Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشريح مصائر المصريين... فتاوى وغلاء وتريندات

أمام تخمة الـ"سوشيال ميديا" يسقط الملايين في فخ الإلهاء مع استخدام مكثف للدين

تجد مصريات أنفسهن أمام محاولات الدفاع عن حقوق أساسية كحقهن في العمل (مواقع التواصل)

ملخص

قبل عامين سخر البعض من إجازة مجمع اللغة العربية لكلمة "تريند" وهي المجازة بحكم استخدام الملايين آخرون زادت مخاوفهم من أثر الإجازة في وقوع مزيد من البشر بمن في ذلك أصحاب المهمات الروحانية مثل رجال الدين في قبضة جنون الـ"تريند".

قبل نحو عامين، سادت حال من الهرج والمرج حين أجاز مجمع اللغة العربية مجموعة من الكلمات "الجديدة" لتنضم إلى ثروة اللغة العربية. مضت الكلمات والعبارات المجازة مروراً عادياً على رغم أن عدداً منها مستخدم بين الملايين منذ أعوام طويلة، والبعض الآخر لم يفكر أحد مرتين قبل استخدامه في الحصول على رخصة أو إجازة.

إجازة الـ"تريند"

"دعامة طبية" و"وحدة وطنية" و"الشركة القابضة" و"المحور التنموي الثقافي" و"رقم الجلوس" و"الكمامة" و"الإجهاد المائي" و"شهيد الشهامة" و"تبطين الترعة" و"تجريف الأرض" وغيرها، لكن العيون والقلوب والعقول توقفت عند كلمة "تريند"، فقد أجازها المجمع بعد أكثر من عقدين على اعتبارها إحدى دعائم وأساسات الـ"سوشيال ميديا"، وبعد عقد أو أكثر من تحولها إلى غاية يجتهد للوصول إليها ملايين البشر، سعياً وراء كسب مادي أو انتشار شعبي أو كليهما.

البعض في مصر سخر من الإجازة وتساءل عن الفائدة منها والضرر من عدمها. والبعض الآخر زادت مخاوفه وتفاقمت وساوسه جراء أثر الإجازة في مزيد من الجنون، جنون الـ"تريند"، أو وقوع من يعتقد أن عملهم أسمى من الـ"تريند" في براثنه الجذابة وقبضته المثيرة.

اليوم، لم يكتف الـ"تريند" ببسط هيمنته وتوسيع سطوته، بل وجد البعض ممن كان يعتقد حتى الأمس القريب بأنهم بعيدون كل البعد عن تهييج الرأي العام أو إثارة النعرات أو دغدغة المشاعر لا يكتفون باللحاق به، بل يطاردونه حيناً ويصنعونه أحياناً، وفي الحالتين يفعلون ذلك باسم الدين وعلى حساب المتدينين دائماً.

الأيام القليلة الماضية شهدت هجمة فتاوى وآراء دينية ومواقف يقول عنها أصحابها إنها فقهية غمرت الأثير العنكبوتي، وهو الغمر "اللذيذ" القادر على تنجيم أشخاص بين يوم وليلة وبين فتوى وضحاها. إنه الـ"تريند" السهل من حيث خطوات التجهيز والإطلاق، الخطر بسبب ما يخلفه من آثار يسميها البعض تخلفاً وينعتها آخرون بالإلهاء أو التغييب.

نظرية غير مستجدة

ولأن نظرية الإلهاء والتغييب ليست مستجدة، ولأنه يعتقد بأنها استخدمت على مدار عقود سابقة، فإن ضلوع بعض من رجال الدين فيما يبدو أنه بصورة فردية في المنظومة، وبهذا الشكل "الحداثي" يعتبر حديثاً نسبياً.

كتب وقيل الكثير عن استغلال الدين ومؤسساته الرسمية في الدول باعتباره أداة من أدوات الحكم. على سبيل المثال لا الحصر، تحلل دراسة عنوانها "استخدام الدين في السياسة" للباحثين في جامعة حلوان المصرية، أحمد خميس ومحمد الطيار، استخدام الدين في الحياة السياسية بغية توجيه الرأي العام، لا سيما في المجتمعات العربية لما يثيره من قوة ردع أخلاقية كبرى تؤثر في سلوك المواطنين.

