ملخص
بعد غزو العراق ظهرت تقارير أميركية تقول إن سوريا قدمت دعماً جزئياً لزعيم تنظيم "القاعدة" السابق في العراق أبو مصعب الزرقاوي لقناعتها بأن الدور سيكون على دمشق بعد بغداد.
في أقصى الشرق السوري تقع محافظة دير الزور، وتحديداً على الحدود السورية مع العراق، تعددت المصادر والروايات التاريخية عن أصل تسمية هذه المدينة، وتغير اسمها مع تغير الأزمان والسلطات التي تناوبت على حكم دير الزور. لكن أحد المصادر يرى أن الاسم الحالي لهذه المدينة السورية حصلت عليه من الأتراك، عندما كانت دير الزور تحت الحكم العثماني إذ أطلق عليها "بيت الصعوبات" لذلك سموها لاحقاً بـ"دير الزور"، وهو اسمها الذي تشتهر به حالياً، وتبقى هذه رواية فقط، وهناك روايات عدة منها من يرى أن اسمها الحالي اكتسبته من الفرس، وهذا الرأي ضعيف للغاية.
على كل حال، كلمة "دير" تعني بيت، وكلمة "زور" تعني صعب، وعندما ننظر إلى التطورات التي مرت بها دير الزور في التاريخ الحديث وحتى اليوم نجد أن هذه الجغرافيا تستحق أن يطلق عليها هذا الاسم.
ساعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 على خلق توازنات جديدة في المنطقة، فالنظام الحاكم في سوريا دعم النظام العراقي بصورة غير مباشرة عبر دعم جزء من الجماعات المسلحة التي كانت تقاوم الأميركيين. وكما هو معروف فإن النظام في دمشق شجع على هجرة المسلحين من سوريا إلى العراق إبان الغزو الأميركي، وهذا خلق موقفاً صعباً نسبياً واجهته الولايات المتحدة.
ولعل النظرية أو الهدف الذي دفع النظام السوري لتقديم هذا الدعم لنظيره العراقي هو اعتقاده أن دور دمشق سيأتي بعد بغداد، معتبراً أن غزو العراق قد يكون مقدمة لغزو سوريا، لذلك أراد النظام أن تواجه القوات الأميركية مشكلات أخرى وعوائق جديدة، فكلما كانت مشكلات الولايات المتحدة في بلاد الرافدين أكثر فإن غزوها المحتمل لسوريا سيتأخر أكثر أو قد لا يحدث على الإطلاق، لذلك كان دعم الجماعات المسلحة ضد القوات الأميركية يفيد النظام السوري بصورة أو بأخرى.
في وقت لاحق بعد غزو العراق، ظهرت تقارير أميركية تقول إن دمشق كانت تقدم دعماً جزئياً لزعيم تنظيم "القاعدة" السابق في العراق أبو مصعب الزرقاوي. وأشارت هذه التقارير إلى أن الدعم للزرقاوي كان يأتي من طريق أشخاص تابعين للاستخبارات السورية مقيمين في دير الزور.
في حقيقة الأمر، إن التدخل الأميركي في سوريا لم يكن وليد عام 2011 بعد خروج التظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، بل نفذت الولايات المتحدة في الفترة ما بين 2008 وحتى 2010 عمليات سرية عدة في سوريا، وتحديداً في دير الزور، كانت هذه العمليات ضد "التنظيمات الإرهابية" الراديكالية. لم تكن واشنطن تبلغ دمشق بهذه العمليات، حتى إن بعض هذه العمليات أسفر عن اغتيال شخصيات مهمة، وتحييد أسماء كانت تدعم تنظيم "القاعدة" بعلم من النظام السوري.
بحلول عام 2011 خرجت دير الزور، مثل بقية المدن في تظاهرات واسعة النطاق غيرت مجرى التاريخ السوري، وسرعان ما تحولت إلى نزاع مسلح، فظهرت كثير من الجماعات المسلحة التي قاتلت ضد حكومة دمشق، فيما كانت معظم دول العالم بما فيها دول جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة داعمة للحراك في سوريا، وقدمت دعماً لفصائل المعارضة.
آنذاك خرج بشار الأسد في خطاب مما قال فيه، "إذا كنت تحمل عقرباً في جيبك، فسوف يلدغك هذا العقرب في يوم ما". قد يكون التعبير الذي استخدمه الأسد صحيحاً لكنه ينطبق أولاً على دمشق، لأن النظام السوري أيام حافظ الأسد كان يدعم حزب العمال الكردستاني، واستمر هذا الدعم متواصل حتى توقيع اتفاق أضنة عام 1998. وبعد 2011 وقفت الجماعات المسلحة الكردية ضد النظام وهي الآن تسيطر على مساحات شاسعة من سوريا بما فيها المنطقة الغنية بالنفط في دير الزور.
وأيضاً بعد 2003 قدم النظام السوري دعماً لمسلحين راديكاليين ضد الغزو الأميركي، وهؤلاء المسلحون ذاتهم واجهوا النظام بعد 2011، لذلك فإن "العقرب الذي حمله الأسد في جيبه قد لسعه بالفعل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد "نجاح" الغزو الأميركي للعراق، بدأت الولايات المتحدة بالتخطيط لاحتلال أجزاء معينة من سوريا، وحددت لها هدفاً إستراتيجياً هو المنطقة السورية الغنية بالنفط، دير الزور، وبما أن حكومة دمشق اتبعت إستراتيجية عدوانية ضد واشنطن فإن هذا أعطى الولايات المتحدة عذراً جديداً لتنفيذ خطتها في سوريا، وليس من المستبعد على الإطلاق قيام واشنطن باختيار منطقة دير الزور ليتم فيها إنشاء "كردستان" السورية، كونها منطقة مكتفية ذاتياً اقتصادياً، وفي حال إنشائها فإنها لن تخالف سياسة الولايات المتحدة بأي شيء، بمعنى آخر قد تكون "إسرائيل الثانية".
