ملخص
الحديث عن فندق في بيت لحم يطل على الجدار العازل بين إسرائيل وفلسطين ويرتبط اسمه ببانكسي يتخذ مناحي سياسية وثقافية وحقوقية قلما يتصف بها فندق
من غوريلا تحرر الحيوانات والطيور على جدار حديقة حيوان لندن إلى فيلين يتواصلان عبر خرطوميهما من نافذتين في تشيلسي إلى بجعتين تأكلان الأسماك أعلى مطعم أسماك في وولذمستو، لقطة تتمطّع على لوحة إعلانية قديمة في كريكلوود، لوحيد قرن يعتلي سيارة قديمة في تشارلتون، لغزال أو ماعز جبلي يقف على عمود تتساقط منه أحجار في ريتشموند وغيرها من حيوانات وطيور وأسماك بانكسي التي ظهرت فجأة على جدران متفرّقة في العاصمة البريطانية لم يفاجئ الظهور المباغت للجداريات العالم، فالمفاجأة سمة بانكسي.
لكنه تركهم هذه المرة، يضربون أخماساً في أسداس حول معنى حيواناته وطيوره وأسماكه، تاركاً قطاعاً غير قليل من المتفكرين المتدبرين يرجحون حقوق الحيوان حيناً، وشغب اليمين المتطرف حيناً آخر، لكن تظل أحداث غزة ودعم فلسطين وقضيتها تفرض نفسها تفسيراً، وقراءة للجداريات أكثر من غيرها.
احتمالات بانكسي
بانكسي الفنان الذي يُعتَقد أنه بريطاني، ويُرجح أن يكون رجلاً، وفي الأغلب شخص واحد لا مجموعة، وربما تكون بداياته في مدينة بريستول، وقد تكون يات في جنوب غلوسترشاير مسقط رأسه، مع احتمال أن يكون مواليد السبعينيات، وغالباً انتقل للندن في أوائل الألفية الثالثة، لم يعد فناناً يحرص على أن يظل اسمه وشخصيته وإقامته مجهولة وسرية فقط، بل أصبح اسماً مرتبطاً بمعاني الثورة وقيم الاحتجاج على العنف والتعسف والظلم والفصل، ولو كان عبر فندق متاخم لجدار فاصل، ويطل على "فيو" (إطلالة) هي الأسوأ في العالم.
وعد إدارة الفندق والقائمين عليه للزائرين والسياح بأن تكون إطلالتهم الصباحية من غرفهم هي الأسوأ تتحقق من دون شك، وهو ما يضمن "ريفيوز" (مراجعات وتقييمات) تقترب من الدرجة النهائية.
في هذه الأيام التي تحتدم فيها أحوال أهل غزة، وتقترب حرب القطاع من إتمام عام كامل منذ اشتعالها، يعود بانكسي، أكثر فناني العصر الحديث إثارة وسرية، إلى الأضواء مرتبطاً بغزة والقضية الفلسطينية. ظهور لوحاته الجديدة في مناطق عدة في لندن ما زال يثير الأسئلة والتكهنات حول معانيها، ويفتح باب الخلافات والاختلافات حول تأويلها، لا سيما حين تجتمع الآراء على أنها ذات علاقة وثيقة بما يجري في غزة.
بانكسي ليس حديث العهد أو غريباً على فلسطين وأهلها وقضيتهم، بل على غزة نفسها. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تعرض عمل لبانكسي كان قد ظهر فجأة كالعادة في حي "بكهام" (جنوب لندن) للسرقة بعد أيام من ظهوره.
العمل عبارة عن علامة "قف" المعدنية التي توضع في الشوارع، وعليها ثلاث طائرات عسكرية يرجح أن تكون طائرات من دون طيار. البعض رآها دعوة لوقف أسلحة الدمار في العالم الذي تجتذبه حروب عدة حالياً، البعض الآخر اعتبرها دعوة واضحة وحادة من بانكسي لوقف الحرب على غزة.
المرجح أن بانكسي زار غزة عدداً غير معروف من المرات في سنوات سابقة للحرب الحالية. فقد خلف وراءه لوحات عدة مرسومة على جدران وأبواب في القطاع. فمن جدارية عبارة عن أطفال على أرجوحة تشبه تلك الموجودة في الملاهي لكن عمودها برج مراقبة، وأخرى للرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي دونالد ترمب معانقاً برج مراقبة إسرائيلي ملحق بالجدار العازل، وأخرى له يخاطب الجدار قائلاً: "سأبني لك شقيقاً" في إشارة إلى الجدار العازل بين أميركا والمكسيك، إلى فتاة صغيرة تحمل بالونات ترفعها من على الأرض، وكأنها توشك على اجتياز الجدار.
المؤكد أن مفهوم "الجدار" ترك أثراً عميقاً وبالغاً لدى بانكسي، فهو يظهر مراراً وتكراراً في أعماله، سواء تلك المتعلقة بفلسطين أو غيرها. ويكفي أن "بانكسي إكسبلايند" أو "شرح بانكسي" وهو أحد المواقع التي يعتقد أنها تتحدث باسمه تتخذ من شعار "الجدار سلاح كبير جداً. إنه أحد أبشع الأشياء التي يمكن أن تضرب بها شخصاً ما".
اليوم، وفي ظل الحرب الضروس الدائرة في غزة، وفي ضوء الظهور الأحدث لرسوم بانكسي، التي يفسرها كثيرون في ضوء الصراع، يعاود البعض تسليط الضوء على "الجدار" مجدداً، لكن بإعادة اكتشاف "وولد أوف هوتيل" أو الفندق المحاط بجدار في بيت لحم. على رغم أن الفندق البوتيك عمره ست سنوات، لكن أنظار الكثيرين حول العالم تتجه صوبه، ولو بالبحث والمشاهدة فقط، هذه الآونة.
الفندق البوتيك
الفندق البوتيك في العادة فندق صغير، سعته الاستيعابية قليلة، لكن يقدم خدمات مصممة خصيصاً لنزلائه بشكل أكثر فردية وخصوصية من الفنادق العادية. لكن حين نتحدث عن فندق بوتيك في بيت لحم يطل على الجدار العازل بين إسرائيل وفلسطين، ويرتبط اسمه ببانكسي، فإن مفهوم البوتيك هنا يتخذ مناحي سياسية وثقافية وحقوقية.
عمليات بحث موسعة يقوم بها البعض في مشارق الأرض ومغاربها عن فندق "وولد أوف" في شارع كاريتاس في بيت لحم. تختلف ميول الباحثين، وربما تتنافر بين مؤيد لحقوق الفلسطينيين التاريخية والحقوقية في الأرض والوطن والمستقبل، أو معارض. لكن الجميع يجد فكرة الفندق غريبة.
جرت العادة أن تفاخر الفنادق على سبيل جذب السياح والنزلاء بأن هذا على بعد عشرة أمتار من حديقة رائعة، أو أقرب نقطة للشاطئ الخلاب، أو في قلب وسط المدينة العامر بالحركة والحياة. هذا الفندق يباهي بأنه يطل على "أسوأ إطلالة"، ولا يفصل بينه وبين نقطة التفتيش إلا أمتار قليلة، وأن الإقامة فيه "كانت" آمنة تماماً.
الأسئلة الأكثر طرحاً من قِبل الباحثين عن فندق للإقامة في أثناء إجازة أو لسفر عمل في مكان لم يزوروه من قبل تكون عادة: هل المكان قديم أم حديث؟ وهل يناسب الأسر أم الشباب؟ إلخ. أما أن تكون الأسئلة: هل الفندق معاد للسامية؟ أو هل الفندق وجد ليبقى أم سيغلق أبوابه سريعاً؟ فهذا غير معتاد.
الفندق الذي ترك بانكسي في بهوه وعلى جدرانه وبعض غرفه لسماته المميزة وخطوطه الحادة التي تساوي آلاف الكلمات في صف القضية الفلسطينية وضد العنف والعدوان، يؤكد أنه غير معاد للسامية، رداً على السؤال الأكثر طرحاً. "الفندق منشأة ترفيهية مستقلة تماماً، جرى إنشاؤها وتمويلها من قبل بانكسي. ولا ينتمي إلى أي حركة سياسية أو مجموعة ضغط. تقدم إدارتنا وموظفونا الفلسطينيون ترحيباً حاراً بشكل خاص لجميع الذين يأتون بقلب مفتوح".
وحيث إن المنطقة ملبدة بغيوم الاحتقان، والمدينة والمدن المجاورة لم تعرف على مدار نحو ثمانية عقود المعنى الحقيقي للهدوء والسكينة والأمان، فإن السؤال الذي تتلقاه إدارة الفندق أيضاً بشكل متواتر هو: هل تتربحون من مآسي الآخرين وبؤسهم؟ تجيب إدارة الفندق: الفندق أصبح شركة محلية مستقلة هدفها تحقيق التوازن بين المصروفات والإيرادات، وأية أرباح تستخدم في مشروعات تخدم المجتمع المحلي.
المجتمع المحلي في بيت لحم، وغيرها من المدن الفلسطينية، سواء الخاضعة للسلطة الفلسطينية أو قطاع غزة يعرف بانكسي من دون أن يراه. يعرفه من عشرات الجداريات التي رسمها وفريقه، من دون أن يراهم أحد، في غزة وفي الضفة الغربية في سنوات سابقة. ولأن اللوحات مرسومة من القلب، فقد وصلت القلوب التي يعنيها الأمر.
على الأرجح، أهل غزة حالياً ليسوا في حالة تسمح بالسؤال عن مصير أعمال بانكسي في القطاع! لكن مصير الفندق المباهي بإطلالة "هي الأسوأ" معروف، وهو مصير يرتبط بفكرته وبدايته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بداية الفندق تعود إلى عام 2017، تحديداً مرور مئة عام على وضع اللبنة الأولى التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وما تعانيه المنطقة اليوم من ويلات حروب وصراعات متكررة. في عام 1917، كتب وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور رسالة إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا البارون روتشيلد عبّر فيها عن تعاطف بريطانيا مع جهود الحركة الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين وضياع وطن الفلسطينيين.
وطلب منه إبلاغ زعماء الحركة في بريطانيا وإيرلندا موقف بريطانيا الداعم لهذه المساعي، وهي الرسالة التي باتت تعرف بـ"وعد بلفور"، وهو الوعد الذي أدّى إلى قيام إسرائيل، والإبقاء على المنطقة على صفيح ساخن.
وعلى موقع الفندق، الذي بدأ مُتحفاً لأعمال فنية وأدبية لبانكسي ومجموعة كبيرة من الفنانين والأدباء من دول عدة، كتب بانكسي في ذلك العام: "عام 2017 يصادف مرور مئة عام منذ سيطرت بريطانيا على فلسطين، وساعدت في بدء قرن من الارتباك والصراع. نهدف إلى البقاء هنا طيلة هذا العام المئوي، وربما لفترة أطول إذا جاء الناس للزيارة والإقامة".
فندق واحتجاج وغاليري
وفعلاً، جاء الناس للزيارة والإقامة بعد ما تحوّل المُتحف إلى فندق، واحتجاج، وغاليري فني. وظلت غاية بانكسي أن تسهم الفكرة في إنعاش السياحة في المنطقة، وخلق فرص عمل في بيت لحم، التي كانت تعاني الأمرين من القيود الإسرائيلية المتصاعدة على حركة السياحة والتنقل.
وعلى سبيل الترويج للفندق وقت الافتتاح، وفي إجابة عن سؤال بدا منطقياً: ولماذا فندق في هذا المكان؟ جاءت الإجابة تليق ببانكسي وأفكاره: "هذا المكان هو مركز الكون. في كل مرة يأتي فيها الله إلى الأرض، يبدو أن الأمر يحدث بالقرب من هنا. الهندسة المعمارية والمناظر الطبيعية مذهلة، والطعام لذيذ، والوضع رائع ومؤثر. هذا مكان ذو أهمية روحية وسياسية هائلة وفلافل جيدة جداً".
يبقى الفندق على حاله. موقع بانكسي يعلن الأسف على إغلاق الفندق موقتاً بسبب الأحداث الحالية، لكن مواقع الحجز الإلكتروني تقبل عمليات الحجز. المتعاطفون والمؤيدون للقضية، يجدونه من أبدع ما يمكن عمله لشرح معنى أن تعيش في "وطنك" محاطاً بجدار من المحتل، والواقفون على الجبهة الأخرى، يعتبرونه فكرة سخيفة. وتبقى أهمية المكان الروحية على حالها.
لكن تتعالى ادعاءات البعض بأن العنف والبطش والظلم الدائرة رحاها على مرمى بضعة كيلومترات ترتكز على أسباب روحانية. أما الأهمية السياسية فانقلبت ناراً، حتى بانكسي، أو بالأحرى، خصوصاً بانكسي، فقد أعادته الغوريلا والماعز والبجع ووحيد القرن الأسماك والقطة إلى قلب الحدث.
ربما قصد بانكسي بظهوره الأحدث شيئاً ما يتعلق برغبته في نقد والتشكيك في الأعراف المرتبطة بالمؤسسات والرأسمالية، وربما أراد أن يلفت الانتباه لحقوق الحيوانات والطيور والأسماك. وهناك احتمال أيضاً بأن يكون ظهوره المباغت المعتاد في شوارع العاصمة البريطانية مجرد ظهور صيفي خفيف يناسب أجواء العطلات والسياحة.
لكن متابعي بانكسي والمهتمين بما وراء خطوطه والهائمين بهالة السرية ونجاحه المذهل في عدم الكشف عن هويته طيلة هذه السنوات، ومعهم جيوش من معتنقي المواقف والآراء والأيديولوجيات السياسية والإنسانية والحقوقية، التي تقرّبهم منه بل ويعتبرهم البعض أشبه بقائد طائفة متخيلة اسمها الإنسانيين، تسود فيها قيم الإنسانية على السياسة والحرب والاحتلال والإبادة والجدار، هؤلاء يروق لهم أن يروا رؤى خاصة بغزة ودعم غير منطوق، لكن غير محدود لسكانها وكراهية شديدة للجدار العازل، أي جدار.في نقاش بين معارض لفكرة الربط بين حيوانات بانكسي الأخيرة وغزة وآخر مؤيد، يقول المعارض: ما العلاقة بين ظهور رسوم حيوانات بانكسي في لندن وبين غزة وفلسطين؟ يجيبه المؤيد بصور كثيرة تثبت اختراق بانكسي للجدار، وإنهاءه الفصل العازل، لكن عبر رسوم جدارية على الجدار المهيب.