ملخص
كثيرون يرغبون في أخذ إجازة طويلة تبعدهم من الإرهاق الوظيفي المتزايد لكن ليس كل واحد فينا قادراً على منح نفسه هكذا عطلة مديدة
"لن تروني لفترة طويلة جداً"، اعترفت النجمة أديل وقد اغرورقت عيناها بالدموع في حفلتها الغنائية الأخيرة.
مخاطبة جمهورها خلال عرضها الغنائي الأخير الذي أحيته في ميونيخ في ألمانيا، قالت الفنانة الحائزة جوائز "غرامي" إنها تريد أن تمضي في طريقها و"أحيا حياتي التي كنت أبنيها"، وذلك بعدما أمضت ثلاث سنوات في غناء متواصل على خشبة المسرح وجولات فنية لا تنتهي، وأضافت: "سأشتاق إليكم كثيراً".
شخصياً، أحب أديل شأني شأن كل الناس، ولكنني لست من أشد المعجبين بها. ولكن مع ذلك، شعرت بعدما استمتعت إلى إعلانها هذا كأنما ضربة قوية موجعة أصابتني مباشرة في أحشائي. ماذا تراه كان ذلك الشعور الذي اجتاحني؟ حزن؟ خسارة؟ تخل؟ لا. كان مسحة لا لبس فيها من غيرة نقية خالصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ بلغت كلماتها مسمعي، شعرت بتوق مرهق يتسلل إلى نفسي. آه، يا ليت في استطاعتي أن أتوقف عن العمل وآخذ إجازة ممتدة "لفترة زمنية طويلة جداً"! أو حتى فترة زمنية متوسطة! صراحة، سأقبل بأية إجازة تتجاوز المدة التقليدية للإجازة السنوية.
في الواقع، رغبتها في الانسحاب من الحياة المزدحة المليئة بالمشاغل والتحديات وأخذ قسط من الراحة أثارت في نفسي شوقاً كبيراً كان أشبه بلحظة دمشقية [تغير جذري - اللحظة التي تحول فيها شاوول من مضطهد للمسيحية إلى رسول لها متخذاً اسم بولس] بما تنطوي عليه من تحول جذري في الإدراك والتفكير، وأخذت تومض نوراً ثاقباً على مشاعر أخرى مربكة في دواخلي كنت أتصارع معها أخيراً. مرد ذلك إلى أنه بينما في يد أديل، المغنية ذات الشهرة العالمية التي تملك ملايين من الأموال، أن تنفصل ببساطة عن روتين العمل اليومي "لمجرد أنها تريد ذلك"، ليس في متناول معظم النساء الأخريات سوى طريقة واحد للقيام بهذه الخطوة.
لما كنت امرأة في أواخر الثلاثينيات من عمري، أرى صديقات لي، ولمرات ومرات عدة، يبدأن رحلة الحمل ويختفين لفترة وجيزة في أثير المولود الجديد. وفي الغالب يكون حمل تلك النساء في مجموعات، ثلاث صديقات أو أكثر في الوقت نفسه، إذ يتزامن حملهن على نحو غامض شأن تزامن الحيض أو الطمث [الذي تختبره نساء يمضين كثيراً من الوقت معاً أو يتشاركن السكن عينه وتسمى هذه الحالة "تأثير مكلينتوك"]. شخصياً، لم تبعث هذه الحقيقة الغيرة في نفسي يوماً. ليس لدي أي أولاد أعتني بهم، ولكني سعيدة جداً في حياتي بكل تنوعها وصخبها. أي قدر ضئيل من الحسد ربما أشعر به خلف الفرحة الغامرة موجه فحسب، وبأنانية، إلى علاقتي مع الأم المستقبلية: معرفة أن صداقتنا ستتغير لا محالة، وأنها ستجد وقتاً وطاقة أقل للتواصل بعد ساعات العمل أو للنقاشات العميقة في وقت متأخر من الليل، وأنه سيمر وقت طويل قبل أن أنزع من وقتها لحظة قصير متواصلة لا يكون انتباهها فيها مشغولاً باستمرار بيدين صغيرتين دبقتين تشدان حافة فستانها.
ولكن في الجولة الأخيرة من مجموعة الصديقات الحوامل، تغير أمر ما. عندما أعلنت إحدى زميلاتي في العمل بخجل حملها، إضافة إلى موعد ولادتها في العام الجديد، غمرتني موجة من الشوق. عندما أرسلت لي إحدى صديقاتي الجامعية عبر تطبيق "واتساب" مسح صوتي لحملها الذي بلغ من العمر 12 أسبوعاً، ذرفت دموعي في القطار. وعندما التقيت بزميلة لي في المنطقة وبرفقتها طفلها البالغ من العمر ثلاثة أشهر في أحد المقاهي بعد ظهر أحد أيام الأسبوع، بينما كانت تستمتع بارتشاف القهوة وتناول الكعك للمرة الثانية في ذلك اليوم، أصابني وجع في أماكن من جسدي لم أكن أعلم بوجودها.
بدأ أخيراً، لا ريب، اليوم الذي قال الجميع إنه سيأتي. في النهاية، عادت ساعتي البيولوجية، وإن متأخرة كثيراً عما كان متوقعاً، للحياة وأصدرت الإنذار. كانت تلك البويضات القديمة تصرخ مطالبة بنفض الغبار عنها ووضعها في الاستخدام.
ولكن مع ذلك، ليس الأطفال أنفسهم من يجذبون اهتمامي، ولا يثير التفكير فيهم مشاعري. لم أكن أذوب إعجاباً برائحة رؤوسهم أو أذرف الدموع فرحاً أمام ملابسهم الصغيرة جداً، لم أكن أترجى أحداً أن يسمح لي بحملهم أو أتخيل نفسي أحتضن طفلي بين ذراعي، هادئاً ومبتسماً، مثل لوحة "مادونا والطفل". لا ريب أنني أردت جزءاً واحداً فحسب من تفاصيل الإنجاب بأكملها. ولكن أي جزء تحديداً؟
كلمة الوداع التي خاطبت بها أديل الجمهور كانت المفتاح لحل هذا اللغز. لم أكن أشعر بالغيرة من تلك النساء لأنهن أصبحن أمهات. بل شعرت بالغيرة من خروجهن من العمل في إجازة لمدة سنة.
لا تفهمونني بشكل خاطئ: أعلم أن إجازة الأمومة ليست في الحقيقة "سنة من الراحة"، أو "إجازة ننغمس فيها في كل ملذاتنا ونشاطاتنا غير آبهين بالوقت" أو أي وصف آخر مهين جداً يؤشر إلى أنها نوع من العطلات. أعرف هذه الحقيقة حق المعرفة، ذلك أن لدي ما يكفي من الصديقات والقريبات اللاتي عشن محنة الولادة وكل ما يتبعها، وكن صادقات جداً في شأنها. تنتظر الأمهات فترة مرهقة من نقص النوم، المشوبة بملل شديد والمليئة بسوائل في الجسم لا تنتهي وهستيريا ونوبات من الاكتئاب، إلى جانب الجزء المتعلق بطفلك، ذلك "الحب العظيم الذي لم تختبريه أبداً سابقاً".
أن تعيشي أياماً من الكدح الممل كي تحافظي على حياة إنسان عاجز تماماً، فيما يكبلك خوفك المستمر على سلامته لهي حال أبعد ما يكون عن "الإجازة". وكما اكتشفت أمهات كثيرات في غمرة انغماسهن في رعاية صغارهن خلال السنوات الأولى من حياتهم، تصير الوظيفة الفعلية في نهاية المطاف كما لو أنها "العطلة" الحقيقية، إنها استراحة مرغوبة لالتقاط الأنفاس من تعب تربية الرضيع على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع.
لم أكن أشعر بالغيرة من تلك النساء لأنهن أصبحن أمهات بل من السنة التي سيمضينها خارج مكان العمل
ولكن جاذبية لا يسعني إنكارها أغرتني في فكرة الاستيقاظ، وإن من نوم غير مريح وغير كاف، إلى خلو بريدي الإلكتروني وتطبيق المحادثة "سلاك"Slack من أية رسائل جديدة. لا دعوات إلى اجتماعات عمل عبر "زوم" Zoom أو "تيمز"Teams . لا ملاحظات صوتية عاجلة من أحد المسؤولين في الوظيفة يستفسر فيها عما إذا كان الكلام الأحمق الكارثي في نسختك من المقالة تشهيرياً ومغلوطاً أم أنه لا يتوخى الدقة فحسب.
أن تضعي عقلك في حال من الراحة التامة طوال أشهر عدة، دونما حاجتك إلى التفكير الاستراتيجي، أو استخدام أي مصطلحات خاصة بالشركة، أو التظاهر دائماً بأنك "مستعدة" في كل اجتماع. كان قلبي يتوق سراً إلى ذلك كله. جل ما كنت أريده فعلاً، بعد مضي ما يربو على 15 عاماً متواصلة من العمل في دوام كامل، من دون أن أحظى بأسبوع راحة بين الوظائف التي شغلتها، كان الحصول على إجازة طويلة من العمل أتفرغ فيها لأي نشاط يعنيني بعيداً من الوظيفة. أو كما عبرت عنها الكاتبة إيمي كي بنفس مشاعري، "إجازة أمومة للروح"، إنه وقت "للابتعاد عن هياكلنا وعاداتنا وتوقعات العمل كي نرى ما عسانا نجده هناك في الجهة المقابلة. أريد لزملائي الذين لا أولاد لديهم أن يحظوا بفرصة للاشتغال على رواياتهم أو تصميم حديقة أو التدرب من جديد على مهارة جديدة أو النقاهة، أو ربما إطلاق حملة حول قضية تثير شغفهم.
لسنا نغرد خارج السرب. يعطي الموظفون أولوية متزايدة للعمل لدى شركات ومؤسسات تقدم لهم امتياز أخذ إجازات، مشيرين إلى إجازات العمل الطويلة بوصفها وسيلة لمكافحة الاحتراق الوظيفي واكتساب تجارب جديدة، وفق تقرير نشرته صحيفة "غارديان". وجدت دراسة استقصائية نهضت بها "أي دي بي" ADP، علماً أنها شركة تقدم خدمات برامج الموارد البشرية، أن 20 في المئة من الموظفين سيقبلون بإجازة تفرغ بدلاً من زيادة الراتب، وأدرجت شركة الموارد البشرية "أديكو" Adecco الإجازات كواحد من بين أفضل خمسة اتجاهات في مكان العمل. ويتماشى هذا الاتجاه مع تزايد شعبية مختلف أنواع العمل المرن، بدءاً من إنجاز المهمات الوظيفية من المنزل والعمل الهجين الذي يوزع الأعمال بين المنزل والمكتب، وصولاً إلى ساعات العمل المضغوطة [تمضية إجمالي ساعات العمل المتعاقد عليها خلال أيام عمل أقل] وأربعة أيام عمل فقط في الأسبوع. يبدو واضحاً أنه بعد جائحة "كورونا"، طرأ تحول دائم على رغبة العمال في إيجاد توازن أفضل بين العمل والحياة والحفاظ عليه.
في بحثها، وجدت شاسا دوبرو، بروفيسورة مساعدة في الإدارة في "كلية لندن للاقتصاد"، أن الرضا الوظيفي لدى العمال يتناقص تدريجاً مع مرور الوقت. وعلى النقيض من ذلك، يشهد مستوى الرضا ارتفاعاً طفيفاً عندما يغيرون وظائفهم أو ينتقلون إلى مؤسسات أخرى. وفي الحقيقة، "تحاكي" الإجازات هذا التأثير من دون أن تخسر الشركة مكرهة موظفاً مهماً من كوادرها: "نعتقد أن هذه الشرارة الناجمة عن التجديد والتغيير الذي تحدثه في نفوسنا أنشطة من قبيل الإجازات تساعد الناس في تعزيز رضاهم الوظيفي"، قالت دوبرو.
كذلك قفز عدد الشركات التي تقدم إجازات طويلة من 38 في المئة في 2022 إلى 53 في المئة العام الحالي، وفق تقرير حديث صادر عن "معهد تشارترد" المعتمد للإدارة والقيادة في بريطانيا. ولكن على رغم أن 71 في المئة من الموظفين في المملكة المتحدة ربما يفكرون في أخذ إجازة طويلة إذا أتيحت لهم الفرصة، وفق أحد الاستطلاعات، فإن 35 في المئة منهم يعجزون عن تحمل كلفتها إذا كانت غير مدفوعة الأجر. وما لم تواظب أماكن العمل على تشجيع الموظفين على الاستفادة من هذه التقدمة، من الوارد أنهم لن يطلبوا إجازة في كل الأحوال. وفي حديثها لها إلى مجلة "الموارد البشرية" HR magazine، نصحت مديرة قسم العمليات ورئيسة الموارد البشرية كلير فليتشر، "بناء عقلية تشجع الموظفين على أخذ قسط من الراحة. الأمر كله يتعلق بتقدير الرفاهية".
تبدو الخيارات لأخذ استراحة طويلة محدودة وغير ملائمة عندما تكون الولادة الطريقة الوحيدة التي يمكن للنساء تصورها للحصول على استراحة من دورة العمل الشاق والتنافس المستمر على حساب رفاهيتهن، لا سيما في ضوء المسائل الجارية حول الأجر الضئيل المقرر قانوناً لإجازة الأمومة، والكلفة الباهظة لرعاية الأطفال، والعقلية السائدة التي ما زالت تمارس التمييز ضد النساء الأمهات (وجد بحث اضطلعت به المنظمة الخيرية "بريغننت زان سكروود" Pregnant Then Screwed [التي تعمل على تعزيز السياسات المتعلقة بالأمومة والوظيفة وحماية حقوق النساء الأمهات في العمل] أن 54 ألف امرأة يفقدن وظائفهن سنوياً لمجرد الحمل، في حين تعاني 390 ألف أم عاملة من معاملة سلبية قائمة على التمييز في مكان العمل كل عام).
وإذ تجر موجة "الاستقالات الكبرى" [اتجاه اقتصادي يلجأ إليه الموظفون طواعية وفي شكل جماعي منذ مطلع 2021 بحثاً عن توازن أفضل بين الحياة والوظيفة ويقال إن السبب جائحة "كورونا"، لا سيما في ظل رفض الحكومات توفير الحماية اللازمة للعمال وركود الأجور على رغم ارتفاع تكاليف المعيشة] في أعقابها أسلوب "الاستقالات الهادئة" [مصطلح يشير إلى أداء الموظفين الحد الأدنى من متطلبات الوظيفة وعدم بذل أي جهد إضافي]، ولا ننفك نعطي قيمة أكبر لحياتنا خارج جدران العمل، ربما تكون الإجازات الحل البسيط للإبقاء على الموظفين وراء مكاتبهم وفي أعمالهم، والترياق الذي يشفي من العلل المتصلة بالإرهاق. في هذه الأثناء، ربما على كل من يردن التغيب عن المكتب طوال 12 شهراً أن يفكرن في دخول عالم الغناء والشهرة العالمية، قبل أن نلجأ إلى إنجاب طفل بناء على قرار اعتباطي وغير مدروس علنا نأخذ إجازة طويلة من العمل.
© The Independent