تصاعدت تدرجاً وتيرة العنف في سوريا، وبدأت الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية بالظهور واحدة تلو الأخرى، حتى تمكن تنظيم "داعش" من احتلال كامل دير الزور والحسكة ومناطق واسعة من سوريا، والسيطرة على معظم المناطق الغنية بالنفط والثروات الباطنية، وارتكبت الجماعات المتطرفة جرائم ضد الإنسانية في حق أهالي المناطق التي سيطرت عليها هذه الجماعات التي باتت تهدد الأمن العالمي، مما أسفر عن رد فعل عالمي غاضب أسفر ذلك عن تشكيل تحالف دولي لقتالها والقضاء عليها، علماً أن هناك نظرية قد تكون منطقية، تقول إن التنظيمات الإرهابية المتطرفة فعلت كل ما فعلته في سوريا والعراق بتوجيه غير مباشر من الولايات المتحدة بما يتماشى مع مصالحها.
تنظيم "داعش" فتك بأهالي دير الزور والحسكة والقامشلي وغيرها من المناطق التي سيطر عليها في ريف حلب وتدمر، وكان يتجه نحو دمشق والساحل السوري أيضاً لولا أن بدأ التدخل الفعلي لمواجهته، وفي البداية بقي التنظيم لأعوام يتمدد دون أن تعمل الولايات المتحدة لإيقافه، بمعنى آخر هناك من يرى أن واشنطن كانت راضية عن هذا التمدد، وفي الثلث الأخير من 2016 أطلقت تركيا أول عملية عسكرية برية لها في سوريا، حملت اسم "درع الفرات" تمكنت خلالها من طرد التنظيم من مناطق كثيرة في ريف حلب، وخصوصاً المناطق المحاذية للشريط الحدودي بين سوريا وتركيا.
ومن جانب آخر كان التحالف الدولي يشن غارات مكثفة على مواقع التنظيم حتى أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانتصار على "داعش" في آخر معاقله ببلدة الباغوز في ريف دير الزور الشرقي، واليوم نجد في دير الزور التي يشقها الفرات إلى قسمين وجوداً مكثفاً للحرس الثوري الإيراني في مناطق سيطرة النظام غرب نهر الفرات، ووجوداً للجيش الروسي أيضاً، ثم انتشاراً للجيش الأميركي، أقوى جيوش العالم، فيمكن الاعتبار أن الأمر في سوريا بدأ في دير الزور وسينتهي فيها.
في بداية أغسطس (آب) الجاري شنت جماعة مسلحة حملت اسم "جيش العشائر" هجوماً مفاجئاً على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وأصدرت الإدارة الذاتية بياناً اتهمت فيه حكومة دمشق بتنظيم هذا الهجوم، ولم تنف دمشق صلتها بالهجوم، بل أصدرت هي الأخرى بياناً اتهمت فيه "قسد" بالعمالة للولايات المتحدة.
على رغم أن "الانتفاضة العشائرية" ضد "قسد" في دير الزور جاءت بسبب معاناتهم من سياسة الأخيرة، وعدم موافقتهم في أن "يحتل حزب العمال الكردستاني مناطقهم العربية" فإن هذه الانتفاضة مدعومة بصورة مباشرة من دمشق وممولة أيضاً من إيران التي لها مصلحة في مثل هذه الاضطرابات بمناطق ذات نفوذ أميركي.
دعمت دمشق تحركات العشائر ضد "قسد" في محاولة لاستعادة بعض حقول النفط التي تسيطر عليها، وفي بداية الأمر استطاع مسلحو العشائر السيطرة على بعض البلدات، ولولا أن تدخلت القوات الأميركية بصورة مباشرة لاستمر تمدد زحف العشائر. أما موسكو فهرعت مباشرة لعقد وساطة بين الطرفين، ومحاولة إيجاد سبل مصالحة وعدم استمرار الهجمات المتبادلة، إلا أن جهود المصالحة الروسية لا تبدو ذات جدوى على المدى المتوسط.
ما حصل في دير الزور، وخصوصاً وجود أصابع إيرانية في القضية دفع الولايات المتحدة للتدخل الفوري، وتنفيذ ضربات جوية ضد المهاجمين، وفي حال استمرت الهجمات فإن واشنطن ستصنف الحكومة السورية والقبائل العربية التي تواجه "قسد" تنظيمات إرهابية، وذلك لأنها مرتبطة بإيران، تماماً كما فعلت مع حركة "حماس" و"حزب الله"، وبصورة أو بأخرى يمكن ربط أحداث دير الزور الأخيرة بالحرب الإسرائيلية على غزة.
في حال استمرت الأمور كما هي عليه الحال الآن فإن التصعيد يتجه لتزايد وتيرة الصراعات الطائفية والعرقية، وامتداد النيران إلى خارج حدود فلسطين، مما يؤدي إلى نشر حرب إقليمية تشعل المنطقة كلها، وتساعد إسرائيل في احتلال مزيد من الأراضي وتوسيع نطاق المستوطنات، وبهذه الحال تتحول المنطقة كلها إلى حال دير الزور وما تشهده من جيوش عدة وفوضى ومشكلات لا نهاية لها.
أحد الأسباب التي قد تسهم في منع مثل هذا السيناريو هو مواصلة أنقرة في خطواتها لتطبيع العلاقات مع دمشق، لأنه في حال كان هناك تعاون وتوافق بين الحكومتين فإن هذا قد يسفر عنه نوع من الاستقرار في سوريا عموماً وفي دير الزور على وجه الخصوص.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف، ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة اندبندنت التركية.