Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المنفى السياسي في عالم التواصل السريع: هل فقد قوته؟

يرتبط المنفى بآلام نفسية يصعب التصالح معها فيما تغيرت مفاهيمه بتغير ارتباط العالم ببعضه البعض

المعارض الروسي أليكسي نافالني الذي أعلنت وفاته خال تنفيذه الحكم بالسجن مدة 19 عاماً في الدائرة القطبية الشمالية (أ ف ب)

ملخص

ارتبط المنفى تاريخياً بإقصاء المخالفين ورفض الرأي الآخر على مختلف الأصعدة.

قاد المنفى إلى تشكيل المشهد السياسي والثقافي، وتنظيم علاقة الأنا والآخر في الحقل العام، إذ يعيش عالمنا الراهن في ظل تحولات طرأت على مستوى المفهوم نفسه، أي المنفى، في ظل المنظومة الحقوقية، وتعمق الثورة الرقمية، أو من خلال ظهور أنظمة واندثار أخرى بفعل انقلاب الموازين داخل لعبة الحكم بين السلطة والمعارضة على ضفتي الوطن والمنفى.

المنفى مأوى المخالفين

إن ظاهرة المنفى قديمة للغاية، وهي مستمرة حتى يومنا هذا، وتقترن بإجبار شخص ما على العيش مرغماً بعيداً من موطنه كعقوبة على مخالفته النظام القائم. ويشير الباحث الفرنسي برونو غروبو في بحثه Exiles et Refugies  إلى أن المقصود بالمنفى هو "العيش في بلاد غريبة، ليس بإرادة حرة، مع توق مستمر للعودة إلى الموطن"، علماً أن هذا التعريف يسعى قدر الإمكان لتبني الموقف السائد، والابتعاد من الاستخدامات المجازية التي تطلق أيضاً على "المنفى الداخلي" الذي يعيشه ناشطون متمايزون داخل بلدانهم.

واعتاد المختصون الربط بين المنفى والمهجر السياسي في حديثهم عن عمليات الطرد التي يقودها نظام سياسي قائم ضد خصومه السياسيين والمفكرين. وقد تطور المصطلح ليظهر "اللاجئ الإنساني" في مقابل المهاجر الاقتصادي. وبحسب المؤرخة الفرنسية إيمانويل لوييه، "استخدم مصطلح لاجئ في القرن الـ 19 للإشارة إلى المطرودين من المملكة الفرنسية بفعل السياسة الدينية المتبعة منذ عهد لويس الرابع عشر أو لأسباب سياسية، إلا أنه شهد تحولاً في القرن الـ 20"، ليشير إلى فئة، قد لا تعتنق فكرة دينية أو اجتماعية خاصة، وإنما أيضاً إلى من يختار "المنفى الطوعي" لا استمرار المواجهة، ولأسباب مختلفة قد تتصل بانتمائه العرقي، أو الديني، أو حتى الاجتماعي والسياسي. لذلك، يُنظر إلى المنفي بوصفه لاجئاً من نوع خاص، فهو قد يكون ذات صفة عسكرية، أو نقابية، أو فنية، أو رجال سياسة محترفين، إذ يستفيد من منفاه باعتباره منصة لممارسة السياسة نحو موطنه.

وتثير الباحثتان إليان غوبان وفاليري بيات الانحياز التاريخي ضد المرأة في معرض الحديث عن المنفى. علماً أن النساء عرضة لأشكال مختلفة من الاستغلال الجنسي والعنف، و"كأن المنفى حكر على الذكور"، علماً أن النساء أسهمن في المقاومة ضد الفاشية، وفي الحرب الإسبانية، ومحاربة النازية.

المنفى لمحاصرة المفكرين

ونظر الأقدمون إلى النفي بوصفه أداة فعالة لمحاربة المخالفين، من خلال إخراجهم من ديارهم وإرسالهم إلى أماكن بعيدة ومعزولة، في محاولة لمحاصرة أفكارهم وطروحاتهم. ولم يقتصر على دولة من دون غيرها، ففي ظل الإمبراطورية الرومانية، أُبعد الشاعر أوفيد، كما نُفي الفيلسوف ابن رشد بتهمة الإلحاد، وكذلك الحال في إيطاليا مع دانتي صاحب "الكوميديا الإلهية"، والعالم غاليليو غاليلي الذي تعرّض للعزل القسري بعد أن حاربته الكنيسة في العصور الوسطى واتهمته بالهرطقة بسبب اكتشافاته التي أدت إلى اهتزاز الأفكار المنتشرة في زمنه، ودفاعه عن كوبرنيكوس الذي أكد على مركزية الأرض. وبعد انتصار الثورة البلشفية عام 1922 في روسيا، نفى النظام الجديد 160 فيلسوفاً وأديباً وموسيقياً على متن ما عُرف بـ "القارب الفلسفي".

