Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض في بومبيدو يستعيد فتوحات السورياليين

في الذكرى المئوية لولادة حركة أندريه بروتون مع البيان التأسيسي 1924

مدخل المعرض السوريالي في مركز بومبيدو (خدمة المعرض)

ملخص

جاءت السوريالية وريثة لتوليفات الدادا بنزعتها العبثية الصادمة، كما انطلقت بواعثها من تأثيرات آرثر رامبو ولوتريامون والماركي دو ساد وكارل ماركس وسيغموند فرويد... فضلاً عن الإلهامات التي أحدثتها خيالية دو كيريكو بطبيعتها الميتافيزيقية أو الماروائية التي سبقت السوريالية بـ15 عاماً.

احتفاء بالذكرى المئوية لولادة الحركة السوريالية عام 1924، يخصص مركز بومبيدو في باريس معرضاً متعدد الوسائط من أضخم وأغنى المعارض التي سبق أن قدمتها فرنسا، إذ جُمعت نحو 500 لوحة ومنحوتة، ورسوم وأفلام وصور ووثائق أدبية في صالات عرض مساحتها 2200 متر مربع في تصميم سينوغرافي على صورة متاهة، يتيح الدخول إلى مخآبئ أحلام كبار فناني الحداثة خلال القرن الـ20 وكوابيسهم وهلوساتهم، من غرائب أحلام رينيه ماغريت وخيالاته إلى العوالم الميتافيزيقية لجورجيو دي كيريكو والأبراج النارية لخوان ميرو، وأحلام اليقظة لدى سلفادور دالي وساعاته اللينة التي تتدلى في مشاهد خلوية من عالم الباطن.

ولعل أهمية المعرض الاستعادي للأعمال السوريالية المتعددة تكمن في إعادة الاعتبار لإحدى أهم الحركات الثورية المعمرة انتشاراً لكونها ارتبطت بالتحرر الفكري والنضال الاجتماعي ضد القمع والاستبداد، وبخاصة أنها شكلت جزءاً كبيراً من ذاكرة الحداثة العالمية.

العراب بروتون بالصوت والصورة

عراب السوريالية الشاعر أندريه بروتون هو بالطبع في دائرة الضوء، والتعرف إليه يظل محفوفاً بالمفاجآت. عند مدخل المعرض يبتلع الزائر وحش بفم مفتوح الشدقين إشارة إلى "باب الجحيم" أحد الملاهي الثلاثة التي كان يتردد عليها بروتون مع أصدقائه، الذين يرحبون بالزوار في ممر طويل مغطى بصورهم، يؤدي إلى غرفة دائرية كبيرة تقبع في وسطها منصة عبارة عن طبل زجاجي يضم المخطوطة الأصلية لبيان بروتون الشهير. وهو 17 ورقة مغطاة بالكتابة الدقيقة والمنتظمة تمت استعارتها استثنائياً من المكتبة الوطنية الفرنسية. ويرافق هذه المخطوطة والوثائق عرض سمعي - بصري غامر بزاوية 360 درجة، يسلط الضوء على نشأة السوريالية وأبعادها، وهي تُتلى بصوت أندريه بروتون الذي أعيد بناؤه باستخدام عملية الذكاء الاصطناعي.

ويمثل هذا النص التأسيسي الذي نشر خلال الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) 1924 ميلاد الحركة السوريالية. وكان في البداية مجرد مقدمة لعمل بعنوان "سمكة قابلة للذوبان" شرح فيه بروتون توجهاته الفلسفية والجمالية الجديدة، مشيراً إلى انفصاله عن مجموعة الدادا. وكان بروتون أصدر مع فيليب سوبو كتاباً مشتركاً بعنوان "حقول مغاطيسية" عام 1919 وكان مهتماً في وقت مبكر باللاوعي والتحليل النفسي في استكشاف منطقة مجهولة من الفكر لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق إزالة بعض الحواجز العقلية. أما أبواب الوصول إليها فهي الكتابة الأوتوماتيكية ودراسة الأحلام وإطلاق العنان للخيال. وبالنسبة إلى بروتون يجب أن ينشأ الفن من الأحلام والأوهام والصدفة، وعرَّف السوريالية بأنها "آلية نفسية بحتة يمكن من طريقها التعبير شفهياً أو بالكتابة أو بوسائل أخرى بعيداً من أية رقابة يمارسها العقل، وهي خالية من كل الأفكار الجمالية أو الأخلاقية السابقة".

