ملخص
أصداء إعلان بوتين عن استعداده للمحادثات وما قاله شولتز حول أن الوقت حان لهذه المحادثات
كشفت التغيرات الأخيرة في النسق الأعلى للسلطة الأوكرانية عن كثير من المتغيرات في الساحة الأوروبية التي يمكن تناولها تحت عنوان "اللعب بالورقة الأوكرانية"، وذلك في وقت عاد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إعلان استعداده للمحادثات السلمية بوساطة كل من الصين والهند والبرازيل انطلاقاً من نتائج المحادثات التي جرت في إسطنبول تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مارس (آذار) 2022، وليس على أساس ما تطرحه كييف. وقد جاء ذلك في توقيت مواكب لما شهدته أوكرانيا من تغيرات في النسق الأعلى للسلطة، ولما أعلنه المستشار الألماني أولاف شولتز من تصريحات تقول بضرورة العودة إلى محادثات السلام بين الجانبين الروسي والأوكراني.
بوتين يؤكد استعداده لمحادثات السلام
عادت موسكو لتؤكد موقفها من محادثات السلام مع أوكرانيا بعدما سبق واستبعدت إجراء أي مفاوضات مع كييف بسبب الهجوم الذي شنته القوات الأوكرانية في أغسطس (آب) الماضي على أراضي مقاطعة كورسك المتاخمة للحدود الروسية. وكان الرئيس فلاديمير بوتين عاد ليؤكد استعداده للمحادثات، وإن ربط ذلك بعدة شروط أهمها الانطلاق من نتائج محادثات إسطنبول، بما تضمنته من رفض لطلب أوكرانيا الانضمام إلى "الناتو"، فضلاً عن تأكيد وضعيتها الحيادية، وذلك إضافة إلى ما قاله حول ضرورة انسحاب القوات الأوكرانية من بقية الأراضي التي أعلنت روسيا عن "انضمامها" إليها في سبتمبر (أيلول) 2022، كما طرح الرئيس الروسي، الصين والهند والبرازيل كوسطاء محتملين لهذه العملية التفاوضية، بما قاله حول "إن روسيا تحترم أصدقاءها وشركاءها المهتمين بصدق بحل جميع القضايا المتعلقة بهذا الصراع. هذه هي أولاً وقبل كل شيء، جمهورية الصين الشعبية والبرازيل والهند. وأنا على اتصال دائم مع زملائنا في شأن هذه المسألة، وليس لديَّ شك بأن قادة هذه البلدان يسعون بإخلاص للمساعدة في فهم جميع تفاصيل هذه العملية المعقدة".
ومن هذا المنظور أعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية "أن موسكو لا تعد الصيغة التي تروج لها كييف أساساً محتملاً لأي نوع من مفاوضات السلام". وأضاف أن خطة الرئيس الأوكراني التي وصفها "بمبادرة زيلينسكي"، "أصبحت مملة للجميع، وهذا إنذار نهائي"، كما أن الغرب بهذا الإنذار يعني شيئاً واحداً فحسب، وهو أنه لا يريد التفاوض بصدق، كما أنه يريد مواصلة بذل كل ما يمكن من جهود لكي تقترب روسيا، وكما يأملون، من وضع يمكن فيه الإعلان عن "تعرضها لهزيمة استراتيجية في ساحة القتال". ومن جانبه كشف نائب وزير الخارجية الروسية أندريه رودينكو عن أن موسكو على اتصال بالهند في شأن مبادرات مختلفة حول التسوية الأوكرانية في معرض تعليقه حول اقتراح كييف على ناريندا مودي رئيس وزراء الهند عقد مؤتمر حول أوكرانيا في الهند.
