Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

لماذا يرفض الكتاب الكبار نشر بعض أعمالهم خلال حياتهم؟

الاميركية الراحلة هاربر لي تعود بكتاب "أرض العذوبة الأبدية" 

الكاتبة الأميركية الراحلة هاربر لي (غيتي)

ملخص

عادة ما يفجر اكتشاف أعمال غير منشورة لكتاب عظام أسئلة ملحة حول قيمتها الأدبية، ومدى وعي الكاتب نفسه بقيمة أعماله. هل امتنع عن نشرها لأنها لم تعد تلبي طموحه، أم أن الإبداع بطبيعته القلقة، يجعل من صاحبه فريسة للشك؟ غير أن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي خسره الكاتب بعدم النشر في حينه واكتسبه النص؟ حين بقي بعيداً من أعين القراء كل هذا الوقت.

مثل هذه الأسئلة تزداد إلحاحاً عندما نتأمل كتاباً كادت شكوكهم أن تحرمنا من روائع مخيلتهم، لعل أبرزهم فرانز كافكا حين أوصى صديقه ماكس برود بحرق كل أعماله، لولا أن برود، لحسن حظنا، خان الأمانة. على النقيض منه تماماً، كانت إميلي ديكنسون ترعى قصائدها كأم، داخل خزانة أنيقة، محكمة بشرائط ملونة، إلى أن تراكمت بمئات. أما فرناندو بيسوا، أكثرهم إثارة للقلق، فلم يتورع أن يترك خلفه صندوقاً يعج بمشاريع لم تكتمل، من بينها كتاب اللاطمأنينة، ذاك الذي يعكس توق الفنان إلى بلوغ المستحيل وسط دوامة أفكاره المحمومة.

اليوم، يتجدد الجدل حول الكاتبة الأميركية هاربر لي، خصوصاً بعد إعلان صدور كتابها الجديد "أرض العذوبة الأبدية"  (The Land of Sweet Forever) في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، وذلك بعد ما يقرب من عقد على اكتشاف عدد من القصص في شقتها في نيويورك عقب وفاتها عام 2016.

هدية عيد الميلاد

يتألف الكتاب من ثماني قصص قصيرة كتبتها "لي" قبل أن تبدأ العمل على روايتها الأولى "أن تقتل طائراً بريئاً"، أي خلال الفترة التي كانت تعمل فيها في شركة طيران، واستعصى عليها التوفيق بين مهمات الوظيفة وحلم الكتابة.

في شتاء نيويورك القارس عام 1956، قضت "لي" ليلة عيد الميلاد في منزل صديقيها مايكل وجوي براون. وفي صباح اليوم التالي، بينما كانت تهبط الدرج، لمحت الأطفال يتسابقون في فتح علب الهدايا، ففكرت في وقع هداياها المختارة بعناية على الصديقين، كانت ابتاعت لمايكل صورة نادرة لسيدني سميث بـ35 سنتاً، أما جوي فحصلت على الأعمال الكاملة لمارجوت أسكويث، بعد عام كامل من البحث المضني.

جلست "لي" تراقب عملية التوزيع بابتسامتها الطيبة، ومع تزايد العلب أمام جوي، تسلل إليها شعور بالحرج، ربما حاولت تحجيمه، لكنها لم تستطع منع هذا السؤال من التسلل إلى ذهنها: "هل نسياني حقاً؟"، وكأن جوي التقطت الرسالة، فأشارت إلى شجرة عيد الميلاد قائلة: "لم ننسك، انظري هناك".

كان هناك مغلف صغير مثبت بين الأغصان، فتحته "لي"، وقرأت بصوت مسموع "لقد حصلت على سنة إجازة من عملك لتكتبي ما يحلو لك، عيد ميلاد سعيد". حدقت في الورقة غير مصدقة: "ماذا يعني هذا؟"، وجاءها الرد ببساطة: "تماماً ما هو مكتوب".

لقد قرر الزوجان أن يمنحاها عاماً من الحرية، إيماناً بموهبتها التي لم تجد متنفساً، وكان عليها أن تثبت لهما أنها جديرة بالثقة.

رهانات خاسرة

لم يكن الأمر سهلاً حتى بعد أن أنجزت المسودة الأولى، إذ لم تقنع الناشر في البداية، لكن محررتها الأدبية تاي هوهوف رأت في تلك الموهبة بذرة فنان نادر، على رغم عدم اعتراف هاربر نفسها بذلك. لقد وجدت تاي في أسلوب لي، الذي يجمع بين البساطة والعمق، وفي عالم الرواية الغني بالتفاصيل، وتناولها لقضايا شائكة كالعنصرية والعدالة، مما يستحق المحاولة مهما استغرق الأمر.

استندت لي في "أن تقتل طائراً بريئاً" إلى طفولتها في بلدة مونروفيل الصغيرة، كما استلهمت شخصياتها من أسرتها وأصدقائها، فجاء أتيكوس فينش ليقوم بتجسيد شخصية والدها الذي ذاع صيته في الأدب وراحت كلماته تتردد على ألسنة الحالمين بالعدالة. وهكذا، بعد تعديلات مضنية، خرجت النسخة الأولى إلى النور عام 1960، محققة نجاحاً لم تكن هاربر لي تتوقعه، لكن الأدب، لحسن الحظ، لا يعتمد على رهانات المبدعين الخاسرة.