جاءت السوريالية وريثة لتوليفات الدادا بنزعتها العبثية الصادمة، كما انطلقت بواعثها من تأثيرات آرثر رامبو ولوتريامون والماركي دو ساد وكارل ماركس وسيغموند فرويد... فضلاً عن الإلهامات التي أحدثتها خيالية دو كيريكو بطبيعتها الميتافيزيقية أو الماروائية التي سبقت السوريالية بـ15 عاماً. وأطلق على الفترة الأولى من السوريالية فترة "نوبات النوم"، حاول فيها السورياليون من طريق التنويم المغناطيسي وطريق الكتابة التلقائية وطرق أخرى أن يحرروا فيضاً من الكلام من ربقة العقل. ثم انتشرت هذه الحال الذهنية بسرعة في الفنون البصرية والتصوير الفوتوغرافي والسينما. فالآلية في الكتابة الشعرية رافقتها آلية في التصوير تركزت على اختراع تقنيات تهدف إلى إعادة إنتاج آليات الأحلام، في حلة من اللبس والغموض (الكولاج والحكاكة أو الحك والقحط والنقل الطباعي من طريق الترانسفير)، فضلاً عن الصور الشعاعية المركبة (ريوغراف) لمان راي. وتمثلت الآلية بصورة نموذجية مع أندريه ماسون الذي كان يترك قلمه يتجول بلا هدف على الورق، كما لو أن عقله الباطن هو الذي يحركه. مثل الشعر يوحي الرسم ويعمل على الخيال ويزعج ويصدم. وأصبح الكولاج الذي ابتكره لوتريامون في الأدب في صيغته "جميلاً مثل لقاء الصدفة على طاولة تشريح ماكينة خياطة ومظلة"، ممارسة شائعة بين الرسامين.

ملاك البيت أم شيطان؟

ثمة نقاط جاذبة تتنازعها في المعرض بعض المرجعيات التاريخية من الأعمال الفنية مثل لوحة دي كيريكو التي تحمل عنوان "الرجل المستهدف"، وهي عندما أنشئت عام 1914 لم تكتسب عنوانها النهائي إلا بعد إصابة صديقه الشاعر غيوم أبولينير عام 1916 في جولات الحرب، التي أعلن عنها دي كيريكو بطريقة ما. ولوحة ماكس إرنست "ابوب ملكاً" التي اقتناها الشاعر بول إيلوار وكانت إيذاناً بدخول إرنست في مغامرة السوريالية، والصورة الشهيرة لمان راي "كيكي دو مونبارناس"، وهي امرأة عارية من الخلف على طريقة الرسام آنغر ولكن جسدها مثل الكمان، في تحوير يدمج بين الرسم والفوتوغرافيا والإنتاج الميكانيكي. وصولاً إلى المنحوتات والقطع السوريالية وأبرزها الذئب، الطاولة التي ابتكرها فيكتور برونر من الخيال عام 1939، ليشارك بها في المعرض الدولي للسوريالية بباريس عام 1947 بناء على طلب من أندريه بروتون، وهو عمل يرمز إلى الحرارة والموت، مما دعا بروتون لاعتباره إشارة تنذر بالحرب العالمية الثانية.

