Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مع سبق الإصرار" تستلهم نصا روسيا عن الانتحار المقنع

المخرج كفاح الخوص أعاد توليف مسرحية نيكولاي إيردمن مع الكاتبة لوتس مسعود وأسقطاه على واقع البلاد في الحرب

من مسرحية "سبق الإصرار" السورية (اندنبدنت عربية)

ملخص

تريد أن تنتحر؟ حسناً، نحن نؤمن لك انتحاراً لائقاً يجعلك بطلاً ونجماً أسطورياً، لكن قبل ذلك عليك أن تكتب رسالتك التي تتهم فيها الجميع بموتك! من هذه النصيحة الغرائبية انطلق عرض "مع سبق الإصرار" في معالجته لنص "المنتحر" للكاتب الروسي نيكولاي إيردمن (1900-1970)، والذي قام الفنان كفاح الخوص بإخراجه وإعداده بالتعاون مع الكاتبة لوتس مسعود.

النص الروسي "المنتحر" المكتوب في فترة الحكم الشيوعي للاتحاد السوفياتي السابق يعكس احتقار حياة الفرد وهمومه اليومية قبالة جسامة الأحداث السياسية والحروب والمجاعات وموجات التهجير، إذ منع جوزيف ستالين (1878-1953) نشر نص مسرحية "المنتحر" لما توجهه من انتقاد حاد للنخب الحزبية التي قادت الثورة البلشفية في روسيا (1917).   

تدور فكرة العرض السوري حول شخصية عامل المياومة جابر السعيد (يزن كيالي) الذي يقرر الانتحار هرباً من ظروفه المادية الصعبة، فبعد شجار بسيط ينشب ليلاً بينه وبين زوجته منى (حنين عمار) ستتغير حياة الرجل العاطل عن العمل ليصبح شخصية عامة، ولتتوقف على رغبته في الانتحار مصير شعب كامل من عمال وفلاحين وتجار ومثقفين ورجال دين ومخبرين وبنات ليل. تبدأ أحداث العرض (إنتاج دراما رود) سريعاً من اللحظة التي تلجأ فيها زوجة جابر إلى لقمان (أيهم أبو الشامات) جارها المثقف وزير النساء كي يمنع شريك حياتها من الإقدام على إنهاء حياته. في تلك اللحظة سيتغير كل شيء في حياة الزوجين، وذلك حين يقنع المثقف الحزبي جاره البائس بتوظيف حادثة انتحاره لتصبح قضية رأي عام، يستطيع من خلالها أن يضمن تأمين ثروة طائلة لزوجته وابنه المنتظر تقيهما شر السؤال من بعده.

وبين تردد وإقدام، يوافق الرجل المغلوب على أمره على خطة جاره الداهية، فيشرع لقمان بإدارة حملة إعلامية تمهد لاستغلال رغبة جابر في الانتحار، إذ يستدعي لذلك كل رجال الأجهزة الحزبية والأمنية والإعلامية للاستثمار في موت المواطن البسيط، ومع كل خطوة من خطوات هذه الحملة الإعلامية تقام المؤتمرات الصحافية وتعقد المهرجانات الخطابية حول بطولة جابر وفروسيته وإقدامه، ويتصدر ذلك لطفي (حيان عزام) رئيس اتحاد العمال والفلاحين وموفق مدير ديوانه (أحمد حكيم)، ويقوم شكيب (محمد سمعول) وهو شاعر من شعراء المراكز الثقافية بتدبيج القصائد والخطب الرنانة في مديح انتحار جابر وعفاف نفسه وإيثاره الموت على حياة الذل والحاجة. في هذه الأثناء يحضر وفد من جمعية نون النسوة (كيناز أبو سعدة ونور علي وزينة إبراهيم وجلنار حمدان) يقمن بدورهن هن الأخريات ويطنبن بأخلاق الرجل وتضحيته المثلى في سبيل زوجته مهيضة الجناح.

قرار الانتحار

في هذا الوقت تحضر إلى المكان سهيلة (فايزة الحباشنة) الشقيقة الكبرى لجابر، والتي تواجه الحارس الشخصي لشقيقها (وئام عيسى) وتقتحم بشجاعة مكان اختبائه لتقنعه بالعدول عن قراره بالانتحار، لكن هيهات، فلقد عقدت الصفقة الشيطانية الأقرب إلى صفقة الدكتور فاوست مع إبليسه الشهير مفستو فيليس، والشيطان هنا هو لقمان الذي قام بتوقيع عديد من العقود الوهمية مع شركات ومؤسسات وهيئات مجتمع مدني استثمرت في واقعة الانتحار المرتقبة، والتراجع الآن عن أي بند من بنود الاتفاق سيجعل عائلة المنتحر في مهب الريح، إذ سيطبق شرط جزائي على أي إخلال بتنفيذ العقود أو تأجيلها. تمضي الأحداث بعد ذلك على هذا المنحى الغرائبي بتحضير جابر لحفل انتحاره، ومثوله أمام ثلاثة حلاقين غريبي الأطوار (زيد نبعه وعدنان حيان وأحمد حبوب) يتصورون معه كنجم هوليوودي، وعبر مفارقات مضحكة تخللتها المرارة والسخرية يذعن جابر لهم، ويتقمص شخصية أحد المشاهير الذي جعل من موته نجومية تضاهي شهرة أبطال أفلام السينما العالمية.

