ملخص
دير الزور أكثر المدن المتضررة ليس من النزاع الأهلي، بل من نزاع دولي، إذ تحولت إلى ساحة للصراع على النفوذ لسنوات، ليس لشيء بل لأنها المدينة الغنية بالنفط والغاز ومن جهة لمركزها الحساس كجسر للتمدد الإيراني.
لا يغيب عن السوريين، ولا سيما أهل دير الزور، ما حدث في أوائل مايو (أيار) عام 2013 حين انهار جسر مدينتهم المعلق بين ضفتي نهر الفرات المخترق لأراضيهم. جسر بني في ثلاثينيات القرن الماضي، لكنه تهاوى وقتها أرضاً لتغمره مياه النهر، وتهاوت معه أرجاء المدينة الصحراوية، وكأنما أصابها لعنة حين انسلت منها الروح والنبض وباتت ذات شوارع وأبنية منكوبة بعد ما عاشت صراعاً محموماً ما زال دائراً في مكان لا تزال رائحة البارود والنفط والغاز تفوح منه.
لا يعلم جيل الحرب السورية ممن ولد وتربى بعد اندلاعها عام 2011 كم كان للجسر المعلق من ذكريات لدى "الديريين"، فلا يخلو منزل من صورة جدارية تذكارية التقطت لأصحاب البيت معه، لما لا وهو رمز مدينتهم وعزتهم، والمكان المألوف لذكرياتهم ومطرحاً لنزهاتهم المشوقة، وموطئاً لكل سباح ومغامر يمارس هواية السباحة من أعلى الجسر الشاهق، ولكل عروس لا بد أن تسير فوقه أو إلى جانبه.
مع سقوط الجسر جراء اشتباكات عنيفة وتقطع الحبال المعدنية وتصدع حوامله البيتونية، أنهت "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" الإرهابيين من بعدها حياة جسر الدير لتقطع آخر شعرة تصل بين ضفتي الفرات. أنهى التنظيمان الإرهابيان الجسر المعلق ومعه كل الجسور التي تربط منطقة الجزيرة بباقي المدن السورية، إذ فجرت كلاً من جسري الباغوز والسويعية في مدينة البوكمال في ريف دير الزور، وجسري الرقة القديم والجديد، وجسري الكالطة والعبارة والمغلفة في قرية معدان في الرقة.
وإن أراد حينها "داعش" منذ نشأته عام 2014 من تقطيع أوصال المدن على مساحة تجاوزت 600 كيلومتر بين ضفتي النهر فإن المنطقة بأكملها عاشت أكثر المعارك الضارية حتى سقوط التنظيم الإرهابي عام 2019 في منطقة الباغوز في ريف دير الزور الشرقي، شرق سوريا، وتقسمت من بعدها الدير مدينة وريفاً إلى مناطق نفوذ متناحرة، بين فصائل محلية وأهلية منها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومن جهة ثانية الجيش النظامي والفصائل الموالية لإيران، مع حضور أميركي يتزعم قوات التحالف الدولي لمحاربة "داعش".
صراعات ونفوذ
في غضون ذلك ما زالت ترزح دير الزور الواقعة على بعد 450 كيلومتراً شمال شرقي العاصمة دمشق، تحت وطأة صراع قاسٍ منذ عام 2013 ولم تهدأ خطوط التماس بها منذ اشتعال الاحتجاجات الشعبية عام 2011 حتى سيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة عليها إلى أن عاشت صراعات وسيطرة تنظيمات إرهابية من أبرزها "داعش" وبعدها دخول الجيش النظامي وسيطرته على المدينة عام 2017 بمساندة ومساعدة الحليفين الروسي والإيراني، ثم تمكن التحالف الدولي من إنهاء آخر معاقل تنظيم "داعش" عام 2019 في قرية الباغوز بريف دير الزور الشرقي.
واقع الحال اليوم يشير إلى انقسام المدينة وريفها إلى مناطق متنازعة تحكم قوات سوريا الديمقراطية (تحالف عسكري مؤلف من فصائل كردية وعربية ومكونات عرقية ودينية متعددة وتشكل وحدات الحماية الكردية عمودها الفقري) على نصف المحافظة، وتتركز على الضفة الشرقية لنهر الفرات، إضافة إلى سيطرتها على أجزاء من محافظات الرقة والحسكة وحلب بـ25,64 في المئة من الجغرافية السورية.
وفي حين تسعى القوات الكردية المقاتلة إلى إعلان إدارة ذاتية لنفسها في المناطق التي تسطير عليها، وتخوض حرب صراع وجهاً لوجه مع القوات النظامية من جهة والقوات التركية من جهة أخرى إلى جانب الجيش الوطني السوري (المعارض) والمدعوم من أنقرة أطبقت القوات الأميركية منذ وصولها عام 2015 وأثناء حربها لمكافحة التنظيم المتطرف على منابع النفط والغاز في بادية دير الزور على رغم انخفاض عدد الجنود الأميركيين إلى 900 جندي وتلويح واشنطن بسحبهم مرات عدة مع الانتهاء من حرب "داعش" وتموضعت القوات الأميركة في قواعد منها (حقل العمر وحقل التنك وكونيكو).
في المقابل حافظ الجيش النظامي على سيطرته على نصف محافظة دير الزور، وانتشار قواته ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا بموجب التقاهم الثنائي الموقع بين الطرفين في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 برعاية روسية بعدما شن الجيش التركي عملية واسعة شمالاً، كما سيطر على حقول نفطية بدير الزور مثل (الورد والتيم والشولة والنيشان).
حرب غزة
في هذه الأثناء عاد التوتر بين مناطق نفوذ الميليشيات الإيرانية التي تتموضع في أحياء من المدينة وفي بلدتي البوكمال والميادين باشتباكات وقصف متواتر على القواعد العسكرية الأميركية، والتي بدأت في التزايد مع اقتراب الرد الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو (تموز) الماضي بعدما عاشت المنطقة فترة هدوء حذر بعد ضربات الطائرات الأميركية على مواقع إيرانية وفصائل موالية لها في فبراير (شباط) الماضي رداً على مقتل ثلاثة جنود لها قرب الحدود السورية - الأردنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يخفى الدور الإيراني ودعمها لمعركة وحدة الساحات منذ انطلاق شرارة حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما جرى من حرب تدور دوائرها إلى اليوم بين "حماس" والجيش الإسرائيلي. وتعمد تل أبيب جر طهران لمعركة خارج حدودها بغية تصدير الحرب وتخفيف وطأتها على الداخل الإسرائيلي.
ويرى مراقبون أن دير الزور تحولت إلى إحدى تلك الساحات، ونقطة تصفية حسابات دولية، لا سيما بين إيران وأميركا، إذ تخشى الولايات المتحدة من وضع قواعدها القريبة جداً من مناطق النفوذ الإيراني كأهداف في حال ساعدت واشنطن ودول أجنبية أخرى إسرائيل بالتصدي للهجوم الإيراني المرتقب كما حدث في الهجوم السابق في أبريل الماضي.
ومنذ ذلك الوقت تتبادل القوات الأميركية والفصائل المدعومة إيرانياً القصف على المواقع والقواعد بالصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة علاوة على بناء أبراج المراقبة على طول ضفة نهر الفرات المواجهة لمناطق النفوذ الإيراني مع وصول تعزيزات جوية وبرية عبر معبر العراق الحدودي تحوي مواد لوجيستية ومعدات وصواريخ متطورة. ويجزم رئيس مركز ريكونسنس للبحوث والدراسات في واشنطن عبدالعزيز العنجري بمرور الولايات المتحدة بمرحلة غياب سياسات واضحة في ظل الانتخابات الرئاسية المرتقبة.
وقال العنجري في حديث إلى "اندبندنت عربية" إن "الوجود الأميركي في غاية الأهمية للحفاظ على التوازن، ولمنع توسع الانتشار الإيراني في سوريا، بخاصة في ظل الحرب الدائرة في غزة، واحتمالات توسعها إلى لبنان، إضافة إلى وقف الممر الإيراني من محور الممانعة ضد إسرائيل التي لن تقبل بانسحاب أميركي طالما هي في حالة حرب".
ويعد الممر البري الذي أوجدته إيران منذ عام 2017 ويصل سوريا بالعراق وإيران حتى لبنان من أكثر الممرات البرية خطورة على إسرائيل وعلى القواعد الأميركية. ولهذا السبب تعكف القوات الأميركية عبر قاعدة التنف الواقعة على المثلث الحدودي (العراق وسوريا والأردن) على تدريب عناصر مقاتلة تشي المعلومات أنها تتبع لفصائل المعارضة السورية ويطلق عليها "جيش سوريا الحرة" من المنتظر أن تلعب دوراً في البادية السورية.
خريطة انتشار
وعلى رغم الانتشار الواسع للقوات الموالية لإيران والحرس الثوري في عدة محافظات سورية في ريف دمشق وحلب وحمص، تبقى دير الزور المحافظة التي تحوي أكبر تشكيل عسكري مرتبط مع إيران من حيث عدد المواقع والمقاتلين. وتلعب المدينة الشرقية نقطة حساسة وهمزة وصل لتأمين الطريق الاستراتيجي الذي اختارته طهران للوصول ليس إلى الجنوب اللبناني لأغراض عسكرية، بل إلى البحر المتوسط لنواحي اقتصادية.
وتبسط الميليشيات الإيرانية نفوذها على الضفة الغربية من مركز المدينة حتى بلدتي البوكمال والميادين أهم معقلين للتنظيمات الإيرانية العسكرية بما يناهز 130 موقعاً عسكرياً، إضافة إلى مواقع تدريب ودعم.
ومن أشهر الفصائل الموالية لإيران "الفاطميون" وتتمركز عناصره داخل المدينة، بينما تتحصن مجموعة "زينبيون" في المطار العسكري ومحيطه. كما ينتشر "حزب الله" اللبناني والمعروف بالوحدة 313 في مقار داخل المدينة بمئات المقاتلين، إضافة إلى مقار لمجموعات "أبو فضل العباس، والحسين، مع وجود جنسيات أجنبية إضافة للعراقية واللبنانية منها الباكستانية والأفغانية والإيرانية، وقواعد عسكرية في غاية السرية والحساسية كمقرات للطائرات المسيرة، السلاح الأبرز خلال السنوات الأخيرة، والذي يعتمد عليه جهاز الحرس الثوري في سوريا وبعدد من الساحات الميدانية".
وتشير تقارير إلى زيادة درجة الاستنفار داخل القواعد الأميركية التي تتأهب لعمليات طارئة، لا سيما بعد زيادة حدة الضربات، وأن تكون أكثر دقة، وكان آخرها هجوم لطائرة مسيرة على قاعدة في الحسكة تسمى "خراب الجير" داخل قاعدة أميركية، مع زيادة التعزيزات اللوجيستية وإرسال 230 جندياً من الحرس الوطني إلى سوريا والعراق.
وزارة الدفاع الأميركية بدورها وسبق وأعلنت عن إصابة ثمانية جنود بجروح خلال مؤتمر صحافي للمتحدث باسم البنتاغون باتريك رايدر أفاد بتلقي العلاج للمصابين بعد تعرضهم لإصابات دماغية، واستنشاقهم الدخان، مشيراً إلى ضلوع الميليشيات الإيرانية بتنفيذ الهجوم في حين يعد حقل العمر النفطي في المدينة العمالية في ريف دير الزور من أهم القواعد الأميركية ومزوداً بمهبط طيران مسير ومروحي، وبداخله معتقل ومن أكثر القواعد الحساسة حول الحقول النفطية بدير الزور.
يأتي كل ذلك في وقت تتسع فيه حرب بين قوات العشائر العربية يعتقد أنها مدعومة إيرانياً وقوات سوريا الديمقراطية الذراع العسكرية للقوات الأميركية والتحالف الدولي في توقيت محرج لواشنطن بعد توقف انتفاضة العشائر لأكثر من عام اقتصرت عن المناوشات بين الجانبين.
وتبقى دير الزور أكثر المدن المتضررة ليس من النزاع الأهلي، بل من الصراع الدولي وتحولت إلى ساحة للصراع على النفوذ لسنوات، ليس لشيء، بل لأنها المدينة الغنية بالنفط والغاز ومن جهة لمركزها الحساس كجسر للوصول الإيراني إلى مواقع متقدمة في حربه ضد إسرائيل وأميركا... جسر لا يشبه جسر المدينة المعلق على ضفاف الفرات الحزين.