ويتمحور معرض مركز جورج بومبيدو حول أبرز نجوم السوريالية وغالبيتهم من المهاجرين المقيمين في عاصمة الفنون باريس، دالي وميرو (إسبانيا) وماغريت (بلجيكي) وماسون (فرنسي) ومان راي (أميركي) وماكس إرنست (ألماني). والأخير أخذ مكانة بارزة من الاهتمام، إذ إن لوحته "ملاك البيت- انتصار السوريالية" احتلت الصدارة في ملصق المعرض وغلاف الكتيب الخاص بالمناسبة. وهي لوحة استثنائية برمزيتها السياسية أذهلت فظاعتها فناني الحركة السوريالية. إنها تمثل مخلوقاً خيالياً مثل عملاق غاضب يبدو أنه يسحق كل شيء في طريقه، رسمه ماكس إرنست عام 1937 وقت قصف غرنيكا وبعد هزيمة الجمهوريين في إسبانيا، ليصور بصورة استعارية فرانكو كوحش مخيف يسحق كل من يقاومه، ولم تنفع معه جهود الألوية الأممية وحشد الفنانين المناهضين للفاشية لإيقافه. بسبب جرأته وأفكاره السياسية تم اعتقال ماكس إرنست في معسكر ميلز قرب إيكس أون بروفانس عام 1939. وهو بالنسبة إلى النازيين أحد رموز ما يسمى الفن "المنحط"، وهرب عام 1940 وتمكن من الوصول إلى إسبانيا ثم الولايات المتحدة عام 1941.

وفي المعرض يحضر رينيه ماغريت الملقب بأستاذ الألغاز الذي يعرف كيف يبث الأحجيات. إنه الأكثر عقلانية والأكثر مفاهيمية بين الفنانين السورياليين، وتعد لوحة "القيم الشخصية" التي بدأ العمل بها نهاية عام 1951 من روائعه، وفيها يتلاعب ماغريت بتصوراتنا لمحتويات غرفة مليئة بالأغراض الشخصية المتفاوتة في أحجامها وأشكالها الخادعة. وأوضح ماغريت أنه عمل على هذه الحياة الساكنة لفترة طويلة، حتى وصل إلى "حال معينة من الظرف". وقال إن الأشياء العادية فتنته.

تأثيرات فرويد

عجائب ميرو وغرائبه نعثر عليها في متاهة من الرموز والألوان الأساس التي تعوم في فضاء تجريدي. فالفنان كالحالم اليقظ يقدم موضوعاته المفضلة عن النساء والطيور والوحوش والنجوم، في مزيج من العلامات الهندسية والرموز والأشكال البسيطة الأكثر إثارة. وإذا كانت الطيور تجسد التعطش للحرية فهي أيضاً رموز للذكورة الخفية بالنسبة إلى خوان ميرو. وهي من تأثيرات فرويد الذي طرح طريقة التداعي الحر التي تتيح لأية أفكار محتجبة أن تبرز إلى الشعور الواعي. وقد أوحت أهمية الأحلام في نظرية فرويد للسورياليين بفكرة الحلم كمادة للوحاتهم، والاهتمام بالرمزية الجنسية في طرح موضوعاتهم.

واعتنق دالي أكثر السورياليين حرفة وصنعة هذا الأسلوب من التفكير الذي يقع تحت تأثير فرويد، وأضاف إليه نظرية أطلق عليها اسم "البارانويا النقدية"، ولا يقصد منها جنون الاضطهاد أو التعذيب بل فكرة التملك وهي الوجه الآخر لبارانويا الارتياب أو جنون العظمة، التي أسهمت في إظهار عبقريته وإبداعاته وهلوساته وأحلامه في مختلف مجالات الفنون البصرية. من أبرز أعماله المعروضة في بومبيدو لوحة "أسد وحصان ونائمة غير مرئية" رسمها دالي خلال ربيع عام 1930، وتشهد ظهور الصور المزدوجة والثلاثية وحتى المتعددة التي تتعلق بنشاط البارانويا النقدية التي أطلقها الفنان خلال تلك الآونة ليطرح مسألة الشك العقلي في معرفة صور الواقع، ويقول "حصلت على صورة امرأة، موقعها وظلالها وشكلها، من دون تغيير أو تشويه مظهرها الحقيقي، هي في الوقت نفسه حصان". أما لوحة "وجه الاستمناء العظيم" فهي تعبر عن قلقه وخوفه من الرغبة الجنسية. وفي صوره الحلمية مثل "إصرار الذاكرة" التي أنجزها عام 1931 ساعات لينة معلقة فوق الجدران وعلى أغصان الأشجار، تثير رؤيتها الإرباك على نحو مقصود تماشياً مع قول بروتون "إن الجمال إما أن يهزك هزاً أو لا يكون".  

