Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة مستعادة بين مدينة بورتسودان وشمال النيل

مشاهدات وذكريات يرويها السوداني سيد بلال أحمد في "عنابر ديم التيجاني"

منظر من النيل في السودان (صفحة سودان - فيسبوك)

ملخص

يتنقل الكاتب السوداني سيد احمد بلال  في كتابه الجديد "عنابر ديم التيجاني" ( دار المصورات 2024) بين مكانين أحدهما قرية الكاتب، حزيمة، في الجزء الشمالي من النيل على خريطة السودان، والآخر مدينة بورتسودان الناشئة استعمارياً، بديلاً لميناء مدينة سواكن العريق منذ أوائل القرن الـ 20 في شرق البلاد.

يبحث الشاعر عن ذاته كلما عنت له الكتابة، وفي الشعر قد يجد مطلق الحرية في توسيع حدقة الذات، لكنه حين يكتب سيرة المكان حيث لا مناص أيضاً من مهاوي ذاته، فإن جنس الكتابة الذي يتولد من النثر في أصالته التقريرية يضحي عملاً متأرجحاً بين الذات والمكان، كما نقرأ في مذكرات "عنابر ديم التيجاني"، للشاعر والمترجم السوداني سيد أحمد بلال.

وفي مشاهد قصيرة مشحونة بالتفاصيل والمشاهدات، يستنطق سيد أحمد بلال فضاء مدينة بورتسودان، ويروي بنضج الشاعر قصة الطفل ومشاهداته. ولم تكن رحلة الطفل الصغير مقاربة بين مكانين بل رحلة تخلقت فيها عوالم الطفل الذي سيغدو في زمان آخر شاعراً أغدقت عليه الموسيقى بإلهامها "الموسيقى لا تقول كلاماً، ولكنها تردم الهاوية/ الموسيقى لا تقول كلاماً، لكنها تفتح الطرقات ما بين مركز القلب وأطرافه النائية /الموسيقى لا تقول كلاماً، ولكنها تصحب الروح وهي تعتلي القافية/ الموسيقى لا تقول كلاماً / لكنها تفرش الدرب للقدم الحافية/ الموسيقى لا تقول كلاماً، ولكنها تمنح العافية".

ويضع سيد أحمد بلال مذكراته التي يروي فيها جزءاً حميماً من طفولته في رف الكتابة عن الذات والمكان والإنسان، من رفوف المكتبة السودانية التي طالما عرفت ألواناً من كتابة السيرة، ربما لم يكن أولها "تاريخ حياتي" للشيخ بابكر بدري، ولم تكن نهاياتها لدى "قطار العمر" لمحمد خير البدوي ولا غيرها من تراث كتابة السيرة السوداني.

لكن مغايرة "عنابر ديم التيجاني" الأسلوبية تكمن في أن الكاتب فوض نفسه راوياً لحكايا عمال المدينة الساحلية عقب استقلال البلاد عام 1956، تاركاً ذاكرته تتداعى في وصف المكان والناس، وعمال الميناء في بورتسودان وبؤس حالهم وبساطة أحلامهم. وبعين الطفل الذي ساعده تعلمه في الكتابة والقراءة، قبل أن يخوض غمار التعليم النظامي على استكشاف الحياة باكراً، يستعيد بلال آفاق حياة العمال عبر الذاكرة، إذ تختزن الأحداث وتنضج في دخيلة الشاعر والطفل في آن.

وانتقل الطفل سيد أحمد من قريته حزيمة في شمال السودان إلى مدينة بورتسودان، حيث كان والده عاملاً في الميناء ويعاني قسوة المدينة المصممة على يد الإدارة البريطانية التي بذلت جهودها لتأسيس كيان حضري جديد يتسق مع نظرتها إلى المدينة المثالية وكيفية تخطيطها وتنظيم إدارتها، ويمتح من عوالم العمال في ديم تيجاني، الحي البورتسوداني الذي ضم مساكنهم وأحلامهم البسيطة. ويقول بلال واصفاً نشأته بين عالمين حزيمة وبورتسودان، "عشت في عالمين، العالم المنضبط لأبي الذي أمضي معه ثلاثة أرباع العام في بورتسودان، والعالم الحر لأمي التي أمضي معها ربع العام في حزيمة، وبين العالمين قطار وتصاريح سفر ومحطات عدة وخط سير طالع ونازل".

وتلقي الأحداث السياسية لما بعد استقلال السودان أواخر الخمسينيات وحتى الستينيات ظلالاً خفية على الكتاب، في الحين الذي يمضي فيه الكاتب لإضفاء دور البطولة على الأحداث العادية التي تجري في عنبر ديم التيجاني المخصص لعمال الميناء، مثل الورديات ورسائل العمال إلى أسرهم في أصقاع البلاد المختلفة، ونظام المدينة وبنائها، وطبقاتها الاجتماعية، والطقوس الدينية، والموسيقى والغناء، والسينما وكرة القدم".

وفي شذرات سيرة الطفولة تتشكل حياة الشاعر، وعلى إيقاع المدينة الساحلية يبدأ الكاتب رحلة الاطلاع والقراءة في سن باكرة من مكتبة أخيه الخريج الأزهري إبراهيم، ماراً على أعمال كتاب كنجيب محفوظ والبياتي وإحسان عبدالقدوس وسلامة موسى والسياب وصلاح عبدالصبور جنباً إلى جنب مع أشعار المتنبي والبحتري وأبي تمام.  ومثلما كانت المدينة الساحلية ذات أثر على مبدعين كثر، ومحط إلهام لشعراء مثل مصطفى سند وحسين بازرعة، شكلت أدق تفاصيل الحياة في بورتسودان وجدان بلال الشاعر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم أن الجزء الأساس من متن الكتاب شهادة عن حياة عمال ديم التيجاني في بورتسودان خلال الفترة من 1957 وحتى 1965، وهي الفترة التي قضاها بلال مع والده خلال دراسته، إلا أنه لا يخلو من مقاربات ونظرات أدبية لروايات الطيب صالح، وقصائد من المحكية السودانية لمحمد الحسن سالم حميد، وقصائد أخرى للشاعر السوداني إدريس جماع.  يذكر أن مدينة بورتسودان قد تأسست في بدايات القرن الـ 20 خلال فترة الاستعمار البريطاني لتحل مكان ميناء سواكن، أقدم الموانئ على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر. ويعد "ديم التيجاني"، محور الكتاب، من أقدم وأكبر الأحياء العمالية في مدينة بورتسودان، ونسبة إلى ضعف الأجور وعدم قدرة العمال على تحمل كلفة السكن مع أسرهم في المدينة، فإن معظمهم تركوا عائلاتهم في القرى التي جاءوا منها ليسكنوا أفراداً في الثكنات المسماة بالعنابر، وهي تابعة لإدارة الميناء.

وخلال عقود تطورت بورتسودان من مرسى صغير يطلق عليه الشيخ برغوت إلى ميناء بحري حديث عامر بالنشاط التجاري والصناعي، ومركزاً جاذباً للعمالة من داخل وخارج السودان، وقد تحولت إلى مدينة كوزمو بلاتينية بحسب تعبير أستاذ التاريخ الأفريقي أحمد العوض سكينجه، في مقدمته للكتاب. وقدم الكتاب توصيفاً دقيقاً لتجربة مجموعة من عمال الميناء اضطرتهم سبل الحياة الطاردة في قراهم حول أصقاع السودان للجوء إلى مدينة غريبة عليهم في مناخ صناعي وعالم حضري، لكن عبر نضالهم اليومي استطاعوا خلق هوية مميزة تحت وطأة نظام عمل صارم، مما عزز من قيم التضامن بينهم.

ويقول المؤلف متحدثاً عن عمال ديم التيجاني إن "هؤلاء الناس وجدوا أنفسهم في إطار شروط حياة فرضتها عليهم الثقافة والقيم فتوافقوا معها وصمدوا لها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة