ملخص
في ظل الهجمات الروسية المستمرة يضطر الأطباء الأوكرانيون لإجراء عمليات جراحية معقدة في ظروف قاسية، تشمل نقص التخدير وانقطاع الكهرباء. القصف المستمر يؤدي إلى دمار في المراكز الطبية ويزيد الضغوط على عمل الطواقم الطبية
تدفع الغارات الجوية التي تشنها القوات المسلحة الروسية على المستشفيات ومحطات الطاقة الكهربائية داخل أوكرانيا الأطباء في البلاد إلى بذل أقصى طاقاتهم استجابة للأزمة، وتجبر المرضى على الخضوع للعمليات الجراحية في غرف تحت الأرض، فيما لا تترك خياراً أمام الجراحين سوى تنفيذ جراحات معقدة في العتمة وباستخدام كمية محدودة من مادة التخدير.
عدد من الأطباء في المدن عبر البلاد التي مزقتها الحرب تحدثوا إلى "اندبندنت" عن قسوة العمل طوال 22 ساعة خلال اليوم في هذه الظروف المرة، فيما لا يعرفون ما إذا كان المستشفى حيث يعملون الهدف التالي لهجوم روسي متجدد يشنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على البلاد باستخدام المسيرات والصواريخ.
وبسبب النقص الحاد في الطاقة الكهربائية الأسبوع الماضي لم يتبق في متناول الجراحين سوى أربع إلى ست ساعات من الكهرباء يومياً، مما يشل قدرتهم على تشغيل غرف العمليات الجراحية بكفاءة، كما يقول يوري بويتشينكو مؤسس "الأمل من أجل أوكرانيا" Hope for Ukraine، وهي مؤسسة خيرية تقدم الدعم للأطباء والمستشفيات في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
للأسف، كل يوم يجد الأطباء أنفسهم مُكرهين على اتخاذ خيارات صعبة، إذ يؤدون واجبهم في أقبية ذات إضاءة خافتة ذلك أنها تعد المكان الأكثر أماناً في حال وقوع غارة جوية، مستفيدين من عدد معين من الساعات خلال اليوم على اعتبار أنها الأقل عرضة للتعطيل والعرقلة بواسطة صاروخ روسي. ولكنهم لا يكشفون أية ساعات تحديداً حفاظاً على سلامة المرضى.
وفي تصريح أدلى به إلى "اندبندنت" يقول بويتشينكو "لا كلمات مناسبة تصف حالنا هذه". ووفق كلامه، حدث تحول ملحوظ خلال يوليو (تموز) الماضي عندما كثفت روسيا هجماتها وكان لا بد من تقنين أكثر صرامة في إمدادات الطاقة الكهربائية في مختلف أنحاء البلاد. و"خلال يوليو الماضي، اضطر الجراحون والأطباء إلى إعطاء إذن بإجراء عمليات جراحية من دون كهرباء وفي غرف جراحية نصف مدمرة، وحتى من دون أي تخدير أو أي عقار أو إجراء طبي كان المريض قد تلقاه قبل ذلك التاريخ".
ويوضح بويتشينكو أن الكمية التي تعد في الأوقات العادية جرعة واحدة من مادة التخدير يصار إلى تقسيمها الآن على مريضين أو ثلاثة مرضى، مع تخفيف كمية الجرعات أكثر في الأماكن القريبة من جبهة القتال، حيث تكون إعادة الإمداد بالأدوية أكثر صعوبة.
ويؤكد بويتشينكو أن "الأطباء يستخدمون نوعاً من التخدير طويل المفعول، ولكن في حال استغرقت الجراحة وقتاً أطول من المتوقع، يبدأ المريض يشعر بالألم كله".
ويقول متابعاً حديثه "لقد رأينا ذلك بأعيننا كما تعلمون، جاء بعض الجنود الذين تستدعي حالتهم الخضوع لعمليات جراحية وكان الخيار الوحيد المطروح أمام الأطباء النهوض بهذه الجراحات فيما يشعر المرضى فعلاً بمعظم الألم، ذلك أن لا وسيلة أخرى لعلاجهم".
وبعيداً من خط المواجهة المباشر إنما أيضاً تحت مرمى النيران بالكاد تغفو عينا الدكتور رومان كوتشيبيرا في مدينة لفيف الأوكرانية لأكثر من ساعتين في الليلة هذا الأسبوع. رئيس المستشفى وهو أيضاً أب لمولود جديد يضنيه التعب والإرهاق، ويقضي لياليه القصيرة محاولاً أن يحمي طفله من أصوات الغارات الجوية.
ويقول الدكتور كوتشيبيرا "كان صغيري يختبئ في ظلي، ويبكي طوال الليل فيما تعلو أصوات الصفارات منذرة بقدوم الصواريخ الروسية التي لا تنفك غاراتها تقض مضاجعنا الآن".
كان الوقت متأخراً من الليل في أوكرانيا عندما تحدث إلى "اندبندنت" في مكالمة عبر تطبيق "زوم" بصوت أجش بلغ منه الإرهاق مبلغاً، وعرض بالتفاصيل الحقيقة البشعة والقاسية عن كونك طبيباً وأباً لمولود حديث في زمن غزو فلاديمير بوتين.
ويضيف الدكتور كوتشيبيرا "أعرف أن هذه الظروف تنال من جسدي ولكنها تلحق ضرراً أكبر بمرضاي. لا أملك خياراً سوى أن أكون حاضراً ويقظاً تماماً طوال 22 ساعة داخل المستشفيات، حرصاً على ألا تخطف الحرب أرواح مزيد منهم بعد الآن".
قبل ليلة واحدة فقط من مقابلتنا هذه، أطلقت روسيا صواريخ "كينجال" الروسية الفرط صوتية على لفيف علماً أن هذه المدينة بعيدة من جبهة القتال وقريبة من بولندا العضو في حلف شمال الأطلسي قرب الحدود الغربية لأوكرانيا. وزعمت موسكو أنها كانت تضرب أهدافاً محددة خاصة بمصانع عسكرية وحربية أوكرانية، ولكن سرعان ما اتضح أن مدنيين قتلوا في الهجوم الذي ألحق الخراب بأكثر من 50 مبنى في المركز التاريخي لمدينة لفيف، من بينها منازل ومدارس وعيادات طبية. وللأسف خسر رجل أفراد عائلته كلهم، زوجته وبناته الصغيرات الثلاث. وجرح أيضاً نحو 53 مدنياً من بينهم سبعة أطفال.
عند حدوث ضربة على هذه الشاكلة لا يتوقف هاتف الدكتور كوتشيبيرا عن الرنين طوال الوقت، بينما يعكف على تقديم استشارات طبية طوال ساعات الليل. ويقول إن الأعباء المهولة الملقاة على عاتقهم "تفوق أي تصور".
وقع الهجوم على لفيف خلال الساعة الخامسة و40 دقيقة صباحاً بالتوقيت المحلي ضد هدف عشوائي على ما يبدو. ولما كان التنبؤ بموعد الضربة الروسية المقبلة محالاً يتعذر على الأطباء وضع أية تصورات وخطط للأيام المقبلة.
ويوضح بويتشينكو "تختلف حالنا عن بقية أنحاء العالم حيث يعرفون أنهم سيعالجون عدداً معيناً من المرضى يومياً ويطلبون كمية معينة من أية إمدادات طبية يحتاجون إليها. وفي أوكرانيا، من الوارد أن نعيش ثلاثة أيام متتالية لا تتوقف فيها القوات الروسية عن شن غارات جوية مكثفة فوق رؤوسنا، بناء على رغبة روسيا في ضرب [أي مكان]، مستخدمة أي صاروخ تفوق سرعته سرعة الصوت".
ويضيف "إذ تمطر روسيا أوكرانيا بالصواريخ يتأهب نوعان من المرافق الطبية. المستشفيات الكبيرة المجهزة بصورة جيدة، والمستشفيات الريفية الصغيرة، حيث النقص الفعلي في كل التجهيزات الطبية".
الدكتور ماركو إيسايلوفيتش هو من كبار الأطباء في منظمة "لجنة الإنقاذ الدولية" International Rescue Committee ومقره كييف، إذ يشرف على الإجراءات الصحية في جميع أنحاء البلاد بما في ذلك أماكن مثل سومي، وهي مدينة على الخطوط الأمامية أصبحت هدفاً رئيساً للاستيلاء الروسي. ويقول إن واحداً من كل خمسة من الأطباء والممرضين الذين يشرف عليهم ينهار تحت عبء العمل في هذه الظروف. ويرجع بالزمن إلى الأحوال القاسية التي كابدناها في غمرة جائحة "كوفيد 19" قائلاً إنه في حين أن أنظمة الرعاية الصحية في بقية أنحاء العالم تقدمت وتعافت بعد الأزمة، يبدو أن الزمن توقف بالكوادر الطبية في سومي عند تلك الأيام، إذ تجدهم مثقلين بالمهام والخوف على حياتهم دائماً.
ويقول الدكتور إيسايلوفيتش إن الهجمات الروسية على شبكة الكهرباء تطرح مشكلة إضافية أمام المستشفيات الموجودة على خط النيران إذ تكون مضطرة إلى تجهيز مولدات احتياطة، ومن ثم لا بد من تخزين إمدادات كبيرة من الوقود الذي يهدد بحدوث انفجار كبير في حال وقوع غارة جوية.
وفي حالات الطوارئ، يبقى فريق من "لجنة الإنقاذ الدولية" على أهبة الاستعداد في الأوقات كافة، وجاهز لنقل الحالات العاجلة إلى مستشفيات أخرى عند انقطاع التيار الكهربائي.
ويشير الدكتور إيسايلوفيتش إلى أنه حتى في الحروب هناك التزام ببعض المبادئ المقدسة، وعدم استهداف المستشفيات والمدنيين أبداً. لقد انتهك فلاديمير بوتين بصورة صارخة ومتكررة المبدأين كليهما ويبدو أنه أفلت من العقاب، والهجوم الروسي المفاجئ على مستشفى أوخماتديت للأطفال خلال يوليو الماضي يؤكد هذه الحقيقة. ويكمل قائلاً "لم تكن [الغارة على مستشفى الأطفال] متوقعة. [حتى] المرافق الصحية لم تعد آمنة".
ويتحدث مدير قسم الأدوية في "لجنة الإنقاذ الدولية" أندري موسكالينكو عن الوضع في "مستشفى الأطفال السريري الإقليمي" في سومي، حيث ترسل اللجنة مواد لتضميد الجروح ومعدات طبية صغيرة إضافة إلى ألعاب وكتب تلوين ومستلزمات للأطفال.
ويختم موسكالينكو حديثه قائلاً "من الصعب أن نتصور الرعب الذي يجتاح نفوس الأطفال عندما يستيقظون على صوت الانفجارات، وقد أخذ السقف يتداعى فوق رؤوسهم. ولا يسعني أن أعثر على كلمات قوية بما يكفي لإدانة القصف وما يسفر عنه من إصابات في أجساد الأطفال. ويتحمل هؤلاء الصغار التبعات الأشد وطأة لهذه الحرب الدموية".
© The Independent