الحضور النسوي

ويمنح المعرض مكانة مرموقة لعدد من النساء اللاتي شاركن في الحركة، ومنهن ليونورا كارينغتون ودوروثيا تانينغ وريميديوس فارو وإيثيل كولكوهون وليونور فيني ودورا مار، والأخيرة مصورة فوتوغرافية ورسامة أحبت الجمع بين التناقضات لإنشاء أعمال هجينة. وفي صورة معروضة لها في بومبيدو لقاء على الشاطئ بين قوقعة على صورة حلزون تخرج منه يد أنثى ذات أظافر مطلية على خلفية سماء مليئة بالغيوم، وفي جو من الغرابة ترمز اليد إلى خروج المرأة من قوقعتها لتحرر نفسها. اللافت أيضاً هي لوحة الفنانة الأميركية دوروثيا تانينغ التي صورت فيها نفسها في عمر الـ30 حين وقعت في الحب، وفيها أبواب وخلفها أبواب مضللة، وقيل إن لوحاتها تشبه الحلم والكابوس وأسلوبها كلاسيكي للغاية مستوحى من الأساطير القديمة ورمزية التحليل النفسي، لكنها استطاعت أن تنهض في قلب الحركة السوريالية منذ تأسيسها، وأثبتت نفسها لاعباً رئيساً في الفن الأميركي بعد الحرب.

 الواقع أن تجليات السوريالية في أعمال النسوة ظلت لعقود طويلة بعيدة من الأضواء مما دفع الناشطات النسويات في السبعينيات لانتقاد الحركة السوريالية بدعوى أنها حركة ذكورية، على رغم وجود عدد من النساء اللاتي عرفن الشهرة في حينها ولكن بقين في الظل. فنانات من مختلف الجنسيات فاتنات متحررات بعضهن كن عشيقات وموديلات للفنانين أنفسهم، منهن كارينغتون التي كانت عشيقة ماكس إرنست التي صورها في رائعته "نابليون في الصحراء". أما دوروثيا تانينغ فكانت زوجته الملهمة من عام 1946 حتى وفاته، ودورا مار عرفت كعشيقة لبيكاسو الذي كرس لها كثيراً من اللوحات. ولعل هذه الصورة الشائعة للمرأة كتيمة للإغراء الإباحي، حجبت شخصيتها كرسامة ذات مؤهلات فنية وخيال مبهر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت السوريالية مع كل خلافاتها المتأصلة حركة طليعية خارقة النجاح حقنت سائر الفنون بإكسير الحياة الذي كانت في حاجة ماسة إليه بين الحربين العالميتين، وألهمت فناني الشرق والغرب على السواء، ووجدت منذ الثلاثينيات صدى دولياً قوياً أسهم في انتشار مفاهيمها التحررية في مختلف بلدان العالم، وبخاصة في مصر خلال وقت مبكر، إذ تكونت "الجماعة السوريالية" مع جورج حنين وأصدقائه عام 1937 وكانت الوحيدة وقتئذ في العالم العربي.

وانتشرت الحركة السوريالية خارج فرنسا لتحقق شهرة عالمية من خلال معارض عام 1936 في لندن ونيويورك ومعارض عام 1937 في طوكيو ومعارض عام 1938 في باريس، وهي شهرة عززتها هجرة الفنانين من باريس إلى الولايات المتحدة الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا ألهمت السوريالية الفن الأميركي بعمق، فممارسة الأتوماتيكية على سبيل المثال أحد أصول عمل جاكسون بولوك في حين أن الاهتمام الذي أبداه السورياليون بموضوع الكائن تجلى في فن البوب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة