ملخص
تعد "السواحيلية" من اللغات البارزة في الدول الأفريقية، مما يدل على انتشارها الواسع، وهو ما دفع المترجم محمد يسري محمد في كتابه "أنطولوجيا القصة السواحيلية" (سلسلة آفاق عالمية، القاهرة) إلى محاولة اقتحام إبداع هذا الآخر المجهول في عالمنا العربي، بخاصة الشرق الأفريقي الذي يضم تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبوروندي، بعد أن عانت هذه الدول من قلة الأعمال المترجمة إلى العربية.
لعل اللافت أن الأدب السواحيلي في القصة والمسرح والرواية والشعر يطرح العديد من الهموم والقضايا المطروحة في الأدب العربي. فقد عانى - كما عانينا – من الاستعمار؛ ومن هنا أصبحت قضية "الهوية" أكثر إلحاحاً في الأدبين العربي والسواحيلي، ناهيك عن القضايا الوطنية والاجتماعية الأخرى. لهذا كان لزاماً علينا أن نلتفت إلى هذا الأدب الأفريقي الذي أثبت حضوره في الآداب العالمية. وعلى رغم كثرة الدول التي تتحدث السواحيلية فقد اختار المترجم دولتين فقط هما كينيا وتنزانيا، وكانت أغلب القصص لأدباء كينيا حيث ترجم لهم ثماني قصص، بينما ترجم قصتين فقط من تنزانيا، من دون أن يقدم أي تبرير لذلك. فقد كان من المهم أن يجيب عن هذين السؤالين: لماذا هاتان الدولتان فقط؟ ولماذا أخذت القصص الكينية هذه المساحة الكبيرة؟ ولا أظن أن المترجم اشتغل على ما وجده من أعمال وهو أستاذ الأدب السواحيلي في كلية الألسن في جامعة عين شمس. على كل حال لا بد أن نثمن ما قدمه في هذه الأنطولوجيا الكاشفة.
حروب وصراعات
تفتتح الأنطولوجيا بقصة "اللاجئ" لجون هابوي (كينيا) وهي تصور تلك الحرب القاسية بين قبيلتي الهوتو والتوستي في رواندا، من خلال عين صبي ذهب والده إلى تلك الحرب ولم يعد. وخلال اجتياح العدو تُقتل الأم والإخوة، وهكذا يجد نفسه وحيداً، بعد أن عاش طفولته – في سلام- مع أبناء قبيلة "التوستي"، بينما كان هو من قبيلة "الهوتو". ومع ذلك فقد "حرقت منازلهم بالنار، ونهبت أموالهم، وذُبِح أطفالهم". ولم يكن أمام السارد بد من أن يخرج بعيداً ويهجر بلدته، حفاظاً على حياته مثلما فعل الكثيرون، وكان قائدهم العجوز "سافا لانغا" في تلك الرحلة التي لا يعرف أحد أين ستكون نهايتها. نحن إذاً أمام متاهة كبيرة حاضرها القتل المجاني ومستقبلها مجهول، أو هي لوحة دامية تنتهي بموت هذا الرائد العجوز، وحضور ممثلين لإحدى المؤسسات ليختاروا عدداً من هؤلاء اللاجئين للدراسة في أميركا، وكان السارد من بينهم. ويتوازى مع تلك الصراعات ما تتعرَّض له الأنثى من تهميش وقهر، وهذا ما نجده في قصة "اختيار نابع من القلب" لرايا تيمامي (كينيا) وهي معروفة باهتمامها بالقضايا النسوية والدفاع عن المرأة.
وفي قصتها هذه تستعرض حياة زينة سعيد التعيسة حين أجبرت على ترك التعليم والزواج المبكر، فقد كان من تقاليد قبيلتها أنه "حينما تبلغ الفتاة فإنه من العار أن تظهر في الطريق وهي ذاهبة إلى المدرسة أو عائدة منها". لذا فإن زينة وزميلاتها تطلق عليهن أسماء كثيرة مثل الكافرات أو العاهرات؛ لمجرد أنهن واصلن التعليم حتى الصف السابع. وبعد إجبارها على الزواج تكتشف أن زوجها شخص سيئ الخلق بعد أن ضبطته في وضعية الزنا من دون أن يكترث، ولم يكن أمامها سوى الإصرار على الانفصال. تشرع في خوض الانتخابات البرلمانية، وتنقسم النساء بين مؤيدة ومعارضة لها، وتلقي بعضهن اللوم على أصدقاء زينة الأجانب الذين علموها الدفاع عن حقوق المرأة. لكنها لم تستسلم وظلت تطالب بضرورة التعليم والقضاء على الفقر، بينما كانت الدعاية الذكورية مشهرة في وجهها طول الوقت من قبيل: "تلك العاهرة ترغب في أن تفسد بناتنا"، أو "تريد أن تخلع الفتيات الحجاب وأن يتشبهن بالغرب". ومن خلال شراء الأصوات على الملأ ينجح الرجل المنافس، الذي هاجر بعد ستة أشهر فقط إلى نيروبي هو وأسرته، فأدرك الكثيرون خطأهم في التخلي عن زينة.