في المقابل، شكل المنفى الطوعي فرصة لتعاظم قدرات دول على حساب أخرى، ويُفهم هذا الأمر مع الإشارة إلى دور العلماء الألمان الهاربين و"المستدرجين" إلى الولايات المتحدة. وكانت البداية في عام 1933، عندما أجبر عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين على مغادرة ألمانيا النازية إلى الولايات المتحدة تحت وطأة الضغوط بسبب أصوله اليهودية، وخلفيته الفكرية المعادية للحزب النازي. ويشير الكاتب ستيوارت مكلارين إلى أن أينشتاين وفي طريق هربه من أدولف هتلر إلى الولايات المتحدة، اختبأ في كوخ خشبي بمقاطعة نورفولك في إنجلترا، حيث كان ضيفاً لدى أوليفر لوكر – لامبسو، وهو عسكري سابق في البحرية الملكية البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى.

وما هي إلا سنوات، حتى كرّت سبحة استقدام العلماء الألمان في الولايات المتحدة، كمقدمة للحصول على التكنولوجيا الألمانية المتطورة، واستمال الأميركيون العلماء الألمان من أجل العمل لمصلحتهم، وتمكن الأميركيون من إحضار ما يقارب 1600 عالم مع عائلاتهم للعمل في الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وتسخيرهم في تطوير ترسانة الأسلحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحكومة وإشكالية المنفى

وخلق المنفى إشكالية سياسية كبيرة إبان الحرب العالمية الثانية، في أعقاب الغزو النازي لفرنسا، وتوقيع المارشال فيليب بيتان هدنة مع ألمانيا النازية. ولاقى هذا الموقف معارضة شديدة من الجنرال شارل ديغول وعدد من الضباط، الذين فروا إلى لندن.

وأطلق ديغول المقاومة الفرنسية من المنفى، وأنشأ الهيئة الوطنية الفرنسية التي حظيت باعتراف من بريطانيا والحلفاء. وفي أغسطس (آب) 1940، حوكم الجنرال الفرنسي غيابياً بتهمة التمرد، وأصدرت المحكمة الفرنسية قراراً بالإعدام والحرمان من الرتبة العسكرية ومصادرة ممتلكاته. وحظي ديغول بتأييد شعبي كبير، وعرف بمهندس الجمهورية الفرنسية الخامسة، ولا يزال إرثه حاضراً في السياسة الفرنسية.

نفي المنفى

كذلك شكل المنفى المشهد السياسي في النصف الثاني من القرن الـ 20 في الشرق الأوسط، ولا سيما مع نفي رجل الدين الإيراني روح الله الخميني إلى تركيا ثم العراق وبعده فرنسا، وهو الذي عاد إلى إيران عام 1979 وقاد الثورة التي أسقطت الشاه محمد رضا بهلوي. 

وكان الخميني يخضع لرقابة مشددة في منفاه في مدينة النجف العراق، قبل أن يطلب الشاه من نظام الرئيس الراحل صدام حسين طرده.

النموذج اللبناني

عرف لبنان الحديث صيغة النفي السياسي ولا سيما من خلال الوجود السوري.

ومن أبرز الأمثلة الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون الذي قاد حرباً ضد الوجود السوري ولجأ إلى فرنسا، والدكتور عبد المجيد الرافعي الذي ينتمي فكرياً إلى حزب البعث العراقي الذي كان على خلاف مع البعث السوري، وغيرهما من الشخصيات المعارضة للسوريين.

ويشير الناشط رضوان ياسين، المقرب من الرافعي، إلى مشهد يكاد يتكرر في التعامل مع الأحزاب المعارضة، "اضطر عبد المجيد الرافعي لمغادرة لبنان (إلى العراق)، في زمن الوصاية (السورية) مع اشتداد الضغط والملاحقة والاعتقالات التي طاولت المئات من الكوادر وأعضاء الحزب، إضافة إلى احتلال مراكزه ومؤسساته حتى الخدمية منها".

كيف يكون النفي في عالم رقمي؟

قبل أسابيع قليلة، أثارت عودة الزعيم الانفصالي الكتالوني كارليس بوتشيمون بعد سبع سنوات في المنفى الكثير من علامات الاستفهام حول نجاعة النفي في عصر الثورة الرقمية، وانتشار الاتصال السياسي عبر الإنترنت.

ويقول الباحث الفرنسي ريمي ريفيل في كتابه "الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟" إن "الإنترنت يشجع التقارب بين الأفراد الذين يتقاسمون وجهات النظر نفسها، ويشكل دوائر ضيقة من المدونات والمواقع، لا تتسرب إليها أفكار أخرى، فالنقاشات السياسية تتم خصوصاً بين أفراد لديهم آراء متقاربة". 

من جهته، يتساءل أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية عفيف عثمان عن "فاعلية النفي في ظل ثورة الإنترنت في عالم أكثره أضحى منفياً، أو خارج وطنه الأصلي؟".

الطفرة التكنولوجية في مواجهة مقص الرقيب

أحدثت الطفرة المتسارعة في تكنولوجيا المعلومات والاتصال تغييراً جذرياً، ليس فقط في حياة الأفراد والمجتمعات، بل أيضاً في مبادئ ومفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية، حيث تحولت الدول معها إلى مجتمع للإعلام "أو مجتمع للمعلومات" مما جعل عصر العولمة عصراً متفرداً عن أي عصر آخر على مستوى الاتصال السياسي.

ففي خضم ما يسمى ثورة "القنوات الفضائية"، عندما شكل الإعلام الدولي والفضائيات الوسيلة الفضلى للمبعدين في العقد الأخير من الألفية الثانية، تخلت التيارات المعارضة في المنفى عن الأسلوب التقليدي من خلال تهريب المنشورات والكتب، كما كان يحدث قبل قرن وربما أكثر، وصبت جهودها على مخاطبة المواطنين عبر شاشة التلفاز "السحرية" وصولاً إلى هواتف ذكية بين أيديهم، الأمر الذي شكل تحدياً للأنظمة التي وجدت نفسها عاجزة عن قطع البث في كثير من الأحيان.

ومن عصر الشاشة السحرية إلى عصر التكنولوجيا الذكية والتواصل السهل مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي حرمت النفي السياسي واحدة من أهم مميزاته، وهي إبعاد آراء وتأثير الشخص المعارض عن المواطنين في بلده الأم، وبذلك بات اليوم المنفى السياسي أقل تأثيراً بالمقارنة مع مراحل سابقة.

واليوم نرى أن السياسي المبعد إلى خارج حدود وطنه يطل على الذين تفصله عنهم آلاف الأميال، ينتظرون تغريداته وبثه المباشر، ويتفاعلون معه عبر منصات التواصل الاجتماعي بحرية بعيداً من رقابة السلطة.

النجاة باللغة

هناك مقالة مشهورة للمفكر إدوارد سعيد كتبها في عام 1984، بعنوان "ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى"، إذ عرّف المنفى بأنه "هوة قسرية لا تتجسر بين الكائن الشرعي وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع، وإن كانت إنجازات المنفي فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد".

ويعتبر عثمان أن "هناك عبارتين أساسيتين في هذا النص، التشديد على الحزن والفقد، وهذه مخصوصة بالنفس، أي تلك النفس التي اقتلعت من أرضها الأصلية، وهذا لا يجسره لا إنترنت، ولا "واتساب"، ولا "إنستغرام"، معتبراً "هذه الوسائل الحديثة للتواصل تفيدنا بما يحصل في الوطن، ولكنها لا تخفف من وطأة الحزن والفقدان الموجودة". 

من هنا "لا يبقى أمام الكائن المنفي إلا اللغة ليسكن إليها"، كما يقول سعيد، "فاللغة تبدو هي طوق النجاة عند هذا المنفي، فهو لا يستطيع أن ينجو إلا من خلال التعبير بلغته الخاصة"، بحسب عفيف عثمان الذي ينبّه من أن "الإقامة في اللغة المنفي إليها هي إقامة قسرية، لا تنفع في علاجها وسائل التواصل الحديثة، وهذا ما نفهمه من تجارب المنفيين السابقين كلهم". وفي هذا السياق، يتطرق إلى ما نستطيع أن نراه في الشعر الفلسطيني نفسه من قسوة ومرارة هذا النفي والمنفى، مضيفاً "فهم قد يعيشون في أميركا، أو فرنسا، وفي ألمانيا، ولكن لا شيء، ولا أي وسيلة تواصل تستطيع أن تمنع هذا الحزن وهذا الفقدان في المنفى".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير