Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما الذي يدفع مزيدا منا إلى عدم إنجاب الأطفال؟

إن الأرقام لا تكذب: في كل أرجاء العالم ينجب السكان أطفالاً أقل فيما تلوح في الأفق مخاوف في شأن شيخوخة السكان، فما سبب فقدان بريق الأمومة والأبوة؟

 وداعاً للطفولة والأطفال: ما الذي يعنيه تراجع الخصوبة حول العالم بالنسبة إلى المستقبل؟ (غيتي)

ملخص

أعداد المواليد تتراجع في كل أنحاء العالم، ما عدا أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما تدنت معدلات المواليد في ثلثي دول العالم إلى أقل من معدل الاستبدال. هذه المشكلة تبرز خصوصاً في دول جنوب شرقي آسيا، فتايوان والصين وتايلاند واليابان جميعها أقرب إلى قاع معدلات الخصوبة

خلال الآونة الأخيرة، انتشرت تغريدة بصورة كبيرة تطرح سؤالاً بسيطاً "ما النظرية التي تؤيدها لتفسير أسباب تراجع معدل الولادات؟".

وتفاوتت الإجابات عن السؤال بصورة هائلة.

"أصبحت توقعات الجميع في كل مكان أعلى في كل المجالات، الزوج ونوعية الحياة المتوافرة للأطفال... إلخ. يمكن فعلياً اعتبار هذه الأفكار منطلق كل شيء".

"وسائل تحديد النسل + كلف المعيشة".

"يشعر الأفراد بتوتر شديد ويكدون في العمل ويركزون بصورة أكبر على مسيرتهم المهنية وأهدافهم الشخصية".

وأخيراً، تلك الإجابة المضحكة "لؤم الرجال وغلاء كل شيء".

إن خفض معدلات الإنجاب حقيقة راسخة وموضوع يكتسب اهتماماً متزايداً. داخل المملكة المتحدة، تتراجع معدلات الولادات بصورة ملحوظة منذ عام 2010، وقد انخفض متوسط عدد المواليد داخل إنجلترا وويلز إلى 1.49 طفل لكل امرأة خلال عام 2022، وهذا أدنى معدل مسجل على الإطلاق. وأقل بكثير مما يسمى "معدل الاستبدال" الذي يبلغ 2.1 طفل لكل امرأة ويحدد عدد الأطفال المطلوبين في الدول المتقدمة للحفاظ على ثبات نسبة السكان. 

لكن الموضوع لا يقتصر على المملكة المتحدة وحدها، فأعداد المواليد تتراجع في كل أنحاء العالم، ما عدا أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد تدنت معدلات المواليد في ثلثي دول العالم إلى أقل من معدل الاستبدال. وتبرز المشكلة خصوصاً في دول جنوب شرقي آسيا، فتايوان والصين وتايلاند واليابان جميعها أقرب إلى قاع معدلات الخصوبة. 

 

وفقاً لأستاذة علم الشيخوخة في جامعة أكسفورد والحائزة وسام الإمبراطورية البريطانية البروفيسورة ساره هاربر هناك اتجاهان رئيسان يؤثران في تراجع معدلات الإنجاب. الأول هو امتداد لظاهرة بدأت في أوروبا قبل 250 عاماً، إذ إن " تحسين مستوى تعليم النساء والخدمات الصحية المقدمة لهن، ينجم عن خفض عدد الأطفال الذين تنجبهن المرأة. وهذا أمر جيد جداً، إذ يعني أن مزيداً من النساء يتمتعن بصحة جيدة ومتعلمات ولديهن القدرة على تنظيم الأسرة".

أما الاتجاه الثاني فقد حدث على نحو أكثر حدة خلال الـ30 عاماً الماضية، وهو ملحوظ خصوصاً في آسيا وأميركا اللاتينية. وهذا الخفض الثاني في الخصوبة الذي نرى فيه تراجع معدلات الولادات إلى ما دون 1.5 طفل "يبدو مدفوعاً بديناميات مختلفة" كما تقول البروفيسورة هاربر. و"تتطابق إجابات الشابات في جنوب شرقي آسيا وأوروبا، إذ يقلن نعم، هناك مشكلات اقتصادية ووظائف غير مضمونة أو تحديات في ما يتعلق بالسكن الميسور الكلفة. لكنهن يقلن أيضاً 'أنا متعلمة وأدرك أنني إن أنجبت طفلاً فسيتغير أسلوب حياتي. وأريد أن أفكر في الوقت المناسب لإنجاب طفل'. وربما يخترن عدم الإنجاب أو تأجيل إنجاب طفلهن الأول، أو إنجاب طفل واحد فقط".