ويستخدم الدين من كافة الأطراف في هذه المجتمعات، وليس من قبل السلطة الحاكمة فقط، إذ تستخدمه قوى مجتمعية من أحزاب وجمعيات ومؤسسات دينية وجماعات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين والأحزاب السلفية وتلك القائمة على مرجعيات دينية. أما الأهداف فتراوح ما بين تبرير الطاعة للحاكم، أو دفع الجموع للثورة على الحاكم، أو تحقيق مصالح لهذه الجهات.

إلغاء العقل والتسليم للإلهاء

لكن أن تكون المصلحة "تريند" فهذا يطرح بعداً جديداً. ظن المصريون قبل أعوام أن فتاوى إرضاع الكبير وإرضاع الموظفة لزميل العمل حتى يكون عملهما معاً مقبولاً من وجهة نظر شرعية، ونكاح البهيمة وكذلك الزوجة الميتة نكاح الوداع، ومفاخذة الرضيعة، والزواج بابنة السبعة أو الثمانية أعوام وغيرها من غرائب الفتاوى وما يصفه البعض بـ"تلك التي تعكس هوساً مرضياً بالجنس"، هي أقصى درجات الغرابة وربما البشاعة، لكن هذه الأعوام، وإن كانت قليلة العدد، لكنها جاءت متخمة بالأحداث والحوادث التي دفعت بأعداد متزايدة من المصريين إلى خانة يختلف على تسميتها المحللون، كل بحسب توجهه الفكري والديني. البعض يسميها "مزيداً من الالتزام"، والبعض الآخر يراها "تطرفاً"، وفريق ثالث منزو يعتبرها "إلغاء للعقل وتسليماً للإلهاء".

المفكر الأميركي نعوم تشومسكي من أفضل من كتبوا في إستراتيجية الإلهاء. إنها العنصر الرئيس في عملية "الضبط الاجتماعي"، وتتمثل في تحويل انتباه الجمهور بعيداً من القضايا والتغيرات المهمة التي سماها بـ"الأجندات الخفية للتلاعب أو توجيه الشعوب عبر الإعلام، وإن كان ذلك قبل هيمنة الـ"سوشيال ميديا" ومزاحمتها الإعلام في القدرة على توجيه الرأي العام وتكوينه وإلهائه، لكن، تظل الإستراتيجية مستخدمة وسارية المفعول.

تقنية الفيضان المستمر

يتحدث تشومسكي عن تحويل دفة اهتمام الرأي العام بعيداً من الاهتمام بالقضايا والمتغيرات المهمة من طريق تقنية "الفيضان المستمر للإلهاءات والمعلومات غير المهمة". وينتج من هذه الطريقة أثراً "إيجابياً" لمن يتبنى الإلهاء، ألا وهو صرف انتباه الغالبية بعيداً من المعارف الأساسية في علوم الاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا والأحياء العصبية والتحكم الآلي وغيرها، وتخمتهم بمسائل لا أهمية حقيقية لها، فلا يتبق لديهم الوقت أو الجهد للبحث عن معارف أو فائدة حقيقية.

إستراتيجية أخرى من إستراتيجيات الضبط أو السيطرة الاجتماعية – بحسب تشومسكي – هي "خلق المشكلات ثم تقديم الحلول". وتعتمد هذه الإستراتيجية على اختلاف مشكلة، ثم توليد رد الفعل، يليها إيجاد الحل للمشكلة المخلقة من عدم.

وتقوم إستراتيجية ثالثة من سبل الإلهاء الكثيرة على "التأجيل"، وفيها تقدم سياسات وإجراءات باعتبارها موجعة وقاسية لكن ضرورية من أجل غد أفضل. نضحي اليوم، ويتعرض الكثير للذبح، من أجل أن يحيا الجميع غداً. ويجري تطبيق هذه السياسات تدرجاً بنظام "التنقيط" التدرجي حتى يعتادها الناس، مع زيادة جرعة الدعم النفسي (وفي مجتمعات معنية الديني) لتعضيد قدرة الناس على التحمل.

 

 

وهناك أيضاً إستراتيجية التحدث إلى الناس وكأنهم أطفال صغار أو معاقون ذهنياً، وحين يتكرر هذا الأسلوب، يعمد كثير إلى التصرف فعلياً وكأنهم أطفال أو مصابون بإعاقات ذهنية. وهناك كذلك الاعتماد على العاطفة لا المنطق في الحديث والشرح، وهو أسلوب كلاسيكي لإحداث "قفلة" في تيار الفهم، فيتعطل العقل وينشط القلب. وهذا النوع من الإلهاء لديه مفعول التنويم المغناطيسي، إذ تفتح أبواب اللاوعي ويصبح مستعداً لقيام آخرين بحفر وزراعة أفكار ورغبات ومخاوف وإكراهات، وكذلك حث سلوكيات بعينها.

أن تكون غبياً وفجاً

ويأتي ضمن هذه الإستراتيجيات كذلك تشجيع القاعدة العريضة من الناس على القبول بالأداءات المتوسطة وما دونها، وكذلك إقناعهم بأن الموضة هي أن تكون غبياً وفجاً وغير أو نصف متعلم.

وتأتي إستراتيجية تعزيز وبناء ثقافة لوم الذات على سوء الحال والفشل. يتحدث تشومسكي عن دور الإعلام أحياناً في تغذية عقول المتلقين بأنهم السبب في ما هم فيه من فقر أو سوء حظ أو فشل، وليس النظام الاقتصادي مثلاً. ومن الشعوب من يعتنق مبدأ الشعور بالذنب المزمن، فتجد لغة وثقافة طلب المغفرة والسماح والتوبة لرفع المقت جزءاً من لغته اليومية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شهد المصريون في عصور مضت، لا سيما أعوام حكم الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك "كوكتيل" مجمعاً من هذه الإستراتيجيات، التي تراوحت ما بين نيران فتنة طائفية، ومعارك حامية الوطيس بين مشجعي فرق كروية، وكذلك بدايات عصر الإغراق في تفريغ الدين من فحواه الحقيقية والإمعان في توافه الأمور، إذ ساد الحديث عن عذاب القبر وتصاعد التحذير من صوت المرأة ووجهها ويديها ووجودها في المجال العام، وهكذا.

ويبدو أن قطار تفريغ الدين من محتواه الأخلاقي والسلوكي الأصلي والتركيز على ما يدغدغ الغرائز ويثير الشهوات ومعها يهيمن على الاهتمام يصل مرحلة الذروة.

فقه النكاح بضاعتهم

الكاتب الصحافي المصري حمدي رزق، المعروف بدعمه الكامل للمؤسسات الدينية الرسمية من الأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، وكذلك الكنيسة الأرثوذكسية كتب قبل أيام تحت عنوان "زواج المساكنة: غرام السلفية بالفتاوى الجنسية"، "للأسف، نفر من المعممين العاملين بالفقه فضائياً وإلكترونياً منشغلون كلية بـفقه النكاح بضاعتهم، جرياً على أسلافهم، وكأن الدنيا خلت من الهموم الحياتية سوى الهموم الجنسية، ويشغلون الفضاء العام بفتاوى جد شاذة على الفطرة الإنسانية. بعض المشايخ الفضائيين يغبون من بئر الجنس، ويتجشؤون في وجوهنا، لا يخلو موقع إلكتروني من فتوى جنسية فجة نقلاً عن شيخ فضائي، ولا تخلو صحيفة من فتوى جنسية أو أكثر يقول بها أحد العلماء المعتمدين فتوياً".

ويرصد رزق تخمة الـ"سوشيال ميديا" والمواقع الخبرية بالفتاوى الجنسية، وهو ما يراه سبباً في صناعة حال من الهوس الجنسي المستنكر من قبل أصحاب الفطرة السوية، لكنه يضيف أن هذه البضاعة رائجة بين آخرين. يقول "هناك طلب عارم على الفتاوى الجنسية، تشوق وإلحاح وجوع غريزي للحكي الجنسي ملفوف بسوليفان فقهي. الطلب حاضر، والبضاعة حاضرة، والفتاوى دليفري بالخط الساخن. وإذا تعذر الطلب دليفري، فطلبك متوفر على البوابات الفقهية، تحديداً السلفية، التي لم تغادر هاجساً جنسياً إلا وأجابت عنه".

ويخلص رزق إلى القول إن "ما يقال هو أن هذه الفتاوى تشكل أخباراً جاذبة للمشاهدات الإلكترونية. وأحياناً، تضرب الفتوى وتصبح في غمضة عين "تريند". وهذا من قبيل الجذب الإلكتروني في زمن الجدب الصحافي".

هوس الجذب والجدب

وسواء كان الهوس الجاري جذباً إلكترونياً أو جدباً صحافياً أو كليهما، فإن شبهة الإلهاء تحوم في الأجواء. قبل أعوام قليلة، أشار الكاتب الصحافي الراحل محمد علي إبراهيم في كتاباته إلى من سماهم بـ"جنود الخفاء والعلن" الذين يعملون جاهدين على جذب المواطن المصري بعيداً من همومه ومشاغله ومستقبله عبر الإلهاء الذي ينجح في الاستخفاف بعقليات كثير.

كتب إبراهيم، "يعتمد الإلهاء على نفسيات الشعوب في الدول النامية أو المتقدمة. فالسياسة مثل الحب منها ما يقتل وما يحيي. التفاهة والهيافة لها أصحابها في كل مكان. وعلى رغم أن المصريين أذكياء، تنطلي اللعبة عليهم أحياناً. وعلى رغم أنهم أول من اخترعوا (بص العصفورة)، مصطلح مصري يعبر عن محاولة الإلهاء، وطوروها إلى (اشتغالة)، محاولة خداع، فإنهم حولوا ’فيسبوك‘ إلى منصة فضائح".

 

 

وأشار إبراهيم في مقاله الذي يعود إلى عام 2018 إلى أن الإلهاء بالدين مثله أيضاً مثل الإلهاء بالخرافات والأساطير. وتحدث عن وسيلة الإلهاء عبر تقديم معلومات مغلوطة وبطولات مزيفة، وذلك استناداً إلى نظرية "الشيخ والمريد"، وفيها يتخلى الطالب عن حقوقه إرضاء لشيخه، ويرضى طائعاً بتسليم عقله له، وتعطيل التساؤلات المنطقية تسليماً للغيبيات".

أثقال وأحمال وطماطم

اليوم، وعلى رغم الأثقال الكبيرة والأحمال الزائدة لأسعار الطماطم وشرائح الكهرباء ومصروفات المدارس، إلا أن حرباً دينية يتم تقديمها عبر الأثير بأنواعه ترتدي ثوب الدفاع عن دين الإسلام والذود عن المؤمنين المسلمين، وذلك لإبعاد الأخطار الهائلة والتهديدات الجسيمة المقبلة، لا من أتباع دين آخر أو كفار أو حتى من قبل غزاة أجانب أو محتلين أشرار، بل من قبل مؤمنين مسلمين ولكن يقولون عن أنفسهم إنهم نجوا من مس الهوس بالتدين المظهري والتشبث بالخرافات وإلغاء العقل وتقديس رجال الدين شرط الحصول على صك الإيمان.

قطط وبشر

على سبيل المثال في يم هائج من آلاف الأمثلة، خرج رجل دين يعرف نفسه "من علماء الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية" وتتكالب عليه الفضائيات ليدلو بدلوه في شؤون الفتاوى والمواعظ والأحكام، بل يقدم برنامجاً على شاشة إحداها قبل أيام ليعلن على الملأ أن المكان الطبيعي للقطط هو الشارع وليس البيوت، وأن الأموال التي ينفقها مربوها عليها حرام، والأولى بها البشر.

 

 

وبدلاً من أن يخضع الرجل للتأديب أو التقويم أو العقوبة أو الإيقاف من قبل الجهات التي يتبعها أو الشاشات التي تستضيفه، في الأقل لما تلحقه هذه النوعية من الخطاب من ضرر بالدين ومكانته وبالحضارة من تخلف وظلام وبرجال الدين من هالة قدسية يفترض أنه منهي عنها في صميم الدين الذي يتحدثون باسمه، سارعت دار الإفتاء المصرية لإصدار منشور لتأكيد أن تربية القطط حلال. وركضت وسائل الإعلام لتغطية المنشور باعتباره "رداً على فتوى الرجل"، مما أسهم في ترسيخ الرجل وغيره ممن يدأبون على الإغراق في فتاوى مثيرة للجدل ومدغدغة للمشاعر باعتباره في مكانة شبيهة بمكانة المؤسسات الدينية الرسمية. والنتيجة مزيد من الشعبية للرجل وغيره، وقدرة على السيطرة على عقول الناس وتوجيههم، إيجاباً أو سلباً، وإن كانت الأخيرة هي الغالب.

هدايا الداعية للبشر

تحريم تربية القطط لم تكن الفتوى الأولى الغريبة للشيخ المحبب للفضائيات، بل سبقها الكثير من تحريم الهدايا في فترة الخطوبة، وخروج المخطوبين معاً، وأن تنميص الحواجب مسموح به طالما لم يؤخذ شيء من الحاجب نفسه لأن الإسلام أمر المرأة أن تكون جميلة وإلا تزوج زوجها من غيرها، ووصفة جلب الزوج تتمثل في قيام المرأة الراغبة في الزواج بقراءة سورة ياسين سبعة جمع (أيام الجمعة) مع الصلاة على النبي العدنان 100 مرة وتقرأ سورة مريم وتستغفر 100 مرة وسيحضر العريس فوراً، وهي الوصفة التي قال إن "مشايخنا أفتوا بها وأثبتت جدوى"، وغيرها الكثير.

وعلى رغم أن معظم ما يقوله الرجل يذاع على قنوات تلفزيونية فضائية تدخل كل بيت، يحظى بحضور عنكبوتي كبير. من "فيسبوك" إلى "إنستغرام" و"يوتيوب"، يقدم الرجل محتوى بالغ الدسامة، إضافة إلى آلاف من مقاطع الفيديو التي تبثها القناة على الإنترنت لضمان أكبر عدد من المشاهدات والمتابعات، وحبذا صناعة الـ"تريندات". فمن هدية العمر، من قالها مرة واحدة يغفر الله له ذنوبه، إلى ثلاث هدايا من الشيخ إلى جموع المسلمين في وقفة عرفة تمحو الذنوب وتبيض الصفحات، إلى هدية منه أيضاً تفتح الأبواب وتصد الشرور، إلى هدية منه في اليوم المتمم لرمضان لا تتوقف الهدايا، ولا تتوقف قوة الانتشار، ولا تتوقف أيضاً إستراتيجية الإلهاء.

فاعل الإلهاء مبني للمجهول

وعلى رغم بقاء "الفاعل" في منظومة الإلهاء المصرية مبنياً للمجهول، فإن الإلهاء بصورته الحالية يأتي حاملاً معالم مختلفة وربما أهدافاً جديدة. يشعر كثير أن رحيل وزير الأوقاف السابق مختار جمعة عن منصبه وتعيين أسامة الأزهري وزيراً في التشكيل الحكومي الأحدث أعاد مياه وحدة المؤسسات الدينية الرسمية تحت مظلة الأزهر الشريف.

ويلمح خبثاء إلى أن الوزير السابق جمعة كان يركض من أجل تنفيذ ما طالب به الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مراراً، ألا وهو تجديد الخطاب الديني وتنقيته مما علق به من تشدد وتطرف وخرافة وكراهية للآخر وغيرها. وهو في ركضه هذا، ربما أصاب أو أخطأ، لكن يرى بعض أنه تصادم تصادماً مكتوماً مع مؤسسة الأزهر الشريف، وهي التي أبدت قدراً أكبر من التحفظ والتمهل، وفي أقوال أخرى الممانعة والمقاومة.

ثوابت لا تقبل التجديد

وكان عام 2015 ذروة تسليط الضوء على هذا الخلاف أو الاختلاف إذ نظمت الجهتان، الأزهر والأوقاف، مؤتمرات فردية، والتقتا كل على حدة بمثقفين ومفكرين للخروج بتصورين مختلفين عن تجديد الخطاب، وأصدرتا وثيقتين مختلفتين في هذا الشأن. ولعل ما صرح به وكيل الأزهر السابق عباس شومان في ذلك العام وفي خضم تصاعد الحديث عن خلافات المؤسسات الدينية الرسمية حول معنى التجديد وقواعده وحدوده هو الأكثر كشفاً عن موقف الأزهر حينئذ، وربما حتى اللحظة. إذ قال تعليقاً على سؤال وجه له حول حقيقة وجود اختلاف بين الأزهر ووزارة الأوقاف في هذا الشأن، "تجديد الخطاب الديني ضرورة شرعية، ولكن الذي نبحث عنه في التجديد هو الأمور التي تقبل التجديد في الأساس، لأن هناك ثوابت في العقيدة لا تقبل التجديد أو التغيير". وثارت نقاشات ساخنة حول ما هي الثوابت، وما هي غير الثوابت؟ لكن النقاش توقف في المكان الذي بدأ فيه.

 

 

يشار إلى أن شومان دارت حوله تساؤلات كثيرة قبل أعوام بسبب ما أشيع عن موقفه من جماعات الإسلام السياسي، لدرجة أن الكاتب الصحافي دندراوي الهواري وصفه في مقال عام 2015 بأنه (شومان) "الرقم الصحيح والفاعل في معادلة أخونة الأزهر".

صياغة وصناعة وتوجيه

وتبقى المؤسسات الدينية الرسمية في مصر صاحبة قدرة فائقة على صياغة وصناعة وتوجيه الرأي العام، بين شعب يحب أن يعرف نفسه بأنه "متدين بالفطرة". حالة من التواؤم والتناغم لا تخطئها عين أو تفوت عن قلم صحافي بين المؤسسات الدينية الرسمية حالياً، في ظل التشكيل الحكومي الجديد. وهي في هذا التناغم تظهر أمارات كذلك على التقدم بثقة نحو مشاركة بقية المؤسسات والوزارات في إدارة شؤون الدولة ورعاية أمور المواطنين.

وتحظى هذه المؤسسات لدى بعض من المصريين بميزة إضافية تميزها على بقية مؤسسات الحكم، ألا وهي القبول. فإذا كانت الوزارات والمجالس النيابية تتلقى لوم زيادة الأسعار وحوادث الطرق وتردي التعليم ونقص الدواء واختفاء السكر واحتكار البيض، فإن المؤسسات الدينية تقوم بمهمة التخفيف عن كواهل الناس.

بين علاج رباني للسلامة من نوبات الهلع والجزع، والعلامات التي تدل على حب الله لعبده، وذكر يردده العبد 40 يوماً يذهب المرض ويعجل بالشفاء، وأن الدعاء هو كتالوج علاج الفقر والشقاء والمعاصي، ودعاء من 36 كلمة يضمن النجاح طلاب الثانوية العامة، وكيف أن أيام الفقر تدعو لعزة النفس والثقة في الله، وكيف اعتبر النبي محمد الفقراء سادة الناس وغيرها كثير والكثير، يمتلئ الأثير بكل أنواع الفيتامينات الروحانية التي تقوي المناعة وتشد الأزر وترمم الهمة. وهو امتلاء يومي، لا تخلو منه شاشة تلفزيون أو موقع خبري أو صحيفة. وبالطبع يغمر هذا المحتوى أثير الـ"سوشيال ميديا"، سواء المنسوب لرجال ونساء دين تابعين للمؤسسات الدينية الرسمية، أو عصاميين بنوا سمعتهم الدينية بمجهود شخصي، ونصبوا أنفسهم مرجعيات دينية، ومنهم من حاز  متابعات بالملايين وصنع "ترينداً" يحقق الملايين أيضاً.

السرقة تجوز

"تريند" جواز سرقة الماء والكهرباء والغاز شرعاً جمع بين وجه من وجوه تفسير الدين التي يحتكرها كثيرون في هذا الأوان، مع توليفة معتبرة من توابل الإثارة وعوامل الجذب، لكن الأهم أنه حمل علامة تنذر بانفجار استراتيجية الإلهاء الديني في وجوه الجميع، بمن في ذلك الدولة ومؤسساتها.

خرج أستاذ العقيدة والفلسفة في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر الشريف إمام رمضان عبر قناته على "يوتيوب" ليقول إنه سيدلي بفتوى على الملأ وإنه مسؤول عنها تماماً. وبعد ما قال، "اللي (من) يقدر يسرق الكهرباء يسرق، اللي يقدر يسرق المياه يسرق، اللي يقدر يسرق الغاز يسرق. نحن نسرق من سرقونا"، وعضد فتواه التي أعجبت البعض بآيات من القرآن الكريم، ثم كلل فتواه باتهامات للحكومة "بالسرقة وإذلال الشعب ورفع الأسعار بنسب تصل إلى ألف في المئة، حتى أصبح الشعب يتضور جوعاً"، على حد قوله.

وبعيداً من أن الأزهر أحال أستاذ العقيدة رمضان للتحقيق وليس الرفت حفاظاً على العقيدة، إذ تسببت الفتوى ليس فقط في إلهاء الناس بعيداً من سعر الطماطم ومصير البيض و"سبلايز" (مستلزمات) المدرسة، بل في محادثات حامية قوامها، هل سرقة الحكومة حلال أم حرام؟

إلهاء جديد

ولم يخفف من نبرة النقاش المحتدم سوى خروج جيوش النقاش وميليشيات التأييد ومجموعات الرفض إلى إلهاء جديد. هذه المرة، اشتعل الأثير بصورتين، الأولى تحوي جملة قالها داعية إسلامي دائم الظهور على الفضائيات أيضاً قوامها أن من لا يفهم أن الحجاب فرض، فإن لديه مشكلة، وفي الأخرى فرح ابنته غير المحجبة. هذه المرة، انتفض زملاء الداعية مدافعين عن حرية الاختيار وديمقراطية الشيخ في بيته، ليشتعل الأثير أكثر ويتفجر النقاش الذي لم يهدئه سوى ظهور جديد لعبدالله رشدي الشيخ المنتمي تارة لوزارة الأوقاف كخطيب وإمام وأخرى إلى الأزهر الشريف وثالثة كباحث في شؤون الأديان، ودائماً "إنفلونسر" ديني عبر الأثير يحظى بميليشيات تدافع عنه وألتراس مهمتهم طعن المنتقدين والمشككين فيه معنوياً ولفظياً.

تدليك أكتاف المدير

رسم كاريكاتيري نشره رشدي على الـ"سوشيال ميديا" لامرأة تدلك أكتاف زميلها في العمل لتخفيف الضغط عنه، وفي البيت "تتحجج" بأنها مرهقة "هرباً" من العلاقة مع زوجها، ومعه تغريدة تقول، "بئست المرأة التي تصنع كما ترون. تجعل عملها والتزلف لمديرها أهم من طاعة زوجها أولاً، ثم العمل عاشراً، وبإذن زوجها أيضاً، ومع مراعاة ضوابط الشرع في الاختلاط والملابس".

حققت التغريدة هدف الـ"تريند"، وأبقت عليه في المقدمة المنازلات المتوقعة بين نساء معيلات ينفقن على أزواجهن العاطلين أو المرضى أو الكسالى وبقية أفراد الأسرة وآخرين يرون ما هو أبعد من شبح العلاقات الجنسية في العمل معتبرين المرأة إنساناً كامل الأهلية قادرة من جهة، وبين ألتراس رشدي.

 

 

في تلك الأثناء، كان المواطنون يتوجهون لشحن بطاقات الكهرباء ليجدوا "مديونيات" متراكمة عليهم من دون سابق إنذار، ويفاجؤون بمضاعفة مصروفات مدارس الأبناء، ويصدمون بكسر الطماطم (البندورة) حاجز الـ30 جنيهاً للكيلوغرام، وعودة التضخم في أغسطس (آب) للارتفاع مجدداً، وارتفاع أسعار نحو 20 في المئة من الأدوية واستمرار اختفاء بعضها، ومناقشة قانون جديد للإجراءات الجنائية يرفع راية "الحبس للجميع، الشاكي والمشكو في حقه، والمحامي"، على حد القول الساخر للمحامية والناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان ومنظومة التربية والتعليم في حال لا تحسد عليه، وذلك ضمن تفاصيل حياتية أخرى للمواطنين.

اللافت أن المواطن يعود إلى بيته بعد التعرض اليومي لهذه التفاصيل المنهكة والمنغصة، ليتفرغ لحروب هامشية. يبحث بكل همة ونشاط عن "تريند" اليوم. يتقفى أثره، يبحث عن الأطراف الضالعة، من الضارب ومن المضروب، من الشاتم ومن المشتوم، من المفتري ومن المفترى عليه، من المفتي ومن المفتى عليه؟

سمها إلهاء أو أطلق عليها هرباً أو تعامل معها باعتبارها ترفيهاً، لكنها تظل حروباً أو جهوداً أو آثاراً جانبية مقصودة أو غير مقصودة يغلب عليها طابع التدين والتدين وترفع شعار "لمن التريند اليوم؟".

الطريف أن أصواتاً بدت عاقلة للوهلة الأولى بدأت تناقش جنون الـ"تريند"، وآثاره المدمرة على عقل المصريين ووعيهم. وبينما النقاش المستنير الهادئ المنفتح يمضي قدماً، إذ بإحداهن تطالب بعصبية أن تصدر دار الإفتاء فتوى تحرم المحتوى العنكبوتي "غير اللائق" الذي يصنعه مؤثرون ومستخدمون بهدف صناعة الـ"تريند"، وذلك حماية للوعي وحفاظاً على الأخلاق.

هنا، كاد تريند جديد يخرج إلى النور، وهو "تحريم التريند". هل ينضبط المحتوى بالفتوى والتحريم أم بالتنوير والتعليم؟ المشكلة أن السؤال ربما يحتاج إلى فتوى لمعرفة الإجابة.

المزيد من تحقيقات ومطولات