Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما لا نعرفه عن "قديس إمبابة"

أعداد غير معروفة في مصر تتبع رجالاً مجهولين يعتنقون أفكاراً غريبة وتتوسع قواعدهم الشعبية بإيقاعات مبهمة

شهد حي إمبابة في مصر محاولة غير مسبوقة لتأسيس "جمهورية إسلامية" خلال التسعينيات (مواقع التواصل)

ملخص

يظل "البهار" سيد الموقف في الجماعات والحركات والأفكار التي تخلط مفاهيم دينية تصنعها بنفسها بالشارع، وتفاصيله ومشكلاته ونقاط القوة والضعف فيه، ولكن بعيداً من أعين المؤسسات الدينية الرسمية وفي إطار من السرية.

في ثمانينيات القرن الماضي اعتاد سكان شارع شبرا (شمال القاهرة) رؤية رجل ستيني طويل القامة مبتسم الوجه يمشي بسرعة، ولكن بخطوات تبدو محسوبة ومدروسة في اتجاه محطة الباص، كان الرجل يلفت أنظار الجميع، إذ كان يرتدي جلابيب خضراء مطرزة بما يشبه قفاطين الأزهريين، وتعتلي رأسه عمامة ملفوفة بأسلوب قريب من عمامة طائفة السيخ.

ظهور الرجل في الشارع المزدحم لم يكن وحده الذي يلفت الأنظار المتعجبة، بل القدر الأكبر منها كان من نصيب بضع أفراد كانوا يهرعون إلى تقبيل يده والمسح بها على ملابسهم.

بهار السرية

بمرور السنوات اختفى الرجل ومعه مريدوه، لكن رجالاً غيره في أرجاء مصر ظلوا يفرضون وجودهم المثير لحيرة من لا يعرفهم، واللافت لانتباه من لا يعي سر المظهر غير المألوف والألوان غير المعتادة والهيئة التي يبدو أن كثيراً من الوقت والجهد استثمر فيها لتخرج في صورة كاريزما يحيطها غموض وتغلفها إثارة ولا تخلو من "بهار" السرية.

لكن يظل "البهار" سيد الموقف في تلك الجماعات والحركات والأفكار التي تخلط مفاهيم دينية تصنعها بنفسها في الشارع وتفاصيله ومشكلاته وحاجاته ونقاط القوة والضعف فيه، ولكن بعيداً من أعين المؤسسات الدينية الرسمية، وكذلك الحركات والجماعات الدينية، سواء تلك المرتبطة بالدولة بعلاقة وئام وتعايش سلمي أم تلك التي تناصبها العداء.

مكونات البهار تختلف من جماعة لأخرى ومن طريقة لغيرها، وذلك بحسب عوامل عدة بينها البيئة التي تنشأ أو يؤسس لها فرع فيها والظروف المعيشية، ونوعية حاجات "العملاء" من المتدينين والمؤمنين، وكذلك نوع وحجم الفراغ والخواء الذي تأتي لتملئه.

وعادة لا تخرج هذه الجماعات أو الطرق للعلن إلا في حالتين، الأولى أن تدخل في صدام مع السلطة، أو يقع حدث جلل يفرض نفسه على الساحة.

هذه الأيام وقع حدث جلل في أروقة واحدة من تلك الطرق، فظهر الحدث وأبطاله والطريقة على العلن، وما إدراك ما العلن في عصر الـ"سوشيال ميديا"، سكرين شوت وترندات وتعليقات ومشاركات، وجيوش تدافع وجحافل تهاجم، ومارة كانوا يتصفحون طريقة عمل "البليلة" لا ناقة لهم أو جمل في ما يجري يدلون بدلوهم في الدين والسياسة والأمن والاقتصاد التي ستتأثر بسبب الحدث الجلل إلى أن يفقد "جلله" فيعود الجميع أدراجهم من حيث أتوا.

هوامش الحدث الجلل

هذه المرة الحدث الجلل الحقيقي لم يكن مزاعم تحرش قام بها "رجل دين" – بحسب ما يعرف نفسه - اسمه صلاح الدين التيجاني بقدر ما هو هوامش هذا الحدث، فبعيداً من الإعلام التقليدي والخطاب المحسوب والرد المحسوم، ومشكلات المصريين المعتادة من تضخم وسعر البيضة ومصير أسطوانة الغاز ومآل السجائر وموقف مصروفات المدارس إلى آخر القائمة الغارق فيها ملايين، كشفت مزاعم التحرش عما هو أكثر صدمة وفداحة.

 

 

على هامش كل ما سبق، هناك أعداد غير معروفة، تتبع رجالاً غير معروفين، يعتنقون أفكاراً غير معروفة، ويقومون بأنشطة غير معروفة، وتتوسع قواعدهم الشعبية بإيقاعات غير معروفة، في أماكن أبعد ما تكون من بؤر الاهتمام.

كان حي إمبابة في بؤرة الاهتمام الرسمي والسياسي والأمني وكذلك الإسلامي قبل عقود قليلة مضت، كان هذا الحي، القابع شمال محافظة الجيزة على الجانب الغربي لنهر النيل، التمدد الحضري العشوائي الأكبر في مصر، وظل الحي شاهد عيان على انتشار العشوائية السكنية والفكرية والحكومية والمعيشية على مدار عقود.

جمهورية إسلامية

وشهد الحي محاولة غير مسبوقة لتأسيس "جمهورية إسلامية" في التسعينيات، بعد ما استولت "الجماعة الإسلامية" على مقاليد الحياة اليومية فيه في غفلة أو ربما بعلم الدولة في تلك الحقبة. بينما كانت "الجماعة الإسلامية" تستولي على إمبابة وأهلها عبر أدوات عدة أبرزها "الشيخ جابر" الذي هيمن بخطب نارية ملغمة بأفكار العنف والفوقية الدينية المغلفة بوعود الجنة على عقول وأفئدة الناس، لم يتنبه كثيرون لما يجري أو لفداحته إلا بعد أن بدأت الآثار في الظهور.

تحولت شوارع إمبابة إلى أرض معركة لفرض سطوة الفكر المتطرف لـ"حماية الإسلام"، وكالعادة استقطب الفقراء بالمال والمساعدات وفرض النقاب على النساء وغيرهن من فرض القواعد التي بدأت عبر فكر جماعة باسم الدين والتدين.

ويشاء القدر أن يظهر "الشيخ" التيجاني في الحي نفسه الذي خضع لسلسلة من عمليات وجهود التطوير والتطهير قدر المستطاع على مدار ربع القرن الـ21، انتهى حكم "الجماعة الإسلامية" لجمهورية إمبابة، لكن بقيت الأسطورة.

"مي تو" يا شيخ

وها هي صفحة جديدة، وإن كانت بجلباب مختلف وعباءة أخرى ومحتوى مغاير، يكشف عنها في إمبابة أيضاً. زعمت شابة اسمها "خديجة" أنها تعرضت للتحرش في طفولتها على يد الشيخ صلاح الدين التيجاني. كتبت أنها تلقت رسائل عبر أحد التطبيقات العنكبوتية من "الشيخ" فيها صور إباحية وتتضمن عبارات جنسية صريحة غير مرة، وأضافت أن "الشيخ" اعتذر بعد فترة، وأخبرها أن الصور أرسلت لها من طريق الخطأ

خروج الشابة على الملأ الإلكتروني ومجاهرتها بما تقول إنها تعرضت له من "الشيخ" الذي اتضح أنه يحظى بين آلاف من مريديه بمنزلة تؤهله أن يكون "قديس إمبابة" أدى إلى فتح أبواب الترند والترند المضاد والقيل والقال والدفاع والهجوم، والأهم من ذلك كشف الغطاء عن وجه بملامح مختلفة من وجوه الهوس الديني الكثيرة، لكنه وجه صادم جداً. تحول جانب من القصة إلى مبادرة أشبه بـ"مي تو" التي نشأت في دول عدة قبل سبعة أعوام لتشجيع النساء على المجاهرة بما تعرضن له من تحرش جنسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"روى سماحة الإمام صلاح الدين التجاني رضي الله عنه وأرضاه وعنا به في موسوعة (الرحيق المختوم) عن ختم الأولياء سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه وعنا به أنه قال ذات ليلة في مجلسه، أين فلان؟ فجعل أصحابه ينادون: أين فلان؟ فلما حضر بين يديه قال رضي الله عنه: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى. فقال له سيدي فلان وكان كثيراً ما يتفاوض معه في الحديث: يا سيدي، أنت في حالة الصحو والبقاء؟ أم في حالة السكر والفناء؟ فقال رضي الله عنه: بل في الصحو والبقاء، وكمال العقل، ولله الحمد".

إنه أحد "الأحاديث" التي يتداولها أتباع ومريدو ومحبو "الشيخ قديس إمبابة"، المسألة لا تقتصر عليه، ولكنها تمتد إلى ما يتناقله المريدون عن قصصهم وتجاربهم مع "قدس الزاوية التيجانية"!

يحكي أحدهم عن "رؤيا منامية وهي ضمن الكنوز النورانية التي تلقاها عن أبيه". يسرد تفاصيلها ثم يقول إن هذه الرؤى كانت قبل دخوله الطريقة التيجانية، "فلما دخل إلى قدس الزاوية التيجانية، أدرك السر في أول لمحة ومن أول نظرة من الشيخ الكريم ذي الفيوضات الربانية سيدنا ومولانا صلاح الدين التجاني رضي الله عن حضرته العلية وأرضاه".

ويكتب آخر أبياتاً يختلط على القارئ المقصود بها تقول كلماتها.

مهما قالوا عليك من كلام  هتفضل في قلوبنا سماحة الإمام

ولادك ظلالك وأنت نورنا  حتى لو تطاولوا عليك بكلام حرام

كل ما زاد الإيمان بالله فيك  هتزيد الفتن وتدركها الأقوام

يحاربونك طيلة 40 عام   وتظل أنوار الله تسري في الأنام

وكتب آخر بعد لقاء جمعه بشيخه، "في حضرة الحب والجمال، أشعر بنشوة ليس لسكرتها من فواق، ونظرة عين من المحبوب سكرنا بها، طافت بنا في عوالم العشق، أنوار بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم تكد تراها، أنوار غاشية، ووجه ناضرة لسعيها راضية، في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية، فيها عين الحب جارية، فيا ليلى صبي لنا الأقداح، فالسكر في حضرة المحبوب مباح، في حضرة مولانا الحب سيدي إمام المحبين سماحة الإمام صلاح الدين التجاني".

محتوى المحبين والمريدين

محتوى المحبين والمريدين يصعب حصره، لا سيما في عصر الـ"سوشيال ميديا". تأخذك تدوينة وملحقاتها إلى أخرى يشارك فيها الآلاف، ومنها إلى صورة تحظى بآلاف الـ"لايك" والتعليقات التي لا تعكس إلا مزيداً من المحتوى الذي لا يحمل إلا معنى واحداً، يحدث كثير بعيداً من الأعين.

قبل نحو عامين، سرت أجواء يعتقد بعض أنها مشابهة لما يدور حالياً، سرت أخبار عن إعلان أحدهم ويدعى "نشأت" أنه نصب نفسه نبياً، أعلن "نشأت مجد النور" أن رسالة جديدة وصلت إلى الأرض، وأن وحياً فريداً وصل إليه ما يعني أن ديناً جديداً يتكون.

وبعيداً من محتوى الدين الجديد الذي يمكن لأي طفل صغير أن يتحقق من عبثه بنظرة سريعة، غلبت السخرية الشديدة على "النبي نشأت" الذي وضع شرطاً وحيداً للراغبين في دخول الدين الجديد، وهو ألا يكون مصرياً. انقض المصريون وقتها على ابن بلدهم انقضاضة تاريخية، لكنها كانت من ألفها إلى يائها كوميدية ضاحكة ساخرة.

عنصر السخرية

عنصر السخرية المعروف به المصريون لا يغيب هذه المرة عن "قديس إمبابة"، ولكنها سخرية المصدوم من حجم مريدي الشيخ، وما يعكسه المحتوى سواء الذي يخطه "الشيخ" بنفسه أو الذي يكتبه المريدون عنه، ويضاف إلى ذلك اكتشاف أعداد متزايدة من المشاهير من نجوم الفن والثقافة والأدب والصحافة ممن اتضح أنهم من مريدي الرجل.

تتصارع صور المشاهير الملتقطة مع الرجل، والرسائل المتبادلة بينه وبينهم التي تنضح بكم هائل من المشاعر، لتجد لنفسها مكاناً على الأثير المشتعل بالمواقف المتناقضة.

 

 

بعض من هؤلاء المشاهير سارع إلى إغلاق حساباته العنكبوتية، أو تغيير قواعد الخصوصية حتى لا يطلع عليها المتطفلون والمتصيدون وغيرهم. بعضهم الآخر سارع إلى محاولة إنقاذ "الشيخ" عبر إجراء حوارات معه على أمل تشويه سمعة الشابة التي جاهرت بتعرضها للتحرش، وإفساح المجال للشيخ للحديث عن روعته ونقائه وسمو أخلاقه معضداً إياها بابتسامة الواثقين ومؤكداً رواياته بما يقوله عنه المريدون.

سلسلة تحرش

في تلك الأثناء كانت "مؤسسة قضايا المرأة" الحقوقية تستقبل سلسلة من الشكاوى من نساء وفتيات يتهمن الشيخ بالتحرش الجنسي الإلكتروني بهن، ويطلبن الدعم القانوني والحماية مما يقلن إنه "تهديدات يتعرضن لها من الشيخ وأتباعه".

وتقدم المجلس القومي للمرأة ببلاغ إلى النائب العام ضد "الشيخ" لاتخاذ ما يلزم من إجراءات للتحقيق، واتخاذ ما يلزم لحماية الفتيات والنساء والمجتمع "من هذه الأفعال المشينة".

رقي وسمو وحملة ممنهجة

الشيخ وأتباعه يرددون الكلام نفسه، حملة منظمة ومؤامرة محرضة وأشخاص مأجورون ولجان إلكترونية هدفها النيل من "الشيخ"، وهدم الطريقة التيجانية لأنها تقوم على الحب والهداية والسمو والرقي، ولا تهدف إلى تحقيق مصالح شخصية أو أهداف سياسية، وتفضح غيرها ممن يروجون للعنف والكراهية، ولا يهمهم سوى الوصول إلى السلطة وتحقيق مكاسب شخصية.

هذا ما يقوله الشيخ ومريدوه بمفردات مختلفة على مدار ساعات اليوم منذ تفجرت المسألة، الطريف والصادم في آن أن ما يسمى بـ"مشيخة الطريقة التيجانية" أصدرت بياناً تبرأت فيه من "الشيخ" وما يشاع عن قيامه بسلوكيات غير مقبولة. وجاء في البيان "إن الطريقة متمثلة في مشيختها بالزاوية التيجانية الكبرى تعلن أمام الجميع براءتها من كل قول أو فعل يخالف ما يعتقده أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة الصالح، وما اتفق عليه"، وأن "علماء الأمة مهما كانت مكانة المخالف، ومهما انتشر صيته، فإن العبرة في الطريقة التيجانية هو ما أعلنه شيخها أحمد التيجاني رضي الله عنه من قيامها على قواعد الشرع الشريف، وأن الشرع هو الأصل ولا أصل فيها سواه".

تبرؤ من "الشيخ"

وأكدت على أن الطريقة وشيخها وعلماءها ومريديها يبرأون إلى الله من كل ما يخالف الشرع، وقالت إنها تكرر ما ذكرته في عامي 2017 و2019 باعتبار هذا الشخص (الشيخ صلاح الدين التجاني) معزولاً عن أي مسمى تابع للطريقة التيجانية، وأنه لا يمثل إلا نفسه، وأنه غير مسموح له بممارسة أي نشاط خاص بها، وذلك لعدم أهليته، ولما ثبت عندنا من فساد معتقده وانحرافه عن الطريقة وتحريفه لأصولها"، مشيرة له بأنه "مسلم عامي غير عالم". وأكدت أن الجهة الوحيدة المعتمدة للطريقة في مصر هي الزاوية التيجانية في حي المغربلين، والتابعة للمجلس الأعلى للطرق الصوفية.

وبعيداً من أنه اتضح أن الزاوية التيجانية في المغربلين تختلف عن الزاوية التيجانية في إمبابة، فإن اللافت هو أن الغالبية المطلقة من المصريين لم يسمعوا من قبل عن هذه أو تلك، وبالطبع عن الطريقة التيجانية ومشكلاتها الداخلية.

الصوفية في مصر

الطرق الصوفية في مصر ليست وليدة اليوم أو الأمس، في إصدار لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عن هذه الطرق في مصر (2017) جاء أن عهد مصر بالطرق الصوفية ضارب في التاريخ، ويعود لعصر صلاح الدين الأيوبي. وشهدت البلاد ثلاثة من الأئمة المؤسسين لثلاث طرق صوفية، الإمام البدوي والإمام الدسوقي والإمام الشاذلي. وأشار إلى أنه قبل الدولة الحديثة، كان في معظم البيوت المصرية مريد أو أكثر لطريقة من هذه الطرق.

ولفتت الدراسة إلى أنه يمكن اعتبار الطرق الصوفية من أهم التنظيمات المجتمعية التي ظلت بعيدة من السلطة، إذ نظمت نفسها بما يضمن تناغم أفرادها والتنسيق بين مصالحهم والحفاظ على النظام. ومع الدولة الحديثة تغيرت المعطيات المجتمعية، وأصبحت هذه الطرق متصلة إما بالسياق السياسي وتدخل الدولة في رسم خريطتها وتوجهاتها، أو تجد نفسها بين تيارات دينية مختلفة وخاضعة لتأثيرات داخلية وخارجية. وتشير الدراسة إلى أنه منذ تحول الطرق الصوفية إلى شكل من أشكال المنظمات الأهلية، أصبح التكوين التنظيمي هو العامل الرئيس في تحديد الدور التي تلعبه، وهو ملتصق بالقواعد العامة التي تضعها الدولة.

 

 

وذكرت الدراسة أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر استخدم الطرق الصوفية للترويج لسياساته وكسب الدعم المجتمعي من فئات المريدين، وكان حريصاً على وضعها تحت سيطرته لضمان تحكمه في التجمعات الحيوية، وأضافت الدراسة أن الطرق الصوفية استمرت في لعب دور الداعم الأساس للحكومة مع اختلاف الحقب الرئاسية.

من مطرود من جنة من؟

بعيداً من الحقب الرئاسية والسياسة والطرق والاختلافات بينها ومن المطرود من جنة من، يبقى ما كشفت عنه واقعة "قديس إمبابة" الأخطر والأهم والأجدر بالفهم. ما الذي يدفع هذه الأعداد من المصريين من فئات مختلفة وطبقات متعددة للانجذاب بهذا الشكل لـ"شيخ" مطرود من طريقة صوفية؟ وما نوع الفجوة الفكرية أو الفراغ القيمي الذي يسود بشكل يدعو صاحبه إلى التعلق والتشبث والتمسك بكلمات وخطب وجلسات رجل، حتى لو كان رجل دين حقيقياً؟

فجوة وفراغ و"شيخ"

أستاذ الطب النفسي خليل فاضل يقول إن ما يجري في المجتمع غير مسبوق، ولم يكن موجوداً من قبل بهذا الشكل، معتبراً أن "هناك فجوة كبيرة وفراغاً رهيباً يعانيهما كثيرون وبشكل متزايد. هذه الفراغات ومعها الضغوط المتواترة تعبر عن نفسها إما بأعراض جسدية، أو نفسية أو كليهما. هذه التركيبة تجعل من صاحبها مريداً مناسباً قادراً وراغباً في أن يجعل من (الشيخ) نصف إله وربما حتى إلهاً كاملاً. ولم لا؟ فهو – الشخص الذي يعاني فراغاً وضغوطاً - يحاول أن يحمي نفسه من الانهيار أو الانتحار. هو غارق في عجز كبير وحال من الإحباط واللاجدوى. يحتاج من يرمي عليه هذه الأحمال، لا سيما حين يشر أنه غير قادر على رؤية الله أو الشعور بوجوده وانتشاله مما يعانيه. هؤلاء يرتمون في أحضان أول شخص يتمتع بكاريزما، أو لديه القدرة على إحداث أثر التنويم المغناطيسي لدى سامعيه ومشاهديه ومتابعيه".

ويشرح فاضل كيف أن مثل هؤلاء "المؤثرين" – سواء كان شيخاً أم قساً أم خطيباً مفوهاً أم اختصاصياً في التنمية البشرية وغيرهم - ينجح في أن يصنع قاعدة مريدين فيها الغفير والوزير والحاصل على الدكتوراه وغير المتعلمين. وتجدهم يتفقون على أن "الشيخ" "يشع نوراً إلهياً" أو أنه "أصلح حياتهم بعد ما كانت حطاماً" أو "كيف أنه كتلة نور لها كرامات" أو غيرها من العبارات التي تبدو وكأنها من أزمنة فاتت أو حكراً على فئات متواضعة الفكر والقدرات دون غيرها.

الـ"كالت" للجميع

يظن بعضهم أن مفهوم الـ"كالت" أو الجماعة الدينية مرتبط بالغرب، لكنه فكرة، والفكرة لا تعرف الحدود أو تعترف بالفروق بين الثقافات أو الأديان. الجماعة الدينية أو الـ"كالت" تقوم عادة على فكر ديني أو ينتسب للديني بطريقة أو بأخرى. وربما يكون ادعاء دين جديد، يسيطر عليها شخص يتمتع بكاريزما واضحة، ويشيع فكرها بين جماعة أو مجموعة من الأشخاص.

يختلف هؤلاء الأتباع عن معتنقي دين ما بأنهم يقعون في قبلة فكرية، وربما جسدية، حديدية يمتلكها قائد الجماعة، أي "الشيخ". وتعطي أتباعها شعوراً مريحاً بأنهم يتشاركون في سمات واحدة تمنحهم إحساساً زائفاً بالقوة والأمان، كما تقنعهم بأنهم مميزون عن الآخرين وأفضل منهم بمراحل.

شروط الانضمام

أستاذة علم النفس الإكلينيكي الأميركية مارغريت سينغر تتحدث في كتابها "جماعة دينية وسطنا" (عام 1996) عن ستة شروط للسيطرة على قطاعات من البشر عبر الجماعات الدينية. الشروط هي، الهيمنة على البيئة المحيطة بالشخص، وتأسيس نظام مكافئات وعقوبات، وخلق شعور بالعجز، وكذلك الخوف والتبعية لدى المتلقي، وإقناع المتلقين بأن الجماعة تصلح سلوكهم ومواقفهم لتجعل منهم أشخاصاً أفضل، ويجب أن يكون ذلك في نظام مغلق لا ينفتح على العالم الخارجي، أي سري.

وتعتمد الجماعات الدينية على فصل تابعيها عن الآخرين، وهذا يفقدهم الشعور بهويتهم الأصلية، فيكتسبون هوية جديدة، ويكونون في حالة تسليم كامل للقائم على أمر الجماعة، وكلمتا السر هما الطاعة والعمياء.

 

 

ويصل الأمر إلى درجة أنه حتى لو تعرض المتلقي لمعلومات خاطئة في الجماعة، وهو يعرف أنها خاطئة، فهو يكذب نفسه ولا يجادل في خطأ المعلومة. ويصبح التابعون متيمين بكل ما يسمعونه من قائد الجماعة أو مؤسسها، ويبدأ في نقلها إلى آخرين باعتبارها الحقيقة الواحدة في العالم.

التسليم لـ"الشيخ"

ضمن قواعد طريقة "الشيخ" صلاح الدين التيجاني التي تفرض أو تتوقع من المريد، أن يعتبر نظره للشيخ أكبر عبادة، وأن هذه النظرة أهم من الأكل والشرب، ولو كان المريد جائعاً وظل على جوعه بعد النظر للشيخ فهو مريد كاذب، وفي حال اعترض العالم كله على الشيخ، لا يتأثر المريد أبداً بما يقال، مع عدم الإشراك في حب المريد للشيخ!

يقول خليل فاضل إن من يدخلون الـ"كالت" عادة يكونون أشخاصاً مرتبكين، يعانون هشاشة نفسية شديدة. وتتمثل حذاقة "شيخ الكالت" في التأثير في المنتمين الجدد، وتكسير حوائطهم الدفاعية، فيجد الشخص نفسه يعود للوراء بدلاً من المضي قدماً في الحياة. وبدلاً من الاحتكام للعقل والثقافة والتعليم، يكون هناك نكوصاً مثل الطفل الذي يتبول على نفسه.

ويشير فاضل إلى أن "غالب مريدي هذه الجماعات وطالبي القرب من هؤلاء (المؤثرين) يعانون أصلاً اضطراب الشخصية. هنا يقوم الشيخ بمهمة إلحاق مزيد من المرض بالمريد، إذ تغييب العقل والوعي والإمعان في تكثيف الغشاوة على العين والقلب والعقل. ولم لا و’الشيخ‘ ذو الكاريزما ونبرة الصوت المميزة والابتسامة ذات المغزى والطريقة المميزة وغيرها هو المنقذ والمخلص؟".

صدمة وميكروباصات

وعلى هامش ما يجري بين المصريين من صدمة لما تزعمه نساء من تحرش "شيخ" بهن، ودفاع مرير من ألتراس "الشيخ" عنه، وهم هذه المرة ألتراس من الفنانين والكتاب وغيرهم، وهجوم من قلة ممن يسمون أنفسهم "الناجين من هوس التدين وهسهس التديين"، وجدها بعضهم فرصة سانحة لطرح أسماء لـ"مشايخ" جرى تقديس بعضهم، وعلى رغم رحيلهم عن الدنيا، إلا أنهم أحياء يرزقون على واجهات الباصات ومؤخرات الميكروباصات وجوانب التروسيكلات وهياكل التكاتك، وكذلك عبر ملايين المقاطع الصوتية والمصورة على أثير السوشيال ميديا، وكذلك على الشاشات الرسمية للدولة.

قال بعضهم ساخراً إنه من الجيد أن هؤلاء رحلوا قبل زمن "فيسبوك"، وإلا لاقوا من البحث والتفنيد والتدقيق في ما يقولون ويفتون ما لم يكن سيرضيهم أو يسعدهم، فإذ بألتراس "الشيخ" المتوفى يهبون من كل فج عميق يدافعون عنه من دون أن يعرفوا المقصود من الدعابة أو الغاية من الافتراض.

وهنا يرى أستاذ الطب النفسي خليل فاضل أن بعضاً من رجال الدين ممن يتمتعون بقاعدة مريدين عريضة تدافع عنهم بضراوة وتصد عنهم أية محاولة تثبت عدم صحة ما يفتون به، أو تكشف عما تحويه آراؤهم من فتنة أو كراهية أو فوقية، ليسوا رجال دين من الأصل. يقول "هم حكاؤون شعبيون، يتمتعون بطرق متفردة في الحكي والسرد، لهم كاريزما، يحظون ببلاغة لغوية ويأتون بلغة جسد، ربما يميلون ذات اليمن ثم ذات اليسار قبل أن ينطقوا بشيء غير مألوف أو نكتة شيقة في غلاف ديني يعجب فئات بعينها من المريدين".

من يغرس الوعي؟

لماذا يحدث هذا في بلد كمصر؟ وكيف ينجذب الناس لمثل هذه الشخصيات والجماعات والأفكار؟ يقول فاضل إنه يجب طرح سؤال آخر: من يغرس الثقافة والوعي لدى الناس؟ هل هم المثقفون والأدباء والعلماء؟ أم إنهم المؤثرون على "تيك توك" و"إنستغرام"؟ أم "شيخ" يظهر هنا أو هناك؟

يقول "هناك تفاعلات ديناميكية كثيرة تحدث في المجتمع المصري حالياً بين المعلن والخفي، بين البيت والمحمول، بين المدرسة والزاوية، وفي حلقات ذكر لا نعرف عنها شيئاً. هناك صراع قوي من أمثال التيجاني وغيره من الأحياء والأموات حول من يفوز في الصراع على المجتمع؟ من يستحوذ على الناس؟ ومن يتحكم في مصائرهم؟ والمشكلة أن كثيرين غارقون في الفلكلور والأفكار والمفاهيم التي تبطل إعمال العقل، هو انشغال أقرب ما يكون إلى تعاطي المواد المخدرة".

المواد المخدرة لا تستوي من دون دعابة حتى في أحلك الظروف، فقبل أسابيع اندلعت مواجهات في الفيليبين بين الشرطة وآلاف من أنصار شخص أطلق على نفسه اسم "ابن الرب"، وأسس لنفسه وأتباعه مجمعاً دينياً، وانخرط في اقتراف جرائم عدة، بينها الاتجار بالأطفال جنسياً.

اللافت أن أنصاره ومريديه حاولوا قدر المستطاع أن يحولوا بأجسادهم دون وصول الشرطة له، فهو مخلصهم ومنقذهم حتى لو كان مقترفاً لجرائم متحرشاً بالأطفال، ولذا بعض من المصريين أطلق على "الشيخ" بطل الحدث الجلل الآني "ابن الرب فرع إمبابة".

المزيد من تحقيقات ومطولات