وفي كوريا الجنوبية، التي كانت بالفعل تمتلك أدنى معدل إنجاب في العالم انخفض المعدل مرة أخرى العام الماضي إلى مستوى قياسي منخفض قدره 0.72. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الشباب في العشرينيات والثلاثينيات من العمر مهتمون أكثر في إنفاق أي مدخول يتوافر لهم على الموضة والمطاعم والسفر. "إنهم يسعون وراء الوصول إلى مكانة معينة. تبين عادات الإنفاق الكبير لدى الشباب أنهم يعملون على ترسيخ علامات النجاح الخاصة بهم على الإنترنت بدل التركيز على الأهداف المستحيلة التي يمثلها الزواج وإنجاب الأطفال" كما قال بروفيسور علم الاجتماع في جامعة سيول للإناث جونغ جاي هون لـ"رويترز".

ومن جانب ثان، دفع تعمق الهوة بين الجنسين إلى تشكيل حركة هامشية سميت "فور بي" 4B، ترفض النساء المؤمنات بها مواعدة الرجال وإقامة علاقات جنسية والزواج والإنجاب، في رد فعل على كراهية النساء المتأصلة في البلاد. وأظهر استطلاع للآراء من عام 2016 أن العنف الذي يمارسه الشريك الحميم بلغ 41.5 في المئة داخل كوريا الجنوبية، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 30 في المئة، فيما يعد الفارق في الأجور بين الجنسين داخل البلاد الأكبر بين دول العالم المتقدم.  

تعبر النساء بصورة أكبر عن حاجاتهن وعن ضرورة وجود عدل ومساواة في العلاقات

البروفيسورة براغيا أغاروال

 

تبدو هذه الظروف خاصة جداً بكوريا الجنوبية، ولكن الواقع الذي تعكسه قد يكون له صدى أبعد من ذلك. فقد حل على العالم ما يشبه متلازمة بيتر بان إذ يسعى البالغون إلى إرضاء أنفسهم بعناصر رفاهية وترف صغيرة في ظل شعورهم بالعجز عن تحمل كلفة المراحل الرئيسة في الحياة من قبيل شراء منزل وإقامة حفل زفاف وإنجاب الأطفال، وهو عالم يشعر فيه الرجال والنساء من الجنسين المغايرين بتباعد أكبر بينهما عندما يتعلق الأمر بالأيديولوجيا والنضج العاطفي.

عندما استطلع الزميل البارز في معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة دانيال كوكس آراء أكثر من 5 آلاف شخص داخل الولايات المتحدة في شأن المواعدة والعلاقات، قالت نحو نصف الخريجات الجامعيات إنهن عازبات بسبب معاناتهن من أجل إيجاد شخص يرقى إلى مستوى توقعاتهن. وأشار كوكس إلى أن مقابلاته مع المشاركين الذكور كانت "محبطة"، فقد وجد أن الرجال كانوا "محدودين في قدرتهن واستعدادهم لأن يكونوا حاضرين عاطفياً بالكامل وقادرين على تقديم الدعم الكامل".  

ومن جانبها، خلصت عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة "يال" مارسيا إنهورن في كتابها المعنون "الأمومة المعلقة: عن فجوة التزاوج وسبب تجميد النساء لبويضاتهن"، إلى أن أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع النساء المتعلمات لتجميد بويضاتهن هو عدم قدرتهن على إيجاد الشريك المناسب. وعددت الشعور بـ"الإحباط والألم وخيبة الأمل" بين النساء اللاتي كن "جميعهن بلا استثناء تقريباً… 'يحاولن جاهداًت' العثور على شريك محب" من دون أن تتكلل محاولاتهن بالنجاح.  

ألاحظ أوجه التشابه بين هذا التباين في التوقعات عندما أفكر في وضعي كامرأة تبلغ من العمر 37 سنة وليس لديها أطفال. إن عدم إنجاب الأطفال لا يبدو وكأنه قرار متعمد، بل يبدو وكأنه أمر حتمي بسبب الافتقار إلى الشركاء المحتملين الراغبين في الاستقرار وتحمل مسؤوليات العلاقة على محمل الجد. وعلى رغم وجود عديد من الأمور التي يمكنني التنازل عنها فأنا أعلم أنني لن أرغب في إنجاب الأطفال إلا في ظل ظروف محددة للغاية، مع شريك ملتزم يمكنني أن أثق في قدرته على تقاسم مسؤوليات التربية ورعاية الأطفال بالمناصفة.

 

وتؤيد هذا الكلام البروفيسورة براغيا أغاروال مؤلفة كتاب "الأمومة وما بعد، خيارات أن تكوني امرأة"، فتقول "النساء أصبحن أكثر صراحة في شأن ما يحتجن إليه، ويشترطن أن تكون العلاقة متكافئة ومتساوية... ليس من المقبول بعد الآن أن تكون مسؤولية المرأة وحدها رعاية الأطفال أو القيام بأعمال معينة في المنزل. هناك نقاش أوسع يدور حول العبء العاطفي والنفسي الذي تتحمله النساء. كثير من الرجال الذين كانوا في مراكز أعلى في الهرم الاجتماعي لم يعترفوا بفكرة أن هناك عدم مساواة في السابق، وأن عليهم الآن أن يتحملوا مسؤولياتهم. هذا يخلق تحديات في العلاقات بين الجنسين إذ توجد فجوة بين توقعات النساء والرجال". 

وما يعنيه هذا عملياً هو أنه على رغم ارتفاع عدد النساء اللاتي يخترن عدم الإنجاب مقارنة بالعقود السابقة (دون أن تلاحقهن أية وصمة أو عار اجتماعي بالدرجة نفسها بسبب هذا الخيار)، فبعض النساء لا ينجبن بسبب الظروف وليس بسبب خيارهن.

وتضيف البروفيسورة "من المذهل أن تتمكن النساء من قول 'هذا هو نوع الحياة التي أريدها ولست مستعدة للمساومة في هذا المجال'. لكن بعض النساء يرغمن على اتخاذ هذا الخيار حتى عندما يرغبن في الإنجاب لأن البديل هو أن يتحملن العبء كاملاً أو أن يصبحن أمهات فيتوقف التقدم في مسيرتهن المهنية. ولا يحظين بالدعم المطلوب في مكان العمل ولا في المنزل، ويشعرن بالإنهاك طوال الوقت، مالياً وعاطفياً وجسدياً".

أحد الأسباب الذي لا يشجع النساء على الإنجاب هو البنية التحتية المجتمعية من خلال تدهور شروط الأمومة وتكلفة رعاية الأطفال الباهظة. ففي المملكة المتحدة، ارتفعت كلفة رعاية الأطفال بنسبة ستة في المئة تقريباً خلال العام الماضي، مما رفع متوسط كلفة حضانة طفل تحت السنتين إلى 14836 جنيهاً استرلينياً سنوياً، مما يجعلها ثالث أغلى دولة في العالم من حيث كلفة رعاية الأطفال بناء على دخل زوجين بالمتوسط، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وكشف مسح لعام 2023 شمل 1000 من الآباء والأمهات الذين لديهم أطفال دون سن الرابعة أن 63 في المئة منهم قد تأخروا في إنجاب طفل آخر أو قرروا عدم الإنجاب بسبب كلفة رعاية الأطفال.

لدينا أيضاً مسألة القلق من تغير المناخ، وهو خوف حقيقي ينتاب الآباء المحتملين من إنجاب أطفال في عالم يبدو مستقبله مجهولاً، بل أقرب إلى الرهيب. ووجدت دراسة أجرتها جامعة "نوتنغهام" خلال عام 2022 أن 48 في المئة من البريطانيين يوافقون بأن القلق من تغير المناخ دفعهم نوعاً ما إلى التفكير بضرورة عدم الإنجاب أو إلى الندم من إنجاب أطفالهم.     

لكن المشكلة وفقاً لأحد التوجهات الفكرية، أكبر من ارتفاع التوقعات المتعلقة بالمساواة أو محنة "الضياع والطيش" لدى الرجال، أو العوائق المالية أو حتى القلق من احتراق الكوكب. فالمشكلة في الواقع قد تشمل كل هذه العوامل وأكثر ويمكن عزوها إلى نوع من "الركود العالمي". فقد أدى عدم المساواة والعزلة الاجتماعية إلى "وباء من اليأس"، وهذا هو السبب وراء خفض معدلات الخصوبة في جميع أنحاء العالم، وفقاً لدراسة لعام 2024 من قبل عالمي الأعصاب في جامعة بنسلفانيا مايكل بلات وبيتر ستيرلينغ. 

ويرى الباحثون أن السبب وراء هذا الارتفاع "الكارثي" في معدلات القلق والاكتئاب والأمراض المرتبطة بهما هو زيادة اعتماد حياتنا على العالم الرقمي وتحول التفاعل من العالم الحقيقي إلى الإنترنت. ويفترضون أن هذا الشعور الحاد بالوحدة يسهم في مزيد من الأمراض الجسدية والنفسية، وبخاصة في البلدان ذات الدخل المرتفع، ويكبح أهم اندفاع بشري غريزي، التكاثر.

ربما يفسر هذا سبب عدم نجاح الخطط الحكومية المشجعة على الإنجاب والقائمة على تقديم تحفيزات مالية لإنجاب الأطفال في عكس هذا التوجه. ويقول عالم الاقتصاد النرويجي المتخصص في شؤون السكان ومؤلف كتاب "تراجع وازدهار!" لي فيغارد سكيربيك "تغيير معدلات الولادة العالمية وفوائد إنجاب أطفال أقل"، "بصورة عامة، ما من تدخل على مستوى السياسات يهدف إلى التشجيع على الإنجاب قادر مهما بلغت درجته أن يؤثر في معدلات الخصوبة على المدى البعيد. كثيرة هي الدول التي حاولت وفشلت".

ومع أن شيخوخة السكان قد تصاحبها مجموعة من المشكلات الخاصة بها، فهي حتمية كذلك. ويقول سكيربيك "قالت الأمم المتحدة منذ أعوام عديدة إن شيخوخة السكان آتية لا محالة، وهو ما يؤيده أي متخصص بعلم السكان. فنحن نعيش لفترة أطول". وهذا يعني ازدياداً سريعاً نسبياً في عدد الدول التي يتخطى أكثر من نصف سكانها الـ50 من العمر. سيجب تكييف المجتمع على هذا الأساس، لكن يمكن للتغييرات التكنولوجية والتحول الآلي المساهمة في سد الفجوات وسط القوى العاملة الأكبر سناً. 

وعلينا التفكير في الهجرة باعتبارها إحدى الأدوات المتاحة، إذ تقول البروفيسورة هاربر "هناك أعداد ضخمة من الشباب الذي يتمتع بالمهارات والمواهب في أماكن أخرى". وتنصح بالنظر إلى الفرص المتاحة ضمن مجتمعاتنا المحلية. "إن كانت النساء ينجبن أطفالاً أقل يمكن لهن إذاً أن يؤدين دوراً أكبر في القوى العاملة. وإن كانت صحتنا أفضل بصورة عامة فيمكننا العمل لفترة أطول. صحيح أنه تحد لكنني لا أرى أنه مشكلة بالضرورة".

وفي الواقع، قد يكون الافتراض المنتشر بأن تراجع الخصوبة أمر سيئ بطبيعته افتراضاً غير صحيح. ويؤيد سكيربيك هذا الرأي فيقول "هذا اتجاه لا يمكن تجنبه، وله جوانب إيجابية عديدة يميل الناس إلى التقليل من أهميتها".

ومنها مثلاً مسألة انبعاثات الكربون. من ناحية أساس، فإن عدد الأفراد الأقل يوازي بصمة كربونية أقل. وتقول البروفيسورة هاربر تعليقاً على تراجع معدلات الولادة "أعتقد شخصياً أنه أمر جيد. إذ يحوي الكوكب ثمانية مليارات شخص، ويحتمل أن نشهد ارتفاع هذا العدد ليصبح 12 ملياراً. وما نعلمه أن تغير المناخ واستهلاك السلع والموارد الطبيعية سيزيد بدوره. والضغط سيزيد". وقد يخفف تراجع الخصوبة بعضاً من هذا الضغط.

لكنها تشدد على أنه في حال رغبتم بإنجاب الأطفال، يجب ألا تسمحوا للذنب البيئي أن يمنعكم عن ذلك. "عليكم فقط بالحرص على تقليص الاستهلاك ضمن العائلة والمنزل".

ومما يوافق عليه كل الخبراء هو أنك إن أحببت أن تستبدل "أهلاً بطفل جديد" بـ"وداعاً للطفولة والأطفال"، علينا أن نقدم دعماً أفضل لمن يريدون أن يصبحوا آباء. وتقول البروفيسورة هاربر "علينا بحث مسألة المساواة في مكان العمل والمساواة في المنزل. ويجب أن تتوافر خدمات جيدة وزهيدة الثمن لرعاية الأطفال".

لا أحد يستفيد من بث الحكومات موجة من الذعر حول موضوع تراجع الولادات. أما إن طبقت سياسات هدفها تقديم دعم فعلي للنساء اللاتي يرغبن في الإنجاب؟ فربما في هذا فائدة.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات