنعت التاريخ".
تعليقات جادة وأخرى خبيثة
جاءت التعليقات الجادة أكثر من أن تعد أو يتم حصرها في فكرة واحدة، لكن بعضها أجمع على أن ما يطلبه أمين هو صورة من صور الانتحار المعرفي لشعب بأكمله أو القضاء على ما تبقى من جوانب إنسانية واجتماعية ومعرفية تتعلق بالأدب والتاريخ والجغرافيا، وجميعها يعاني نقصاً لا سيما بين الأجيال الشابة.
جانب آخر من ردود الفعل الجادة جاء مؤيداً لـ"مقترحات" أمين ولكن من باب "الخلاص من صداع مذاكرة هذه المواد". وكما هو متوقع فإن الغالبية المطلقة من هذا الفريق جاءت من المجتمع الطلابي أو حديثي التخرج ممن اضطروا إلى التخصص في مجالات اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا أو الفلسفة على رغم عنهم، فجاءت المحصلة صادمة في مستوياتهم العلمية وفرصهم التوظيفية.
خبثاء وأشرار – على حد وصف البعض - التقطوا خيط المؤامرة الكلاسيكي والمخططات المزمنة في رؤية أمين الأكاديمية ونظريته الدراسية، فهرعوا إلى الربط بين مكونات رؤيته من جهة وما يأخذونه على توجهات حكومية وسياسية بعينها. وكتب أحدهم "تامر أمين لا يتحرك من نفسه هو ينفذ مخطط إفقاد الهوية وضياع المعرفة وتفاهة الأجيال المقبلة واقتصار معارفها على الألعاب الإلكترونية ومؤثري الـ(تيك توك) ونصابي التنمية البشرية وطباخي غرف النوم. هو أو هم يريدون أجيالاً تافهة ولا يريدون وجع دماغ".
سار فريق المؤامرة على النهج نفسه فاعتبر أحدهم مقترحات أمين مناسبة تماماً لـ"النهضة الأسمنتية والتقدم العقاري إذ لا حاجة إلى تاريخ أو جغرافيا أو فلسفة". ورأى آخر في الرؤية "استكمالاً للمرحلة الرمادية التي يعيشها الجميع والفترة الهبابية التي يعانيها كل من ابتلي بشخص واحد في الأقل بالعملية التعليمية". وغرد آخر "تامر أمين لو عرف أن هناك مجالاً أكاديمياً اسمه أنثروبولوجيا فسيموت". وكتب أحدهم "ولماذا يدرس الطالب تفاضل وتكامل على رغم أن الكمال لله وحده؟".
وتوالت "ميمز" اجتهد البعض في تصميمها للسخرية من المقترح، بين مستعين بمقاطع من فيلم "الناصر صلاح الدين" ومستنسخ لصور من فيلم "اللمبي" ومستخدم لتقنيات من الذكاء الاصطناعي إذ اختلط جد المقترح بهزل المعنى.
هكذا سكت الجميع
وفجأة توقفت حركة التعليق وشد الغاضبين وجذب المؤيدين و"ميمز" الساخرين وما زالت متوقفة. فقد أعلن وزير التربية والتعليم والتعليم الفني محمد عبداللطيف عن النظام الجديد لنظام الثانوية العامة. وأبرز ما جاء في النظام هو إلغاء مادة الجغرافيا لطلاب الصف الأول الثانوي على أن تصبح مادة من مواد التخصص لطلاب الشعبة الأدبية في الصف الثالث الثانوي. كما أصبحت مادة اللغة الثانية مادة نجاح أو رسوب بلا درجات ولا تؤثر في المجموع. ويدرس طلاب الصف الأول الثانوي ست مواد في العام الدراسي الجديد بدلاً من 10 تمت دراستها خلال الأعوام الدراسية الماضية.
هنا، سكت المجتمع قليلاً. وسادت منصات الـ"سوشيال ميديا" صدمة أصابت الملايين بشلل تدويني موقت بكل تأكيد. جميع الفرق تستعد للجولة المقبلة من الهجوم والتعبير عن الصدمة والتأييد والمعارضة والاتهام والاتهام المضاد، ولكن بعد فك لوغاريتمات نظام الثانوية العامة الجديد والمفاجئ، الذي أثبت أن ما تحدث عنه تامر أمين لم يكن رؤية، بل واقع.