إطاحة جناح عدم التصعيد
وبعيداً من مفاوضات السلام التي ثمة ما يشير إلى أنها صارت ستاراً ثمة من يحاول من ورائها تحقيق ما يبتغيه من أهداف استراتيجية، كما سبق وجرى مع "استخدام "اتفاقات مينسك"، لتوفير المساحة الزمنية اللازمة لإعداد وتسليح القوات المسلحة الأوكرانية لتصفية مقاومة المناطق التي أعلنت انفصالها عن أوكرانيا من جانب واحد عام 2014، شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً حاداً بين الجانبين الروسي والأوكراني، تمثل في تكثيف روسيا لهجماتها ضد البنية التحتية في أوكرانيا، فضلاً عما تقوم به على صعيد العمليات الرامية إلى تحرير ما استولت عليه القوات الأوكرانية من أراضٍ في مقاطعة كورسك المتاخمة للحدود المشتركة. وكشفت المصادر الروسية الرسمية عن تقدم ملحوظ لقواتها في جنوب شرقي أوكرانيا، يقول بقرب سقوط بلدة بوكروفسك ذات الأهمية الاستراتيجية. وقد جاء ذلك كله في توقيت أعلنت فيه كييف الرسمية عن تغييرات واسعة النطاق في النسق الأعلى للسلطة شملت استبدال ما يقارب نصف أعضاء الحكومة الأوكرانية، وهو ما عزاه مراقبون إلى تصاعد حدة الصراع الداخلي، وإلى ما يبدو من انقسام في الآراء والتوجهات تجاه موضوع "المحادثات مع روسيا". ولعل أبرز هذه التغيرات ما اتخذته السلطات الأوكرانية من قرار حول "إقالة" وزير الخارجية دميتري كوليبا من منصبه، وهو ما كان استبقه كوليبا بتقدمه باستقالته في أعقاب عودته من الصين التي بحث مع مسؤوليها "إنهاء الصراع العسكري من خلال الوسائل الدبلوماسية". وقد طاولت قرارات الإقالة أو الاستقالة كثيرين منهم وزير الصناعات الاستراتيجية في أوكرانيا ألكسندر كاميشين ووزير العدل دينيس ماليوسكا ووزير حماية البيئة والموارد الطبيعية في أوكرانيا رسلان ستريليتس ورئيس صندوق ممتلكات الدولة في أوكرانيا فيتالي كوفال ونائبة رئيس الحكومة لشؤون التكامل الأوروبي والأوروبي الأطلسي أولغا ستيفانيشينا ونائبة رئيس الوزراء لإعادة دمج المناطق غير الخاضعة للسيطرة (شبه جزيرة القرم وأراضي جنوب شرقي أوكرانيا) إيرينا فيريششوك. ولم تقتصر "سلسلة الإقالات" على أعضاء الحكومة لتشمل أيضاً نائب رئيس مكتب رئيس أوكرانيا روستيسلاف شورما.
ونستعيد في هذا الصدد ما قاله الرئيس فلاديمير زيلينسكي في مؤتمره الصحافي الذي عقده في إطار تبرير أو شرح ما اتخذه من قرارات حول الحاجة إلى "أشخاص جدد وحيويين"، وهو ما يعني ضمناً أن الوزراء المفصولين أو المستقيلين لم يكونوا يؤيدون استمرار الصراع العسكري وتوسيعه، فضلاً عن رغبته في تغيير الاستراتيجية العسكرية، استعداداً لما يجري تسريبه عبر مختلف القنوات الرسمية وشبه الرسمية حول استعدادات عسكرية "لهجوم وشيك للقوات الأوكرانية في خريف العام الحالي".
شولتز يعلن انحيازه لـ"محادثات السلام"
جاءت الأحداث الأخيرة في كييف لتطيح أنصار عدم التصعيد العسكري مع روسيا والجنوح نحو العودة إلى المحادثات سعياً من أجل الحيلولة دون إطالة أمد الصراع، وليس وقفه فحسب. ولم تقتصر هذه الرغبة على الداخل الأوكراني لتمتد إلى الخارج، وهو ما كشف عنه المستشار الألماني أولاف شولتز في حديثه إلى صحيفة "ريبوبليكا" الإيطالية. وأشارت وكالة "تاس" الرسمية الروسية إلى أن شولتز وبعدما صادف من إخفاقات وهزائم على صعيد الانتخابات المحلية والأوروبية، يريد "اللعب بالورقة الأوكرانية" من أجل تعزير مواقفه. وأشارت الوكالة الإعلامية الروسية نقلاً عن "ريبوبليكا" إلى أن "شولتز يقوم بإعداد خطته الخاصة للتسوية السلمية في أوكرانيا، وهي نوع من اتفاق مينسك الجديدة، التي لا تستبعد نقل جزء من الأراضي الأوكرانية إلى موسكو. وكان شولتز سبق وقال في مقابلة تلفزيونية إن الوقت بالنسبة إلى الصراع الدائر في أوكرانيا، قد حان لمناقشة كيفية التوصل إلى السلام، إضافة إلى ما نراه من ضرورة عقد قمة جديدة لحل الأزمة في أوكرانيا بمشاركة حتمية من جانب روسيا". وذلك وحسب ما قالته "ريبوبليكا"، استجابة إلى مواقف حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" المعارض الذي يدفع المستشار الألماني أيضاً، إلى العمل من أجل إيجاد مختلف السبل لإنهاء الصراع.