دجل وشعوذة
نحن أمام مجتمعات تعاني من التخلف وتؤمن بالسحر والدجل، الذي يحقق المدعون منه أموالاً طائلة وهو ما يبدو في قصة "يوم العرَّاف" لتشيسي مبيليبيلي (تنزانيا). و"مويبالي" هو ذلك العرَّاف الماهر الذي كان "في حالة من الدهشة بسبب توافد الأعداد الكبيرة من العملاء الجدد"، وكان العلاج مجرد وصفات شعبية مثل جذور النباتات وأوراق الشجر ومجموعة من الحبوب. وكان هذا العرَّاف يعيش بعيداً من الحضر، وعندما ذهب إلى المدينة مرتين أو ثلاثاً ذُهل بسبب "التقدم الذي يعيشون في ظله"، والذي تمثَّل في وجود التلفاز والمبردات. وتكمن المفارقة في أن هذا التقدم المادي لم يمنع بعضهم من اللجوء إليه حين طلبوا منه أن يقدم لهم خدماته. وهذا يعني أنهم يتمتعون بمنجزات التقدم من دون أن يتمثلوا فلسفته، بل إن بعض زائريه – وهذه مفارقة أخرى – كانوا من خريجي الجامعات، وسيدات طبقات مرفهة، وكان يستخدم – مع تلك الوصفات الشعبية – موسى لجرح "الزبون". وذات مرة حاول استخدامها لتقليم أظافره فجرح وظل إصبعه ينزف. وهكذا ينتهي – كما يقول السارد- يوم العرَّاف أو بالأحرى أيامه.
الحقيقة أننا نلاحظ على كل قصص المجموعة سيادة السارد العليم واستخدام ضمير الغائب والاهتمام ببناء الشخصية خاصة في "اللاجئ"، و"اختيار نابع من القلب". وهذا ما نجده أيضاً في قصة "يتخذ خطوة أخرى" لكيالو واميتيلا (كينيا) حيث تبدأ بذكر "سكينة" التي "توالت عليها المصائب تباعاً في تلك الفترة وشعرت أنه في أي وقت سوف تحل عليها سحابة سوداء من الأحزان، حيث بدأت بالفعل تمطر عليها". إلى هنا لا نعرف تلك المصائب، لكن اللافت أنها بسبب السياسات العامة، حيث قتل أخوها الذي يدعى "كالا" أثناء الحملات الانتخابية، وهو كان معروفاً بموقفه "المعارض للسلطة الفاسدة في الولاية بكاملها"، حيث أكد شهود عيان أنه تم اغتياله على يد أحد حراس واحد من السياسيين، فكان واحداً من ضمن آخرين تم اغتيالهم". وبعد فترة انتشرت المجاعة، وكانت "سكينة" في ذلك الوقت متزوجة من "مافيتو" الذي اقترح عليها ترك مهنة التدريس، ففعلت بعد إلحاحه، وكان دخل الزوج – من خلال بيع ماكينات الخياطة في المدينة – جيداً. لكن الأمور تنقلب رأساً على عقب، وذات يوم تحدَّث مع جاره الذي يعمل لديه خادماً عن مشكلته، فعرض عليه أن يقرضه، وكان هذا فخاً – كما قالت زوجته – وقع فيه، حيث تكاثرت الديون عليه، وبدأ أطفاله يتعثرون دراسياً. كما علم هو وزوجته أن ابنتهما حبلى من جارهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا أصبح الفقر سبباً لكل ما تعرَّضت له هذه الأسرة من مصائب، إلى أن ينهي "مافيتو" حياته بالانتحار. وأسلوب هذه القصة بياني أقرب لأسلوب الشعر، فعندما يصور الكاتب المجاعة يقول إنها "بسطت أجنحتها، وأخذت تحدق في المواطنين بأعين البوم، ودكاكين القرية فقدت الأمل". وواضح كم الاستعارات الواردة في هذا السطر محدود الكلمات. كما اعتمد الكاتب على تقنية الاسترجاع في استعراضه لماضي علاقة "مافيتو" و"سكينة".
لم تظهر العقيدة الإسلامية بدوالها وشعائرها سوى في قصة "النصاب" لأمير صالح (كينيا)، فـ "سليم" لم يكن معروفاً بسمعته الطيبة بل بالاحتيال، فيرحل بعيداً من بلدته إلى قرية يكتشف أن أهلها يعتنقون الإسلام؛ "لكن لأسباب تاريخية كان لديهم بعض الأمور الغامضة فيما يخص أمور الدين". فيقرر أن يعلم أطفال القرية الحروف الأبجدية، وأسعد هذا القرار الشيخ "كيغوبا" فقد أصبح لديه متسع من الوقت ليستمر في التنجيم والسحر. ولا يكتفي "سليم" بهذا، بل يؤدي الأذان كل صلاة، فيصبح شخصية محبوبة في مكانه الجديد، لكننا نفاجأ في نهاية القصة باختفائه كأنه طيف حلَّ بالقرية ومرَّ سريعاً. ومن خلال استعراض هذه القصص نلاحظ شيوع ثيمات الفقر والفساد والدجل والديكتاتورية والقهر وشيوع الأمية والاستغلال، وهي ثيمات اجتماعية لا تنفصل عما هو سياسي وثقافي.