حصدت الرواية جائزة بوليتزر عام 1961، كما حظيت باستقبال نقدي هائل، وسرعان ما انتقلت إلى الشاشة، إذ جسد جريجوري بيك شخصية أتيكوس فينش في الفيلم المقتبس عنها عام 1962، مقدماً أداء رائعاً.

حين أسدد لك ضربة

يبدو أن كل هذا النجاح لم يكن كافياً ليمنح هاربر لي الثقة في موهبتها، بل على العكس، بدلاً من أن يهدأ قلقها، انكمشت أكثر على نفسها، وتمادى صمتها حتى أصبح سمة ملازمة لها. قيل إنها كانت تخشى الشهرة، لكن السؤال الحقيقي هو: هل كانت حقاً تخاف الأضواء أم خشيت أن يطالبها العالم بتكرار المعجزة؟  

هذا المرض المزمن في عالم الأدب، يجعلنا نتحسر على الصمت الطويل الذي لف الكاتب المكسيكي خوان رولفو، بعد أن كتب "بيدرو بارامو"، الرواية التي هزت الأدب اللاتيني من سباته وألهمت ماركيز بكتابة "مئة عام من العزلة". اللافت أن رولفو لم ينشغل بصياح الوسط الأدبي، الذي لم يتوقف عن مطالبته بعمل جديد، ولا اهتز من استفزازات النقاد، وحين سأله أحدهم بنفاد صبر: "لماذا لا تكتب رواية أخرى؟"، أجاب بسخرية: "لأن العم ثيلرينو مات. كان يمشي معي وهو يروي لي القصص، وكان كذاباً كبيراً".

خلف هذه السخرية، يكمن الوجع الناجم من ثقل التوقعات على كاهل المبدع بعد نجاح عمله الأول، لدرجة أن تتحول إلى عجز كامل. وهذا ما يزيد من حسرتنا على كاتب بحجم رولفو، خصوصاً بعد العثور على مسودات تكشف عن محاولاته المضنية طوال حياته. هل يمكن للنجاح أن يكون قيداً يعوق التدفق الحر؟ أم أن علينا أن نأخذ في الاعتبار التفسير النفسي الذي يرى في هذه الظاهرة امتداداً لمتلازمة المحتال، إذ يشعر الكاتب، مهما بلغ نجاحه، بأنه دخيل على عالم الأدب، وأن عمله الأول لم يكن سوى ضربة حظ لن تتكرر؟

اقرأ المزيد

في هذا الصدد، تقول مارغريت يورسنار إن الكتابة ليست سباقاً مع الزمن، بل تجربة نضج تتطلب الصمت والتأمل. ولكن، إيلام يمتد الصمت؟ على النقيض، يرى هارولد بلوم أن الكاتب قد يشعر بأنه استنفد صوته الأول، وأن أية محاولة لاحقة لن ترقى إلى مستوى الصدق ذاته. فهل المشكلة في النجاح، أم في ذلك الصوت الداخلي الذي يكرر السؤال الأكثر إرباكاً: ماذا لو كانت هذه الضربة الأولى والأخيرة؟

بين القصة والرواية والمقال

إلى جانب القصص، تضم المجموعة ثماني مقالات نشرت بين عامي 1961 و2006. تكشف عن جانب مختلف من اهتمامات هاربر لي، بعيداً من تناولها الشهير للعنصرية. تتناول هذه المقالات مواضيع متنوعة، من السياسة والتربية إلى الفن، ومن بينها واحدة تستعرض فيها كواليس فيلم "أن تقتل طائراً بريئاً" وعلاقتها بالممثل جريجوري بيك، الذي جسد شخصية أتيكوس فينش بإتقان.

في تقديمه للكتاب، يصف كيسي سيب، كاتب سيرتها المعتمد، هذه القصص والمقالات بأنها "منجم أدبي يثري فهمنا لإبداعها، ويقربنا من أفكارها وأسلوبها أكثر من أي وقت مضى".

بالفعل، تتيح "أرض العذوبة الأبدية" فرصة نادرة لمحبي هاربر لاكتشاف جانب جديد من الكاتبة التي لم يعرف كثير عن محاولاتها المبكرة في القصة القصيرة، وهو ما أثار حماسة عدد من دور النشر المرموقة حول العالم، منها دار هاربر كولينز الأميركية، التي ترى أن هذه المجموعة ليست مجرد كشف أدبي جديد، بل "فرصة لإعادة النظر في هاربر لي ككاتبة تمتد أعمالها إلى ما هو أبعد من روايتها الأيقونية". من جهتها، وصفت دار ويليام هاينمان في لندن هذه القصص بأنها "لحظة استثنائية، نكتشف فيها جانباً غير مألوف من قلم لي، يحمل بصمات مبدعة لم تتبلور بعد في تحفتها الأدبية الكبرى"، لعلنا نجد في هذا إجابة عن السؤال الماكر: ما الذي خسره الكاتب بعدم النشر في حينه، واكتسبه النص؟

المزيد من ثقافة