بولندا تعرب عن خيبة أمل في أوكرانيا
بعد انحسار التأييد المطلق لكل ما يصدر عن كييف من رغبات أو طلبات، وبعد توقيع كثير من الاتفاقات التي بلغت في بعض منها مستوى الاتفاقات "الوحدوية"، شخصت بولندا بما لم تكن تتوقعه كييف من رفض لمنحها المزيد. وكانت بولندا اتخذت عدداً من القرارات التي تنتقص مما سبق ومنحته للمهاجرين الأوكرانيين من امتيازات مادية ومعنوية، في أعقاب اعتراضات البولنديين على "تجاوزات" هؤلاء المهاجرين في بولندا. وإضافة لما شهدته بولندا من تظاهرات وحركات احتجاجية، تصدرتها حركة المزارعين، أعلن وزير الدفاع البولندي فلاديسلاف كوسينياك كاميش بما وصفته صحافة بلاده بـ"القسوة الشديدة" تجاه مطالب أوكرانيا، "لقد سلمت بولندا كل ما في وسعها لأوكرانيا. إن سلطات البلاد، سواء حكومتنا أو أسلافها، نقلت مليارات عدة من المعدات إلى أوكرانيا. إن ضمان أمن الدولة البولندية هو دائماً الهدف الرئيس بالنسبة لي، وجميع القرارات التي نتخذها في شأن هذه المسألة يتم اتخاذها على أساس المصالح لأمن الدولة البولندية. إن أوكرانيا تحتاج إلى أنواع كثيرة من الأسلحة، لكن يجب على شركائنا أن يفهموا أن الدولة البولندية يجب أن تحافظ على قدراتها، وهذه أولوية بالنسبة إليَّ".
وتداولت الصحف البولندية كثيراً من تفاصيل "المبارزات اللفظية" التي دارت بين وزير الدفاع البولندي ووزير الخارجية الأوكرانية (السابق) دميتري كوليبا، وشملت بعض ما قاله كل منهما حول التجاوزات التاريخية التي ارتكبها كل من الجانبين البولندي والأوكراني إبان أعوام الحرب العالمية الثانية في حق الآخر، وترتقي في معظمها إلى حد الجرائم الجنائية.
وتناقلت هذه الصحف بعضاً من تعليقات الرئيس البولندي أندريه دودا التي وردت في إطار تناوله لمثل هذه "المبارزات الكلامية"، ومنها ما قاله حول "إن جعل تصرفاتنا لمصلحة دولة أخرى تعتمد على تصرفات تلك الدولة لصالحنا في السياسة الدولية ليس بالأمر المستهجن أو المهين، بل على العكس من ذلك، فهذه ممارسة طبيعية تماماً، ومن حق المواطنين البولنديين أن يتوقعوا هذا النهج بالضبط من ممثليهم. ومن الممكن تأجيل دفع الفواتير لبعض الوقت، ولعل هذه هي الاعتبارات التي قد تبرر المساعدة البولندية لأوكرانيا في الأشهر الأولى من الصراع العسكري. ولكن فقط في الأشهر الأولى"، غير أن الرئيس البولندي وفي المناسبة نفسها عاد ليقول إنه من الممكن أيضاً "اعتبار تصرفاتنا لمصلحة دولة أخرى بمثابة استثمارات طويلة الأجل، وهو ما يفسر، على ما يبدو، الدعم غير المشروط لأوكرانيا من قبل جزء كبير من الطبقة السياسية البولندية، لكن المشكلة هي أن التوازن الإيجابي لهذه الاستثمارات بالنسبة لنا ليس واضحاً بأي حال من الأحوال"، كما أشار الرئيس دودا إلى تصاعد حدة القومية الأوكرانية، وإضفاء الطابع الرسمي على ما وصفه بالباندرية (نسبة إلى البطل القومي الأوكراني ستيبان بانديرا الذي تعتبره روسيا عميلاً للنازية) باعتبارها الأيديولوجية الأساسية للدولة الأوكرانية، وتناول قضايا المنافسة بين أوكرانيا وبولندا في مجال الإنتاج الزراعي، فضلاً عن المنافسة في سوق العمل والتمويل في حالة انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وقال "إن كل هذا يتناقض مع الفرضية القائلة إنه من المفيد لبولندا على المدى الطويل أن تعطي من دون المطالبة بأي شيء في المقابل. ومن ثم، فإننا ندعم دولة لم تقدم لنا أدنى مبرر - غير الخطابة الفارغة - لاهتمامها الشامل بدولة قد لا تصبح في المستقبل منافسنا في المجال الاقتصادي فحسب، بل قد تتحول أيضاً إلى منافس لنا على الصعيد الأيديولوجي وإلى العدوانية تجاه بولندا".