ينتقل بعدها جابر لتوضيب هندامه وتفصيل بدلته الرسمية التي سيحضر فيها إلى حفلة موته، والتي تشرف عليها مصممة الأزياء اعتدال (بثينة نعيسة)، لنكتشف أنها هي ذاتها حبيبة جابر القديمة، والتي ستكشف له أن زوجته ليست حامل، وأنها خدعته فقط كي يتراجع عن قراره في الانتحار، مما يؤجج غضب جابر، ويجعله يخوض مواجهة حادة من جديد مع شريكة حياته. في هذه الأثناء يحضر الشيخ (علي خليل) الذي يوجه تأنيباً حاداً لجابر على رغبته في الانتحار، ويذكره بعاقبة المنتحرين وسوء مصيرهم في الآخرة، ويقول له إنه إذا أراد إنهاء حياته فليذهب إلى الشهادة في سبيل الله بدلاً من نحر النفس بغير حق، وهنا علينا التوقف عند هذه النقطة التي برع كل من كفاح الخوص ولوتس مسعود في معالجتها عن النص الأصلي، ولا سيما استغلال حياة الشباب وموتهم في العمليات الانتحارية، وفي الدور الذي تقوم به منظمات متطرفة لتطويع الشبان العرب وتجنيدهم في صفوفها، وهذا ما كان يمكن للعرض استثماره وتوظيفه بصورة أوسع لتحليل ظاهرة الإرهاب في العالم العربي والنبش في جذوره، وتحليل ظاهرة "الانتحار المقنع" التي أمست وسيلة لعديد من الأعمال التخريبية حول العالم.

مشروع تحت الاختبار

في كل الأحوال يبقى تنويه "مع سبق الإصرار" لهذه النقطة لافتاً حتى ولو أنه لم يتوسع بها درامياً، إذ إن شخصية بطل العرض في آخر لحظة ستفاجئ الجميع وتقلع عن رغبتها في الانتحار، وهذا ما يضع مشروع لقمان كله تحت الاختبار، مما يجعله يقوم بحيلة إحضار رجل شبيه لجابر (كريم الدبيسي) ليموت عوضاً عنه أمام الكاميرات، ونعرف أن هذا الشبيه مضطر إلى أن يقوم بهذه التضحية من أجل دفع أجور عملية طبية لابنه المريض. ينتقل بعدها العرض إلى مراسم مهيبة يديرها كل من عرفاء الاحتفال ومقدموه ومتسولوه (حاتم علي وماهر سعود ومهند الحسين غدير معيطة)، وبالفعل يقوم الشبيه بإطلاق النار على نفسه من مسدس حربي أمام الحضور الذي يصفق لشجاعة المنتحر، فيما يلوذ جابر بجزء من الثروة التي غنمها مع حبيبته القديمة، لينتهي العرض بافتضاح أمر جابر من قبل زوجته التي ترديه قتيلاً بثلاث طلقات بعد أن تكتشف خيانته لها مع عشيقته السابقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الزخم في الأحداث والصراعات أدارها مخرج العرض بطريقة شرطية ومختزلة على صعيد الديكور (نذير مراد)، والذي اقتصر على منصات متحركة تحمل أبواباً مطلية باللون الأبيض، ويقوم الممثلون بتحريكها لتحديد انتقالات سلسلة للشخصيات بين داخل وخارج، وللإيحاء بالأمكنة والمناظر: (بيت الزوجين وبيت لقمان والجمعيات العمالية وصالون الحلاقة ومحل اختباء جابر وصالة الحفل)، وذلك من دون الركون إلى ديكورات واقعية صرفة، إضافة لمنصات استخدمت ككراسي لجلوس الجمهور الذي يتحول من متفرج إلى ممثل في العرض على الخشبة، ومما أسهم في تعزيز هذه الشرطية هي قدرة الإضاءة (بسام حميدي) على رسم وتظهير وعزل الأماكن وتحديدها عبر منابع إنارة تنوعت في درجات حرارتها وبرودتها، إذ عمد مصمم الإضاءة في "مع سبق الإصرار" إلى تأمين ممرات جانبية وبقع لونية مكثفة، أسهمت هي الأخرى في توفير أبعاد جمالية للعرض، وجعلت الحدث ينتقل بسلاسة ويسر من منظر إلى آخر، ومن لوحة إلى أخرى بديناميكية فعالة ومؤثرة في الخط الدرامي للمسرحية ككل.

وتبدو قدرة الفنان كفاح الخوص في إدارة الممثل حاسمة في مثل هذه النوعية من التجارب التي اعتمدت على الأداء الجماعي، والخروج من قالب الأعمال الواقعية الصرفة في تجاربه السابقة إلى الاقتصاد في قطع الديكور وجعلها ذات توظيف رمزي بحت، وهنا لا بد من الإشادة بالتأليف الموسيقي (ليان لحام) عازف العود الذي رافق مجريات هذه التجربة بصورة حية على المسرح بمرافقة عازف الإيقاع (فراس دكاك)، إذ كانت الموسيقى عنصراً جوهرياً في مواكبة الصراع وتصاعده بين الشخصيات، وإبراز نقلات إيقاعية وأحياناً أخذت طابع المرافق للأغنيات الجماعية التي قام الممثلون بأدائها كجزء من كورال أدائي حركي وغنائي في الوقت ذاته، مما ساعد في توفير متعة إضافية لجعل "مع سبق الإصرار" يقترب من مغناة درامية شعرية استوعبتها خشبة مسرح القباني الصغيرة، وأبرزت مواهب لافتة لممثلين هواة يواجهون الجمهور للمرة الأولى بمستوى فني قارب أداء المحترفين، بل وفاقهم في مواقع عديدة من العرض.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة