Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مدينة آدم" ديوان زاهر الغافري الصادر لحظة رحيله

في قصائده الأخيرة يبرز الترحل بين مدن العالم والطابع التجريبي مرفقا بغنائية حديثة

الشاعر الراحل زاهر العماني (صفحة الشاعر - فيسبوك)

ملخص

لم يتمكن الشاعر العماني زاهر الغافري من أن يفرح بصدور ديوانه الأخير "مدينة آدم" (دار مرفأ، 2024)، فالموت وافاه قبل أيام عن 76 عاماً. في هذا الديوان يبرز موضوع الترحل عبر أصقاع العالم وصولاً إلى مدينة مالمو السويدية، محل إقامته، وتترسخ تجربته الشعرية التي امتدت لأكثر من 40 عاماً، أصدر خلالها 12 ديواناً.

تتكون المجموعة الشعرية الحديثة "مدينة آدم"، ذات الـ90 صفحة، من قصائد عدة، بل من أنواع من قصائد النثر، تترجم التنوع الأسلوبي الذي تتميز به كتابة زاهر الغافري الشعرية، تجريباً وتجديداً وبوحاً وتوسعة للعالم وتوشيحاً لحساسيات يريدها فريدة، ومختلطة بشواغل الكائن المنفي طوعاً، إلى أقصى أطراف الأرض المنبسطة. يجد القارئ فيها، إلى جانب القصيدة ذات البنية العمودية (أي التي تتوزع الأسطر الشعرية فيها، غير المتوازية، على نحو عمودي)، نظير قصيدة "احتجاج" و"عصفورة الشرق" وأيتها المرأة"، و"فوترالبا جورج حنين"، و"ملك الغجر"، و"قبل مجيء الصباح"، وغيرها، قصائد - أقاصيص، أو ذات بنية سردية - تأملية في الغالب، من مثل قصيدة "سجين"، و"في الطريق إلى دخان الجمرة"، و"ما زلت أنتظر طفولتي"، و"جاءني الصوت"، و"سأكلمك أنت"، وغيرها. كما يجد القارئ نوعاً آخر، في المجموعة، هو النشيد الشعري الذي جعله الشاعر إطاراً لتأمليته الأعمق في منفاه السويدي، بعنوان "نشيد صباحي"، ويقع في 26 صفحة، ويتألف بدوره من (41) مقطعاً وقصيدة شعرية.

لكن المناخ، والفكرة، والحالة الشعرية تسبق جميعها التشكيل، في كتابة زاهر الغافري، من دون أن ننسى سعي الشاعر إلى تذويب معارفه الشعرية، في سبيل صياغة نص شعري كثير الدلالات، ونابع من رؤية للعالم مختلطة في تناقضاتها، نظير اختلاط الأمكنة ومدن المنبت والمنفى، وامتزاج الحدود ما بين الموت والحياة، وبين الشيطان والملاك، وبين الشرق والغرب، والقتامة والانشراح، وبين اللذة ومضارها، وبين الوحشة في الغربة واليقين بتلاشي معنى الكائن في الوطن. وهكذا دواليك، إلى أن يبلغ الشاعر، هذا الكائن الفرد، المتمرد، والمشغول بتزجية زمنه القصير بلذائذ ومثل نافعة، حد إشباع اللحظة الشعرية بما يفي المطلوب من المنظور المعين.

صرخة المهاجر

يطلق الشاعر الغافري، عبر قصائده، موتيفات، يراها بعينه، ويؤثث لها عالماً من خياله، وهواجسه، ومتاعبه، وأحلامه المعاد الكشف عنها. وإن كان العنوان المستل من القصيدة الثامنة، بحسب ورودها في المجموعة الشعرية، يغطي جزءاً ليس إلا من هذه الموتيفات، أو الموضوعات، إلا أنه يعكس جانباً مهماً من انشغالات الذات الشاعرة، ومعاناتها المديدة والصامتة. وما الكلمة المضافة (الصرخة) هنا إلا من أجل كشف الغطاء عن تفاصيل هذه المعاناة، والتبسط في مضامين هذه الرؤية، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ينتقل الشاعر، من "احتجاجه" على "المهانة" التي يحملها ("جسدي الملدوغ يشعر بالمهانة"، ص12)، ويعزم على المرافعة في شأنها لاحقاً، إلى الكلام على المرأة الثكلى ("عصفورة الشرق")، نموذجاً للأنثى الحاملة نبوءة "الشرق في ليل الوجود" (ص13)، فإلى الحديث عن شخصية أنثوية نموذجية أخرى، هي المرأة الباعثة على الفرح ("لأن بضحكة واحدة منك تدفنين آلامي"، ص14)، وبها تتحقق المصالحة بين ذات الشاعر والكائنات الطبيعية، على غرار ما يشيعه المذهب الأورفي الرومنطيقي من سمات مثالية في المرأة، إذ يقول: "سيأتي العاشق إليك/ من جرح انعكاسات الضوء/ طفلة الحياة في إغماضة العين/ التي شاءت وقدرت/ وعادت إليها الطيور والفراشات/ الحديث معك يعني/ كلمة تصل إلى الأرض" (ص15)

بالفعل، هي صرخة مهاجر فتنته الغربة، أول الأمر، ثم لم تلبث أن دفعته إلى التعاطف مع المهاجرين الذين آلمهم الحنين، فراح يحيا بمزاجه الفردي والفني بينهم، "متعب، يائس، وخائف من العالم/ يشرب كأس نبيذ وينظر/ إلى اللوحة الوحيدة فوق الجدار" (ص23)، و"يسمع صرخة آتية من العدم"، تدليلاً على فرادة موقفه من الوجود، وعدم انسجامه مع جماعته من المهاجرين.

وعلى رغم استغراق الشاعر زاهر الغافري في ذاتيته، وعالمه الداخلي، وخطابه العدمي الموشح بقدر من الغنائية الأورفية، تراه يجد من المفيد إعادة التذكير بالشخصية المشوهة، أعني "الطاغية"، التي كانت دافعاً حاسماً له لكي يغادر البلاد، شأن الكثيرين. ففي قصيدة "مدينة آدم" (ص30)، يبتدع الشاعر إطاراً فانتازياً يكون فيه يخت الطاغية مبحراً عكس التيار، وراهبات يخلعن ثيابهن ليجعلنها بمثابة الصاري، إلى أن يصير أشبه بالأشرعة البيضاء وهي "تقترب من الجحيم" (ص30). ولا يزال حتى يجرد على الطاغية أوصافاً سلبية يستحق عليها العقاب، مثل تكميمه الأفواه، متوعداً إياه بالمنازلة الشديدة ضده، وضد أي طاغية. ويختم خطابه هذا بأن يحث الطاغية على استذكار ذلك، والتأمل في المستقبل، الذي لن يكون لصالحه حتماً: "لسنا أبطالاً يونانيين نحن أبطال الحاضر/ والمستقبل تأمل ذلك أيها الطاغية" (ص30).

احتفالية الحب

ثم إن الشاعر، وبعد أن يستكمل خطابه السالف، يعمد إلى حشد خليطه الشعري، بل كتابته الشعرية المتشكلة من سرد، وصور شعرية، ومشاهد تمثيلية، ومداورات أسلوبية، واقتباسات، من أجل أن يحيي احتفالية عالية بالحب ("في مديح المطر والمرأة الحائرة")، تترجم تصوره المثالي للمرأة المغوية، والحقيقية، والتي تصالح عاشقها (الشاعر) مع كائنات الطبيعة، في آنٍ معاً.

"قم بتلك القفزة العنيدة حتى لا تتعثر في المشي/ قم من أجل عينين جميلتين للمرأة التي تراك من ناصية الباص/ كن لها اليد المثلى/ كن يدها التي تتعافى من الثلج/ عندئذ ستجعلك إلهاً حياً يمشي بين الناس... ليست من "زوار الشتوة الأولى/ إنما من زوار البحر المقطوع بالصمت..." (ص31-32).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن هذه الاحتفالية (بالحب) تسري كذلك على عديد من القصائد، ولا سيما في القسم الأول، غير المعنون، في المجموعة الشعرية، عبر قصائد من مثل "نهر"، و"وضوح"، و"إذا كان العالم واضحاً" و"سأكلمك أنت" وغيرها، وفيها يبرز الشاعر حضور المرأة على أنه منقذ له من وحدته، ومساهم حي في إحياء عشقه الذي يتخطى به شعوره بثقل الزمن: "استيقظ العاشق بين نهري ذراعيها/ وكاد يسقط/ إلى الهاوية، لولا كلمة تشبث بها بصبر حتى النهاية" (ص36)، أو "المرأة عارية تماماً، تخطف عينها عصفوراً/ خلف ظهرها كما لو كان العصفور لقية ثمينة لا يمكن/ أن يراها أحد..." (ص37)، أو "مع ذلك تبقت امرأة مطاردة لتلبية الدعوة، لتسمع المزمار أمام النهر كأن المرأة مأخوذة بالتيار الذي يجري تحت قدميها العاريتين..." (ص59).

بل إن المرأة المعشوقة، ههنا، تتبدى شريكة في الحالة الأورفية التي ظهرها الشاعر، باعتبارها الشاهدة المثالية على الغناء والنشيد الشعريين اللذين يتلوهما الشاعر، ويحقق بهما هويته الإنسانية والفنية والجمالية، على حد سواء. ولعلها، أي المعشوقة نفسها، تكون فاعلة أورفية بدورها، كما صورها الشاعر، ومنشدة أغاني ريفية "عن أوهام الأشجار، وطائر في الغابة" على الهيئة الرومنطيقية الأصيلة كما وجدناها لدى ريلكه، الذي يجعل الحب والجنس فضاءً مشرعاً على التحول والتحرر الروحي.

نشيد صباحي إلى غوتلاند

أما القسم الأخير من الكتاب، والواقع تحت عنوان "نشيد صباحي إلى غوتلاند"، فهو كناية عن لوحة شعرية كبرى، تتموضع في متنها مشاهد، وانطباعات، وصور شعرية، مختلطة بأساطير نامية إلى المكان (تور، إغدراسيل، إيثاكا، السيكلوب، الهركول، وكلب الجحيم (سربروس)، وأنكيدو، وبيبلوس، وغيرها)، يروي فيها الشاعر ما جرى له في الجزيرة (غوتلاند)، وما رأى فيها، في محاكاة لتجربة أوليس بملحمة الإلياذة، بعيد انتصاره في معركة طروادة، وارتحاله لاكتشاف الشواطئ النائية، إذ الحوريات وأناشيدهن الفاتنة. إذاً، ينطوي هذا النشيد على 41 مقطعاً شعرياً، وقصيدة متراوحة الطول، يستثمر فيها الشاعر كل ما أوتي من قوة إيحاء، وتخييل، وخزين معجمي غني، وتراكيب جملية، وأنماط متداخلة (بين سرد، ووصف، وانطباع، وتأمل، وتشبيه تمثيلي، وترميز، وأساليب تعبيرية، وتكرار خفي، وغيرها) من أجل صوغ صورة أسطورية كبرى عن مكان قيد الاكتشاف، هو موضع تجربة الشاعر الفريدة والجديرة بالاحتفاء والدهشة، كما لو أنها لوحة جدارية شعرية كبرى، تؤرخ لنهوض الشعر إلى ذروة الكشف والبنيان، على ما أرادهما الشاعر زاهر الغافري.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة